بيد أن هيلانيا مقاحما، هيلانيا واحدا من خيرة القادة ومذاويدهم عز عليه ألا يكون في هذا الجيش العرمرم على ما جمع من صناديد اليونان ومغاويرهم، فدائي واحد يتلقى الطعنة الأولى النجلاء بثغر باسم وقلب لا يجزع، ونفس مؤمنة مطمئنة لا تهلع في موقف الموت ولا تفرق إذا حم القضاء.
كبر على بروتسيلوس أن يرمى قومه بجبن ليست لهم يد فيه، وكبر عليه أن يقف ألف ألف لو شاءوا لدكوا الجبال وزلزلوا السموات من دون هذا البلد لا يتقدمون ولا يتأخرون كأنما حربهم هزل، ونفيرهم مكاء وعزمهم تلفيق. أو كأنما ملئوا الدنيا وعيدا لتمتلئ الدنيا عليهم سخرية وضحكا!
كبر على بروتسيلوس ألا يكون هو شهيد هذا الموقف فارتخص نفسه وهانت عليه الحياة، وتفهت في عينيه لذائذ هذا العيش الذليل، ثم استخار أربابه واستعاذ بسيد الأولمب، وما هو إلا أن لمح الشمس يذر قرنها في خدر الشرق فوق جبين طروادة حتى قذف بنفسه على الشاطئ، وأرسل في الخافقين صيحة الحرب كأنها رعد يميد به جانب الجبل وتهتز من قصفه أسوار المدينة؛ ثم جال جولة هنا وجولة هناك، وإذا بالسهام ترشقه من كل مكان، وإذا هو ملقى على أديم الثرى مضرجا بدمه معفر الجبين بأول نقع هذه الحرب. •••
وذاع خبر مقتله حتى انتهى إلى تساليا حيث زوجته المفجعة، فحزنت عليه حزنا أمض قلبها وشف جسمها وأقض مضجعها وصير الحياة في عينيها حلكا شديدا وظلاما قاتما، «بروتسيلوس! أهكذا يا حبيبي ذكرت كل شيء في ميدان المجد والشرف ونسيت فيه كل شيء؟ أهكذا يا حبيبي ذكرت التضحية والإقدام حيث تخاذل مواطنوك عن مواطن التضحية والإقدام فغامرت بنفسك في هذا المعترك المضطرب، ونسيت أن وراءك قلبا ينعقد رجاؤه بك، ونفسا ترف من خلف البحار فوقك، وروحا لا سكن لها إلا صدرك الحنون، وعينين لا تعرفان جمال الحياة إلا في وجهك المشرق، وأذنين ما التذتا إلا الموسيقى المنسكبة من فمك! بروتسيلوس! ما قيمة الحياة بعدك يا حبيبي؟! من لزوجتك التاعسة يوم يفخر النساء بأزواجهن؟ من للمحزونة الكاسفة لاءوداميا؟ ما أشق الحياة علي بعدك يا رجلي ومن كنت كل شيء لي!
لا أسخط عليكم يا أربابي.
بل أنا أصلي لكم، أصلي لكم بدموعي وقلبي، أصلي لكم بأحشائي التي تتمزق، ورأسي الذي يحترق! أصلي لكم بلساني الذي يجف من شرق في حلقي، وكان حديث بروتسيلوس يرطبه وينديه! أصلي لكم يا أرباب الأولمب عسى أن تلين قلوبكم لي فأرى حبيبي وأموت!
رجية يسيرة على مقدرتكم يا أرباب الأولمب! إما أن أقضي فأستريح من هذا الكمد الممض والبث المؤلم، وإما أن تأذنوا فيعود بروتسيلوس، فأراه وأموت!
أتمنى عليكم أن يعود فأكلمه، أملأ أذني وقلبي من موسيقاه، أناديه باسمه ويناديني باسمي، يعانقني وأعانقه، يرى إلى عبراتي وأنظر إلى عبراته! يبتسم لي في رضاه وفرحه، وأبتسم له في انكساري ولوعتي!
ائذنوا يا أرباب الألمب، فأنا ما أفتأ أصلي لكم، وأتوسل إليكم بدمه الزكي وروحه الأبي وقلبه الكبير!
ارحموا ذلي ورقوا لهواني وارثوا لحالي!» •••
Bilinmeyen sayfa