فرحت بالعرض فرحة شديدة، ولم تمض بضعة أشهر حتى كنت قد أكملت الكتاب الأول، وأعطيت شريكي الكبير أصول الكتاب، وبعد أيام لقيت الأستاذ في مقر لجنة التأليف والترجمة والنشر - وكنت خلال تلك الأيام قد التحقت باللجنة عضوا - فأعطاني مقدمة أعدها للكتاب، وطلب مني قراءتها، فلما أخذت أقرأ، وقعت في السياق على صيغة تدل على أن المقدمة موجهة إلى القارئ منه وحده، لا من الشريكين معا، فقلبت الصفحات الباقية مسرعا لأقفز إلى الإمضاء، وإذا الإمضاء - كما توقعت - له وحده؛ ولا بد أن يكون وجهي قد امتقع، فقال لي: ماذا ترى؟ كن صريحا، ألا توافق على أن تكون المقدمة مني؟ إذا كان الأمر كذلك عدلت في العبارة وجعلتها مقدمة منا معا؛ فقلت خجلا: لا، لا، هذا هو الوضع الصواب، وقد كان.
وكانت هذه بداية وضعت مبدأ لما سوف نشترك فيه معا من كتب بعد ذلك، وهي كثيرة، ثم ماذا؟ إنني إذا قلت ما أقول الآن، فإنما أقوله لأنه كان - والله شهيد - من العوامل التي اعتملت في نفسي بضروب من الصراع بيني وبين نفسي نادرة المثال، ولست ألقي الذنب على أحد في كل تلك المحنة النفسية التي طالت معي أعواما ليست بالقليلة، لست ألقي الذنب إلا على الترتيب المضطرب المتناقض الذي ركبت عليه نفسي؛ فبينما أواصل الليل بالنهار جهدا وجهادا في سبيل أن أميز نفسي بما كانت تسحق أن تتميز به، تراني أجفل من اتخاذ الخطوة المناسبة أو العبارة الملائمة في المواقف التي تستدعي تلك الخطوة أو هذه العبارة فيضيع مني ما رجوت كسبه من تقدم.
فلأنني جبنت دون القول الصريح عما كنت أريده حقا، وهو أن تظهر الكتب بين القراء على حقيقتها التي هي أنها مشاركة، سارت الأمور معي بخطوات سريعة نحو أن أكون أمام الناس في منزلة التابع لا الشريك، ولم يسع شريكي الكبير إلا أن يعاملني هذه المعاملة ما دمت قد رضيتها لنفسي؛ أكلمه بالتليفون ذات مرة بضرورة قصوى، فيختلط عليه الاسم باسم شبيه لأحد أصدقائه، فيهش في طريقة الحديث، حتى إذا ما أدرك أنه أخطأ الظن، عبس في رنة الحديث ليمحو ما كان قد هش به حتى لا يفلت الزمام؛ ويكتب إلي خطابا ذات مرة لضرورة قصوى لذلك، فيجعل الخطاب أربع كلمات، منهما كلمتان أوليان تقولان: «السلام عليك»؛ لأن «عليكم» فيها ميم زائدة على المطلوب.
