أخيل، لب ندائي أيها الزعيم الباسل، لب نداء هذا الشيخ الضعيف، وارحم فيه هذا الذل الذي حمله إليك، وأسعده بتقبل هذه الهدية التي أمرت بها السماء ... وإن تكن يا أشجع المحاربين في غناء عنها ولا حاجة بك إليها ...»
وأحس أخيل كأنما تخاطبه السماء كلها بلسان هذا الشيخ المتهدم، وكأنما الآلهة جميعا تنطلق من فمه لتكون بيانا ورحمة في قلبه، فأنهضه من بين يديه، وأجلسه إلى جانبه فوق أريكته، ثم أخذا معا في بكاء حار طويل.
وتقبل أخيل هدايا الملك، وأشار إلى أوتوميدون وزميله فأخذاها إلى الأسطول، ثم أمر الخادمات فغسلن هكتور بالماء الساخن المعطر بدهن الورد، ولففنه في مدارج بأكملها من كتان مصر، وتقدم هو فوضعه على وسادة الموت، وأشار إلى جنوده فرفعوه إلى إرانه، ثم أخذ يهون على بريام ويواسيه، ودعاه إلى تناول العشاء معه، فلبى الشيخ وهو يعول ويبكي بكاء يفتت الأكباد ويذيب نياط القلوب.
وكان الليل قد انتصف أو كاد، وكان بريام الملك قد لبث الليالي الطوال يتفجع على ولده، ولا يذوق جفنه طعم الكرى، فأحس بعد العشاء بإعياء وجهد، وميل شديد إلى النوم، فصفت له ولرجاله وسائد فاخرة، عليها طنافس وملاءات من الهند، واستأذن أخيل، فاستلقى على متكئه، وقبل أن يسلم عينيه للكرى، سأله أخيل أن تكون هدنة بين الجيشين المتحاربين حتى تؤدى كل الطقوس اللازمة لتحريق هكتور؛ واتفقا على أن تكون هذه الهدنة لمدة أحد عشر يوما.
وفي الهزيع الأخير من الليل، أقبل هرمز الكريم فأيقظ بريام الملك، ونبهه إلى الخطر الذي يحيق به إذا أشرقت الشمس وأقبل أجاممنون وسائر القادة الهيلانيين، ورأوا كبير أعدائهم وصاحب إليوم في معسكر أخيل، هنالك يحجزونه لديهم رهينة حتى تسلم مدينته، «فهلم أيها الملك وانج بنفسك، وسأقودك إلى طروادة بحيث لا يشعر بك أحد ولا يحس الميرميدون لركبك ركزا ...»
ويسير الركب في هدأة الفجر، ويحدو هرمز القافلة حتى تكون لدى البوابة الإسكائية الكبرى، فيسلم على الملك ويبارك الميت، ويعرج في السماء، وتكون كاسندرا، ابنة بريام الكبرى، أول من يلمح الركب مقبلا، فتبشر الأهالي المحزونين، ويرتفع اللغط، وتشتد الضوضاء، ويتكبكب المواطنون حول العربة التي تحمل الإران حتى ليتعذر السير، ويبطئ السعي، فيصيح الملك بالملأ، فتنفرج الطريق، ويعم الصمت، ولا يحس إلا وجيب القلوب وخفقانها.
وتقبل أندروماك فتذري دموعها، وتندب حظها، وتبكي زوجها، وتمزق قلوب الطرواديين بما يذيبها من أسى وحزن، ووجد وكمد ...
وأم هكتور! ... ويا لمصاب الأمهات في فلذات أكبادهن، وأعز الأبناء عليهن!
وهيلين! والعجيب أن تبكي هيلين هي الأخرى! هيلين الآبقة، هيلين الأثيمة! •••
ويأمر الملك فينتشر الجند يجمعون الوقود من كل فج حتى تكون كومة عالية؛ ويوضع الجثمان المبكى فوقها، وتصب الخمر تحية لإله الموت وتكرمة، وتشتعل النار فتكون ضراما.
Bilinmeyen sayfa