أما الطائر الميمون فقد انتفض انتفاضة هائلة، وراح يحلق فوق طروادة، ثم غاب عن الأبصار، إلى أين؟ إلى حيث لا يدري أحد!
وتهادى الركب، وانطلق إيديوس يحدوه، حتى كان عند مقبرة إليوس الأكبر، وحتى كانت طروادة الخالدة وراءهم حالمة في غبشة المساء ساهمة مستسلمة، كالفكرة الشاردة في دماغ الشاعر الغرير.
وغابت الشمس في مياه الهلسبنت، واختلط البنفسج الشاحب بسواد الليل، ونقت ضفادع الأبالسة في فضاء البرية، فملأت القلوب وحشة، وأرسلت في المفاصل رعدة، فلم يكن بد من أن ينيخ القوم حتى يأذن القضاء بالرحيل.
وفيما كان إيديوس يسقي الدواب من الغدير النائم في كلة الغسق، إذا شاب يافع يقبل نحوه ويسأل عن الملك، ويكون بين يديه بعد لحظات، ويسأله الملك عن شأنه فيحدث أنه جندي آبق من جنود أخيل، وأنه ينصح للملك ألا يجازف بنفسه وبما يحمل من اللهى والعطايا في هذه الرحلة المهلكة التي قد تنتهي بما لا يدور للملك في خلد، أو يقع له بحسبان؛ ولكن الملك يبدي تصميمه، ويلح في سؤال الشاب عن هكتور ... «ألا يزال مسجى بين يدي أخيل يشفي بمرآه حرده، أم هو قد أسلمه للسباع وجوارح الطير تنوشه وتتغذى به؟» ويطمئنه الشاب اللعاب الداهية، ثم يرثي له فيعده أن يكون قائده إلى فسطاط أخيل، «لأن أحدا من الناس لا يستطيع أن يخترق صفوف الميرميدون الدواهي ما لم يكن مخاطرا بنفسه أو ملقيا بيديه إلى التهلكة.» ويستسلم الملك الشيخ، ويلقي في يدي الجندي الشاب بزمامه، ويأذن له فيمتطي الجواد الأمامي الذي يتقدم سائر الدواب؛ وتبدأ الرحلة إلى مرابض الميرميدون.
ويتحدث الشاب إلى الملك، ويتحدث الملك إلى الشاب، حتى إذا كانا قيد خطوات من معسكر أخيل، مد الشاب ذراعيه المفتولتين ولفهما حول جذع الملك، ثم رقاه رقية قصيرة، فإذا سأله الملك عما يبتغي بها أنبأه، «كي لا تمتد إليك عين ولا يلمحك أحد، ولا يحس بمسرانا أي من أولئك الميرميدون.» فيسكن جأش بريام الشيخ، ويطمئن قلبه وتتضاعف ثقته في الجندي الشاب.
ويكون فسطاط أخيل تلقاءهما!
فينهض الشاب من جانب الملك، ثم ينتفض انتفاضة تكشف عن حقيقته، ويقول ضاحكا: «أيها الملك أنت الآن في جوار أخيل، وعليك أن تلقاه في غير هيبة ولا وجل، فادخل غير مستأذن، ولتكن رابط الجأش، ساكن الروع، واركع بين يديه ثم اذرف أغلى دموعك حتى تلين ما قسا من قلبه، وتحجر من مشاعره، واذكر له حاجتك فإنه راد عليك جثمان هكتور، وثق أن السماء قد قضت بذلك، ولا مرد لقضائها، أما أنا، فلا تنتظر أن أسعى بك إلى زعيم الميرميدون، وليس سرا أن أذكر لك أنني ... هرمز ... أرسلني أبي إليك لأجيء بك إلى هذا المكان، انهض، انهض ماذا أخافك مني؟ أجل ... أنا ربك ... ولكن لتقصر صلاتك هذه، فالفرصة تكاد تفلت، تشجع يا بريام، قف، آمرك ...»
وينهض الملك من غشيته التي كادت تذهب به حين ذكر له الشاب أنه هو هرمز ... هرمز نفسه الذي ذكرت له إيريس أنه سيقوده إلى فسطاط أخيل.
وينظر بريام فيرى إلى ... الجندي الشاب ... يرف في الهواء المندى ثم يرتفع ويرتفع حتى يكون في السماء التي تتفتح له أبوابها!
ويصلح الملك من شأنه ثم يتقدم بخطى وئيدة إلى فسطاط أخيل، ويدخله ويرى زعيم الميرميدون في الصدر، وبين يديه وزيراه العظيمان أوتوميدون وألكيموس، ثم قادة الجند منتثرين ها هنا وها هنا، يهمسون ولا يكادون يبينون.
Bilinmeyen sayfa