التواضع صفة جميلة إذا وقف عند حد معقول؛ وإلا فسرعان ما ينقلب على صاحبه ضعة وقلة قدر وتفاهة قيمة، وهكذا كان أمري؛ فقد خرجت من الشركة الأدبية «صغيرا»، حتى لقد اضطررت فيما بعد إلى مضاعفة جهودي أضعافا مضاعفة لكي أنفق بعضها في محو التصغير الذي لحقني، وأكسب ببعضها الآخر خطوة إلى الأمام، فكلما سار غيري خطوة واحدة تكون كلها كسبا له في ميدان الفكر والأدب. كان لزاما علي أن أخطو عشر خطوات، تذهب تسع منها في محو ما قد رسخ في الأذهان من أنني تابع تصدر إلي الأوامر فأطيع، فلو كنت منذ البداية وضعت الأمور في نصابها، فإما تعادل وإما انفضاض، لحدث أحد الأمرين بغير إجحاف، فمن الإنصاف أن يكون الكبير كبيرا لأنه كبير، وأن يكون الصغير صغيرا لأنه صغير؛ وأما أن يزداد الصغير صغرا ليزداد الكبير كبرا، فذلك ما أسميه إجحافا. •••
والحق أني سرعان ما وجدت أن هذا التباعد بين الكبير والصغير هو دستور التعامل بين أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ فقد كان من هؤلاء الأعضاء فئة من قادة الفكر وأعلام الأدب، كما كان منهم مثلي من البادئين عند أول الطريق، ولقد كنت توهمت عند انضمامي لتلك اللجنة أن الطريق قد أصبح مفتوحا أمامي لأندمج في هؤلاء القادة والأعلام، لكنني لم ألبث أن وجدت الزمالة عسيرة الأسباب؛ إن آلهة الأولمب لا يهبطون من قمتهم الشامخة بما ظننت من سهولة ويسر، نعم إن أعضاء اللجنة هم من الوجهة النظرية أعضاء أسرة واحدة، لكنهم كجزر الأرخبيل، تقوم كل جزيرة وحدها ويحيط بها الماء من كل أقطارها، فلم أبادل الأرباب حديثا ولم يبادلوا، وجلست معهم لا كما يجلس الزميل؛ إذ تبينت أن الأرباب أشد من سواد الناس حرصا على أن يظل الأمر بينهم درجات، فلا يصغر الكبير من أجل الصغير، ولا يكبر الصغير ليستوي مع الكبير، وأوشك كل أن يضرب حول نفسه نطاقا من حراس وحجاب حتى لا يظن ظان أن الملتقى سهل يسير.
وأقف هنا مع القارئ وقفة قصيرة، أنقل له فيها نموذجا مما كتبته عندئذ لأعبر عما اضطرب بين جوانحي من مشاعر، وهي مشاعر إن تكن في هذه الحالة خاصة بفرد واحد، إلا أنها في حقيقتها تعكس ضربا من التفاوت بين الأفراد في حياتنا، أكاد ألا أجد له مثيلا في شعب آخر، حتى بين الشعوب التي يصفونها آنا بالتخلف وآنا بالتنامي، وهو تفاوت يصبح محالا معه أن يعرف الناس معنى للمساواة، مهما ترددت هذه الكلمة على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين؛ فقد كتبت تحت عنوان «ذات المليمين» (وهي قطعة من النقود كانت في تلك الأيام متداولة بين الناس) كتبت ما يلي:
لست أدري متى وكيف تسللت هذه القطعة ذات المليمين إلى نقودي، ولكن الذي أدريه في يقين هو أنها بقيت هنالك شهرا كاملا تنتقل معي حيث أنتقل، وتسير حيث أسير، تحاول جاهدة أن تجد سبيلها إلى الإنفاق، وأنا أغالب طبيعة البشر فأعاونها على ذلك فلا أجد لها السبيل، ولعلك تدري شيئا من هذا الصراع الدائم، القائم بين المال وصاحبه، هذا يشد المال إلى جيوبه شدا لا يريد له أن يشهد النور، والمال يبتغي لنفسه أن يتنفس الهواء الحر الطليق، فيجري دافقا سيالا بين أصابع المتعاملين، تارة تحسه أيد ناعمة، لكنها تستخف به وتزدريه، وطورا تظفر به أيد خشنة، لكنها تتقبله قبولا حسنا وتكرم له المأوى، وإن ذلك لمن عجب الحياة الذي لا ينقضي، فإن طاب لك المأوى ألفيت به الشوك والحسك معا، يستذل النفوس، ويؤجج الصدور، وإن التمست لنفسك العزة ألفيت مأواك خشنا غليظا؛ ومهما يكن من أمر، فقد ألحفت هذه القطعة تنشد لنفسها الفكاك، وغالبت نفسي وعاونتها على الإنفاق، ولكن كان لها القدر بالمرصاد.
