وضاق الجسر بجموع الفارين، فاضطروا إلى خوض عباب النهر الزاخر، وخوضوا فيه بخيلهم ورجلهم، وتطامن لهم سكمندر
1
فسكنت أواذيه ونامت جراجره، وانكشف قاعه عن حصباء كالدر النضيد.
وتبعهم أخيل فخاض مياه النهر، ثم أعمل سيفه ورمحه، فكانت شآبيب الماء تختلط وشآبيب الدماء، وأنين القتلى يمتزج وأصداء المنهزمين، والجماجم المنتثرة تصطدم بالأشلاء الطافية هنا وهناك، والسماء الكاسفة ترسل عقبانها تتغذى بالجزر المتساقط في رحب المعركة؛ من بطون مبقورة وهام مفلقة ولحم مقروم.
واستطاع أخيل أن يحصر اثني عشر شابا فيأخذ عليهم سبيل الفرار، وفضل أن يرسلهم إلى سفائنه أسرى حتى لا يثخن في الأرض، وحتى يشهدوا ثمة ذلك القتيل المسجى تسقيه ذيتيس الحزينة خمرا؛ فكبل أرجلهم وأيديهم من خلاف، ووكل بهم جماعة من رجاله، فقادوهم إلى الأسطول بعد ما وقفوا هنيهة أمام جثة بتروكلوس، يؤدون لها تحية المعركة التي دارت رحاها عليهم، واصطلوا من بعده بنارها.
وطفق أخيل يأخذ الجموع من كل حدب، ويلقاهم في كل صوب، حتى كان وجها لوجه أمام ليكاون بن بريام، الذي كانت له معه قصة قديمة مشجية، زمان إذ أسره أخيل واستاق قطعانه، وحبسه في جزيرة لمنوس، حتى افتداه أهله من الحرس الموكل به، ورشوهم بمائة ثور جسد ذي خوار ليطلقوا سراحه!
مسكين ليكاون بن بريام! لقد فر من جزيرة لمنوس منذ اثني عشر يوما فقط، وسعى إلى هذه الساحة النكراء ليلقى فوق أديمها حتفه، كما لقيه أخوه بوليدور من قبل.
ودهش أخيل؛ إذ رأى ابن بريام يذرع في الميدان أمامه، وعجب كيف أفلت من منفاه السحيق في عرض البحر، ثم أيقن أن في الأمر مكيدة، فانقض على الفتى المسكين انقضاض الباشق، وأرسل إليه طعنة نجلاء كادت تخترم أجله لولا هذه اللفتة الرشيقة التي انفتلها الشاب فأنقذت حياته، ولو إلى حين!
وفتح الفتى عينيه فنظر إلى شبح الموت تنتشر سماديره من ظبة سيف أخيل، وأحس كأن هذا الشبح يلاحقه في كل مكان فيقبض على عنقه ويضغطه، ثم ينشب فيه أظفاره فيسري السم في هيكله الخاوي فلا يكاد يبين!
وحاول أن ينجو من روع هذا الموقف، ولكنه كان أبطأ من حتفه الذي يسابقه، فلما أيقن أن لا سبيل إلى الفرار ألقى سلاحه وتقدم إلى أخيل فقبل ثرى الساحة عند قدميه، ثم لف ذراعيه المرتجفتين حول ساقي زعيم الميرميدون، وطفق يضرع إليه ألا يقتله؛ «فإن لي أما محزونة ما تفتأ ترسل دموعها على أخي بوليدور الذي قتلته منذ لحظة، والذي أذويت شبابه النضر ولم تبق على عوده الفينان، ولم ترحم فيه قلوبا تعطف عليه، وأبا شيخا أصبته في ولده بقاصمة الظهر، أرسلني يا أخيل تباركك الآلهة وترعاك أرباب الأولمب، ولا تفجع في ذينك القلبين الحنيين علي الحفيين بي ...»
Bilinmeyen sayfa