والخطوة الأولى في طريق هذه الإجابة البسيطة الميسرة هي أن أطلب إليهم أن يتجاهلوا - مؤقتا - كلمة «فلسفة»، وكأنها سقطت من معاجم اللغة ومحيت من اللغة محوا، حتى لا يشغلوا أنفسهم بلفظة، وسأبدأ حديثي معهم بعرض أفكار معينة، واتجاهات واهتمامات في حياة الناس، وحتى إذا أقروا أنها أشياء لا يستغني عنها الناس في تلك الحياة، ذكرت لهم عندئذ، وعندئذ فقط، أن تلك الأفكار والاتجاهات والاهتمامات هي بعض ما نطلق عليه اسم «الفلسفة». ولست أنا أول من استخدم مثل هذا المدخل إلى موضوع الحديث، فلقد لجأ إلى مثله ذلك المعلم الذي جاء به «مسيو جوردان» (في مسرحية موليير) ليعلمه شيئا عن الأدب، فلما بدأ المعلم بتقسيم الأدب إلى شعر ونثر، وشرح له «النثر» شرحا سهلا بسيطا، قال له جوردان وهو في عجب مما يسمعه: إذا كان النثر كلاما كهذا الكلام الذي نديره الآن بيننا، فهل كنت منذ أول حياتي أتكلم «نثرا» وأنا لا أدري أنه كذلك؟
بل ليست هذه أول مرة أستخدم فيها هذا المدخل إلى الحديث، فقد حدث لي ذات يوم - وكان على وجه التحديد يوما من ربيع سنة 1954م - إذ كنت يومئذ في أمريكا أستاذا زائرا في إحدى جامعاتها، حدث لي أن دعيت إلى ندوة خاصة عقدها أستاذ للفلسفة قديم، جاوز الثمانين من عمره وتقاعد، لكنه لم يكف عن مواصلة نشاطه العلمي في بيته، فيدعو إليه آنا بعد آن جماعة من صفوة العلماء والمثقفين، ويدعو معهم زائرا ليتحدث إليهم في موضوع يختاره لهم. ولقد كنت أنا في ذلك اليوم هو من دعاه ليتحدث، وكان الموضوع الذي اختاره للحديث هو «الإسلام»! ولقد كنت على علم بمدى ما يعرفونه عن الإسلام، وكم هو يوشك أن يكون عدما أو كالعدم، لا بل إنني كذلك كنت على علم تام بأن جهلهم بالإسلام مقرون في أنفسهم بشعور يميل بهم نحو الحكم الظالم، ويكفيه ظلما أنه حكم على عقيدة لا يعلمون عنها شيئا.
فبدأت حديثي وكأنني سأتحدث عن شيء آخر غير ما دعيت للحديث فيه. وأخذت أرسم لهم صورة ثقافية حضارية نتمنى جميعا أن تتجه الإنسانية إلى تحقيقها. فما هي صورة الإنسان الفرد كما نريد له جميعا أن يكون؟ وما هي صورة الروابط التي نتمنى جميعا أن تربط الأفراد في مجتمع ؟ وهكذا مضيت في حديثي معهم، وكان موضوعنا هو مستقبل الإنسان ومستقبل الثقافة ومستقبل الحضارة، حتى إذا ما بلغت بحديثي حدا ظفر منهم بالموافقة والرضا، قلت لهم: لكن هذه الصورة التي رسمتها لكم أيها السيدات والسادة هي صورة الإسلام!
فقال أحدهم قولا شديد الشبه بما قاله مسيو جوردان لمعلمه في مسرحية موليير قال: أكنا إذن طوال زماننا مسلمين ونحن لا ندري؟ وهنا تذكرت ما كان الإمام محمد عبده قد قاله عندما زار إنجلترا، ورأى سلوك الناس هناك في معاملاتهم: جئت إلى إنجلترا لأرى إسلاما بغير مسلمين، وتركت في مصر مسلمين بغير إسلام.