فها أنا ذا عند دار السينما أضرب بمنكبي مع الضاربين، لعلي أجد السبيل إلى شباك التذاكر، وقد ضربت حوله زحمة الناس نطاقا يخنق الأنفاس، وأين من هؤلاء القوم من يواتيه حظه السعيد فيبلغ عتبة الشباك؟ إن عيون المتزاحمين لتكاد تفتك به من حسدها له على توفيقه فتكا؛ وحان الحين وكنت أنا المرموق بهاتيك العيون الفواتك، ووقفت أمام الشباك أملأ عارضته بمرفقي، ولكنني أسرعت الحركة والكلام لتطمئن نفس المنتظرين الناظرين فلا يحقدوا، وضربت يدي في جيبي وأخرجتها، فقذفت بما أخرجت لبائعة التذاكر، فإذا بها ذات المليمين تتحرك على رخامة الشباك في رعونة الأيفاع.
وجلست في مقهى مع طائفة من الأصدقاء ممن لا تزال بيني وبينهم حواجز الكلفة قائمة، يحاول كل منا أن يستر من نفسه الفقر والجهل والضعة، ليظهر الثراء والعلم ورفعة المكانة بين الناس، وجاء الخادم ليتقاضانا ثمن ما شربنا، فتسابقت الأيدي مخلصة إلى الجيوب - يا ليتها تدرك أصحاب المسغبة بعشر معشار هذا الوفاء لأصحاب اليسار! - فهذا موقف من المواقف النادرة التي ينعم فيها من يثبت للآخرين غناه، وأخرجت كل يد ما فيها على المنضدة في سرعة متلهفة، فقذف واحد بريال قوي العضلات صداح الرنين، ونشر آخر جنيها من الورق بين أصبعيه؟ وقذفت على المنضدة بما حملت يدي مع القاذفين، فإذا بنصف ريال يأخذ مكانة لا بأس بها بين القذائف، ولكن دارت إلى جانبه ذات المليمين، فحطت من قدره وقيمته، وشاء الحظ العاثر أن تتعثر هذه القطعة المنكودة في دورانها حتى هوت إلى الأرض في رنين ضئيل، فانحنى أحد الأصدقاء إليها وردها إلي، فأخذتها والجبين يتندى من الخجل؛ فليس يشرف المرء في مثل هذه المواقف أن يضم جيبه شيئا من ذوات الملاليم.
وكنت أجالس فئة من رفاقي، وأرادت المصادفة أن يدور بيننا حديث أخذ يشتد فيه الجدل ويشتد حتى اضطرم واشتعل، فجاء زميل يجمع منا قدرا من المال نحسن به على خادم طاحت يد المنون بزوجه، وعجزت دراهمه أن تقلقل الجثة من سريرها إلى القبر، فجاءنا يطلب الإحسان - والموت يقسو على الفقير كما تقسو عليه الحياة، فلا هو إن عاش حي بين الأحياء، ولا هو إن مات واجد سبيلا ميسورة إلى مراقد الموتى - ودار الزميل الكريم يلقف من الأصابع ما امتدت به، ومددت أصابعي ذاهلا مشتغلا بما أنا فيه من الجدل، وقد كدت أنتصر، وإذا بالزميل يبتسم لي قائلا: لا بأس، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وضحك الحاضرون جميعا، ونظرت فإذا بذات المليمين بين أصبعيه، فجذبتها في حركة عصبية سريعة، وفمي يتمتم ألفاظ الأسف، وأخرجت ضعف ما أحسن به الآخرون لأعوض هذه السقطة؛ فمن أمثال هذه السقطات ترتسم شخصية الرجل في أذهان الناس.
Bilinmeyen sayfa