الفصل الثامن
التوائم الثلاثة
شئناها أو لم نشأها، كنا على وعي بها أو لم نكن؛ فهي على أية حال حقيقة واقعة لم يعد ثمة من سبيل إلى إنكارها، نعم ، هي حقيقة تثير من الحيرة ما تثير، وتحتاج إلى كثير من التحليل والتعليل لينكشف سرها، لكن ذلك كله شيء، وكونها قد أصبحت من أمور الواقع التي لا بد من قبولها، شيء آخر، وإنما أعني بها تلك العلاقة الوثيقة - الخافية آنا والبادية آنا - التي تربطنا: الأحدب وأنا وإبراهيم في ثالوث متصل الأطراف، مهما تفرقت تلك الأطراف بمكانها وزمانها وأنواع نشاطها.
إن بين الشخوص الثلاثة من الفروق ما يبرر لكل منهم أن يستنكر فعل الآخر، لكن بين الأفراد الثلاثة من التعاطف ما يجعل كلا منهم يسرع إلى مؤازرة الآخر ونجدته، شأنهم في ذلك شأن الإخوة في أسرة واحدة، يختلفون ويتعاطفون على نحو متميز فريد، هو الذي يطبع الأفراد بطابع الأسرة الواحدة، وإذا كنت لأصف أطراف هذا الثالوث بما يميز كلا منهم عن زميليه، لقلت إن الأحدب سريع الانفعال مشتعل العاطفة، إذا صادفه في طريق حياته موقف مشكل، فإما حله بحرارة وجدانه، وإما استعصى عليه الحل فانسحب في عزلة يعتصم بها، وعلى النقيض من أسلوب الأحدب، نرى إبراهيم عقلا خالصا، لا يكاد يعرف من حياته إلا ما يخضع للتحليل العلمي الموضوعي الذي لا مكان فيه للذات وأهوائها وميولها، وبين هذين الضدين أقف أنا؛ إذ يميزني دونهما انخراطي في قوالب الحياة الاجتماعية كما تحددها التقاليد والأعراف والأوضاع السائدة، فلا الأمر - في القبول والرفض - مرهون عندي بما تمليه العاطفة، ولا هو مرهون بما يحدده منطق العقل، بل هو مرهون - أولا وآخرا - بما يجد عند سواد الناس قبولا ورضا.
إن الأحدب وإبراهيم كليهما مشتغل بالكتابة، ولكن شتان بين ما يكتبه هذا وما يكتبه ذاك، حتى ولو كانا يكتبان في موضوع واحد، فبينما يتناول إبراهيم موضوعه بالعرض التحليلي المتسق الأجزاء، كأنما هو أمام مسألة رياضية لا يحكمها إلا منطق الاستدلال بكل دقته وصراحته، ترى الأحدب قد لجأ - في الموضوع نفسه - إلى التصوير الأدبي الذي يجسد الأفكار في أشكال يمكن إدراكها بالحواس، ومن شأن هذه الطريقة أن تخاطب في المتلقي وجدانه لا عقله؛ فهو يطمئن لما يتلقاه أو لا يطمئن ، لكنه في كلتا الحالتين لا يحتكم إلى «برهان».