وعلى هذا النهج نفسه سأوجه حديثي إلى من يظن أن الفلسفة قد ذهبت وذهب زمانها، وأنها لغو فارغ، فأقول: امح يا صاحبي من رأسك هذه اللفظة الكريهة، وتعال معي نتكلم فيما هو أهم، بادئين حوارنا بمعنى «الديمقراطية» التي نريد جميعا أن نحياها بالطول والعرض والعمق. إننا نريد للديمقراطية أن تكون أسلوب حكم وطريقة حياة، وما أكثر ما نسمع القادة وهم يطلبون منا «ممارسة» الديمقراطية في حياتنا بشتى جوانبها، ويطلبون منا «ترسيخ» الديمقراطية في نفوسنا، و«تعميقها» في صدورنا إلى آخر ما يرددونه قولا وكتابة كلما أصبح لهم صباح وأمسى بهم مساء، أليس كذلك؟ - نعم هو كذلك!
وإذا لم تضللني الذاكرة، فإني أذكر فيما كنا نسميه بالميثاق خلال الستينيات، صورة جميلة أشبه بالصور الأدبية على أقلام الأدباء، وهي صورة تجعل الديمقراطية وكأنها طائر ذو جناحين، وذانك الجناحان هما «الحرية» من جانب و«العدالة» من الجانب الآخر. نعم كان الأمر كذلك.
ولكني أسألكم يا إخواني سؤالين، عن هذه المعاني الثلاثة التي جسدت نفسها في طائر بجناحيه والتي جعلناها، أو قل هي التي نتمنى في المستقبل البعيد أو القريب أن نجعلها محورا لحياتنا. وأما السؤالان فهما: أولا: ترى من الذي قذف في رءوس الناس بهذه الأفكار الثلاثة حتى اعتنقوها وآمنوا بها، وجعلوها أملا يريدون له أن يتحقق في حياتهم؟ أكان الذي أبدع هذا الطائر الجميل بجناحيه عالما من علماء الكيمياء، أم كان من علماء الفيزياء؟ أكان زارعا للأرض أم كان ممن يعملون في المصانع؟ أكان من العاملين في القطاع العام أو كان من العاملين في القطاع الخاص؟
وأما السؤال الثاني فهو: هل ترون أن تلك المعاني الثلاثة - على أهميتها التي رأيناها - مفهومة لنا أدق الفهم وأوضحه؟ وإذا كانت مفهومة لنا مثل هذا الفهم الدقيق الواضح، فلماذا نغير في شرحها وتفسيرها كل يوم، بحيث تبدو وكأنها معان هلامية مضطرمة في أذهاننا؟ وإذا لم تكن مفهومة لنا، فلمن نلجأ يا ترى لنلتمس عنده الشرح والتوضيح؟
الحق أننا لا ندري، فلا نحن نعرف أي علم من العلوم هو الذي أفرز لنا تلك المعاني الثلاثة، ولا نحن نعرف إلى أي ضرب من ضروب البشر نلجأ للشرح والتوضيح.
إذن فاستمعوا إلي لأدلكم بقدر ما يسمح لي بذلك علمي الضئيل، ووالله لا أقولها متواضعا، وإنما هي الحقيقة العارية أنه علم ضئيل، وليس الأمر فيما سوف أقوله لكم مقصورا على تلك المعاني الثلاثة التي ذكرناها - الديمقراطية والحرية والعدالة - بل هو كذلك يشمل عشرات من المعاني الأخرى التي هي المحاور الرئيسية في حياتنا، فأما التربة التي أنبتت هاتيك الزهرات اليوانع كلها، فهي ما نطلق عليه اسم الفلسفة، وأما الرجل الذي يمكن أن يعين على تحليل تلك المعاني الشريفة كلها ليبسط لنا فحواها ومعناها، فهو الذي نسميه باسم الفيلسوف.
Bilinmeyen sayfa