لم يشأ أوليسيز أن يقامر بسعادته وحياته في هذه الحرب إذن، ولو كان في ذلك - كله أو بعضه - الحنث العظيم، فما يمين شرف هذه التي يتمسك بها ملك كبير كملك إيثاكا من أجل امرأة ليس لها شرف؟
ليقعد إذن عن هذه الحرب، وليصم أذنيه دون صيحتها الكبرى، فإذا ألح عليه الملحون فليتظاهر بأنه مجنون مأفون، لا تهديه مسكة من عقل ولا ترشده أثارة من تفكير.
أرسلوا إليه رسولهم السياسي الكبير بالاميدز يحضه على الحرب ويذكره بيمينه التي آلاها ويحرضه على «الطرواديين اللؤماء الذين يوشكون أن يفضحوا الهيلانيين في أعراضهم»، ولكنه ألفاه يحرث شاطئ البحر بمحراث هائل يجره ثور ذو خوار، وحصان عربي أصيل! - «عم صباحا أيها الملك.» - «...! ...» - «ماذا يصنع مولاي؟» - «أحرث هذا الحقل الخصيب!» - «أي حقل؟» - «الحقل الذي ترى، أليس لك عينان تسمع بهما، وأذنان تريان ما أفعل؟» - «عينان تسمعان وأذنان تريان؟» - «اذهب، لا تشغلني، أريد أن أبذر حقلي هذا الصباح.» - «وماذا عساك أن تبذر أيها الملك؟» - «لست ملكا فلا تهزأ بي، نحن الفلاحين نطعمكم ونسمنكم ثم يكون جزاؤنا أن تسخروا بنا، اذهب ، اذهب.» - «وماذا عسيت أن تزرع؟» - «سأزرع ملحا.» - «تزرع ملحا؟! وتحصد ماذا؟» - «أزرع ملحا وأحصد ... سمكا ... ها ها ... لا لا ... سأحصد باذنجانا ... ولكن لماذا تقف هكذا قريبا مني؟ لماذا لا تذهب؟» - «ألا تعرفني يا مولاي؟» - «أرجوك! أنا لست مولاك ولا مولى أحد! اذهب ودعني أشتغل.» - «أنا بالاميدز يا مولاي! وا أسفاه! إن هيلاس كلها تنتظرك ليومها المشهود!» - «تنتظرني؟ إنها لا بد جائعة يا بالا، يا باما، يا بالاديز.» - «لست بالاديز يا مولاي، أنا بالاميدز.» - «بالاميدز! هذا عجيب! تعال إذن فاعمل معي ... سأسأ
3 ...» - «الحرب يا مولاي، الأساطيل في أوليس.» - «أي حرب وأي أساطيل يا رجل؟» - «سنحارب طروادة!» - «ولم لم تذهبوا بعد؟» - «نريد أن تكون معنا، فالكل يهتف بك ويدعوك.» - «أنا؟ يدعوني أنا؟ أنت يا رجل لا تريد أن أزرع هذا الحقل ملحا، وماذا أصنع في الحرب؟ هل أخبروك أنني فارس؟ اذهب، اذهب، سأسأ، سأسأ.» - «ألا تعرف من أنت يا مولاي؟» - «وهل تعرف أنت من أنت؟» - «أنا بالاميدز، وأنت؟» - «أنا؟ أتريد أن أرسل اسمي إلى الميدان؟ أتتركني بغير اسم يا رجل؟» •••
لم يستطع بالاميدز أن يفوز من أوليسيز بطائل، فقد مثل ملك إيثاكا دور المجنون تمثيلا متقنا يحاول أن يفلت من هذه الحرب التي لا شاة له فيها ولا جمل، والتي قد يقتل فيها أو يؤسر من أجل زوجة خائنة لا شرف لها ولا عرض. بيد أن بالاميدز لم ييأس حين رأى ما شدهه من جنون الملك، فإن وسواسا وقر في قلبه أن هذا البله قد يكون تبالها، وأن ما بالملك من مس إن هو إلا حيلة يحاول أن يفلت بها من أرزاء الحرب وأهوالها، ثم هو حيلة كذلك للتحلل من اليمين التي أقسمها عشاق هيلين.
لذلك لجأ بالاميدز إلى الحيلة هو الآخر فانقطع أياما ظل يرقب الملك فيها عن كثب بحيث لا يراه أوليسيز، ولكن الجواسيس كانت تحمل أخبار السياسي الداهية أولا فأولا إلى رئيس البلاط، وهذا يحملها بدوره إلى مولاه الذي يفطن إلى مكر بالاميدز فيبالغ في ادعاء الجنون، وينزل إلى البحر يحرث موجه بعد إذ فرغ من حرث شاطئه.
ويسقط في يد بالاميدز فيطلق آخر سهم في كنانته.
ذلك أنه تحايل فسرق تليماخوس الصغير، ولي عهد أوليسيز، والأعز عليه من نفسه ومن الدنيا وما فيها، سرقه فذهب به إلى حيث والده يحرث الشاطئ ويحرث البحر، فطفق يضع الغلام أمام المحراث ليرى ما يكون من جنون الملك، هل يقتل ابنه ويكون بذلك مجنونا حقا، أو يتفاداه ويكون جنونه محض ادعاء وبلهه تلفيقا في تلفيق؟!
ولكن الملك كان أحرص على ولي عهده وقرة عينه من أن تتم فيه حيلة بالاميدز الداهية، فكان كلما تعرض ابنه لخطر الموت لوى عنان الثور، وذاد الفرس متفاديا الطفل إلى الناحية التي لا يكون عليه فيها خطر.
فتضاحك بالاميدز وفضح جنون الملك، وأخجل حيلته، ثم لم يزل به حاضا محرضا حتى أقنعه بوجوب خوض هذه الحرب مع إخوانه الهيلانيين. •••
Bilinmeyen sayfa