كنت على صلة بالأحدب من ناحية، وعلى صلة بإبراهيم من ناحية أخرى، ولم يطف بخاطري قط أن الأحدب وإبراهيم على صلة أحدهما بالآخر، حتى سافر إبراهيم للدراسة في إنجلترا بغية الحصول على إجازة الدكتوراه في الفلسفة، ومضى على غيابه زمن طويل، وشاءت لي المصادفة أن ألتقي بالأحدب، فأدهشني أعظم الدهشة أنني ما كدت أورد ذكر إبراهيم في سياق حديثي، حتى فاجأني بأنه صديق له حميم، وبأنه على تراسل معه منذ سافر في بعثته الدراسية، وأضاف تعليقا على بعض رسائل إبراهيم قائلا إنها أقرب إلى مذكرات يكتبها أديب؛ ولذلك فهو حريص على الاحتفاظ بها؛ ونهض في حركة مفاجئة سريعة، وأتاني بشيء منها لأقرأها، والحق أنني أعجبت بما قرأته منها إعجابا تمنيت معه أن تطول تلك الرسائل، وأن تتماسك حلقاتها في تتابع يوحد بينها، وها هي ذي أمثلة منها:
لندن في أكتوبر 1944 ... لم أكن ألفت هذا التواضع من العلماء، وكنت أحسبه من قبيل الشائعات التي تشيع بغير سند من الواقع، حتى التقيت بهذه الأستاذة الجامعية العجيبة، وهي الدكتورة روث صو، أرأيت لو جمع حنان الأمهات جميعا، ووداعة القديسين جميعا، ورقة القلوب الرقيقة كلها، وصفاء النفوس النقية كلها؛ أرأيت لو جمع هذا بأسره في امرأة واحدة، كيف تكون؟ إنها تكون هذه الأستاذة، تحدثك عن كتاب «الأخلاق» للفيلسوف اسبينوزا في غزارة البحر الغزير، وكأنها تطلب منك الرأي ولم تجئ لتهديك بالرأي! ... كانت محاضرتها قبيل الغروب، وخرجنا معا ومعنا طالبتان تقدمتا في السن بعض الشيء، ووقفنا في الردهة، تناقشها الطالبتان المؤمنتان كيف لا يكون المسيح نموذجا كاملا للإنسان في حياته الأرضية، فتنظر إليهما بعين العاطفة الحانية وتقول في صوت كأنه يستفسر: أيعيش الإنسان في حياته الأرضية بغير زواج؟ ... وترتبك الطالبتان، وتبتسم الأستاذة، وتغير مجرى الحديث بأن تتذكر فجأة أنها لم تأكل تفاحتها، فتفتح حقيبة يدها الكبيرة، لتخرج تفاحة تأخذ في قضمها، وتقول: أحب التفاح غير مقشور ...
لندن في مارس 1945 ... للإنجليز براعة في الفكاهة، أكاد لا أجد لها نظيرا في أمة أخرى؛ فالفكاهة في أدبهم ظاهرة حتى توشك أن تكون شرطا لا يتخلف في قصة أو مسرحية أو مقالة، وهي فكاهة خفيفة أقرب ما تكون إلى الابتسامة اللطيفة إذا كانت الفكاهة عند غيرهم تقاس بالقهقهة العالية، وهم يمزجون فكاهتهم هذه في جدهم، فكثيرا ما يعمد الخطيب السياسي إلى تخفيف جد الموضوع الذي يخطب فيه بملح ونكات ينثرها في غضون حديثه هنا وهناك، بل إن ميلهم هذا إلى الفكاهة لا يبرحهم حتى في المحاضرات العلمية، التي قد تميل بغيرهم إلى الجهامة والعبوس ... كان الدكتور سيرل بريث - أستاذ علم النفس - يحاضرنا في النظرية الفرويدية، فقال: إنني لا أحب لكم أن تبالغوا في تطبيق هذه النظرية. وابتسم الأستاذ ومضى يقول: حدث لي ذات حين أن لاحظت أني أفقد أشياء كثيرة؛ فأضع المفاتيح في جيوبي ثم لا أجدها، وأضع النقود الصغيرة فيها ثم تختفي، فهممت أن ألتمس العلة في سبب من هذه الأسباب التي يقولها الفرويديون في أمثال هذه المناسبات، وجعلت أسجل أحلامي وأحللها، وأضع لنفسي الاختبارات وأنتزع النتائج؛ ثم ما هو إلا أن كشفت فجأة عن خروق في جيوبي؛ فكففت عن المضي في التحليل والتعليل ...
لندن في يناير 1946 ... لقد جئت والفكرة عندي عن الفلسفة أنها عميقة بغموضها، وأحسبني سأعود وقد تغيرت هذه الفكرة عنها، فتصبح الفلسفة عميقة بوضوحها؛ إن نظرتي إليها آخذة في التحول، وأولى مراحل هذا التحول أني قد أضحيت على رأي بأن الفلسفة تحليل للتوضيح، وليست هي بالتي تصدر الأحكام من عندها على الأشياء؛ فالفلسفة عندي الآن طريقة في البحث بغير موضوع، إنها لا تبحث في «مسائل» لتصل فيها إلى «نتائج» لأنه ليست هناك «مسائل فلسفية» مما تختص به هي دون أن يكون خاضعا للبحث في مجالات العلوم المختلفة من فيزياء وكيمياء وغيرهما. لم أعد أرى من حق الفيلسوف أن يعالج موضوعات هي من شأن العلماء وحدهم؛ فلو كان البحث في الطبيعة وجب أن يترك لعلمائها، أو كان البحث في الإنسان من حيث هو كائن حي يتفاعل مع غيره في جماعة، وجب كذلك أن يترك لعلماء النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد ... مهمة الفلسفة هي أن تحلل أقوال هؤلاء العلماء تحليلا يتعقبها إلى الجذور، وبهذا تضع أصابعنا على المبادئ الخافية التي تحملها تلك الأقوال في ثناياها دون أن تفصح عنها صراحة، حتى إذا ما تبدت تلك المبادئ أمام أعيننا، تجلت لنا أصول حياتنا الثقافية جلاء صريحا؛ إنني لعلى يقين من أن نظرة كهذه إلى الفلسفة لن تجد عندنا إلا الصدود، لا لشيء إلا لأنها تعفي الفلاسفة من الخوض فيما لا سبيل لديهم إلى العلم به، وهم أميل إلى دس أنوفهم فيما لا يعلمون؛ لأن إرسال الكلام أمر هين، فإذا قيل لهم: في هذا الكلام غموض. أجابوا: هكذا شأن الفلسفة. نعم، إن نظرتي آخذة في التحول الجريء، بعد أن رأيت كم أفنى الفلاسفة جهودهم في بحث عقيم عن أشياء في الغيب وقد حددتهم طبيعة كيانهم بحدود عالم الشهادة، إنهم لكالباحث الأعمى يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء ليس لها وجود ...
لندن في يونيو 1946 ... أي شيء هو أدنى إلى الصواب من قولنا بأن شهادة الميلاد لا تكون إلا لمولود جديد، وأنه إذا وجدت شهادة ميلاد بغير مولود فهي زائفة مزورة؟ وأي شيء هو أدنى إلى الصواب من القول بأن الرمز لا يتم معناه إلا بوجود المرموز إليه، وأنه إذا وجد رمز بغير مرموز إليه فهو إذن وسيلة خداع وتضليل؟ وأي شيء هو أدنى إلى الصواب من قولنا إن الاسم لا يكون اسما إلا إذا وجد المسمى؟ وإذا كان ذلك كله صوابا، فمن الصواب كذلك أن كل كلمة في اللغة لا تسمي شيئا ولا تشير إلى شيء، هي كلمة زائفة مهما طال بين الناس دورانها؛ فالفرق بين اللفظة التي ترمز إلى مسمى واللفظة التي لا ترمز هو الفرق بين اللفظة التي «تعني» شيئا واللفظة التي «لا تعني»، وهو فرق شديد الشبه بما يفرق ورقة النقد التي تستند إلى رصيد فتكون ورقة ذات قيمة حقيقية، من ورقة النقد التي لا تستند إلى مثل ذلك الرصيد فتكون ورقة باطلة؛ لا بد أن يوجد الشيء أولا ليجوز لنا بعد ذلك أن نطلق عليه اسما يسميه ويميزه مما عداه، وهذا هو بعينه الأساس الذي نقيم عليه تعليمنا اللغة لأطفالنا، فنشير إلى شيء قائم على مرأى من الطفل قائلين له: «شجرة»؛ ولولا أن هناك الشجرة التي نشير إليها لذهبت لفظتنا عند الطفل عبثا؛ لأنه في سذاجته وبفطرته ينظر إلى طرفين، المسمى المشار إليه في طرف والصوت الذي ننطق به في طرف آخر، وعندئذ يقرن الشيء المرئي بالصوت المسموع، أو يقرن المسمى باسمه، أو يقرن المرموز إليه بالرمز الذي يشير إليه؛ أقول: إنه يقرن هذا الطرف بذلك، ثم يربط بينهما، حتى إذا ما نطق له بالصوت وحده بعد ذلك، كان كافيا لاستثارة الصورة التي كان هذا الصوت قد ارتبط بها، وبهذا وحده يجوز لنا أن نقول إن كلمة «شجرة» قد أصبح لها عند الطفل «معنى» ...
Bilinmeyen sayfa