نعم إن بيني وبين الأحدب من أوجه الشبه شيئا كثيرا، لكن أوجه الشبه بين رجلين لا تجعلهما رجلا واحدا، أو هكذا ظننت عندئذ، فحسب هذا التشابه بيننا أن يفسر لي هذا التجاذب الشديد الذي صادق بيننا إلى الحد الذي يجعل كلا منا يفرح بلقاء الآخر ويسعى إليه، أما أن يشتد إلى درجة الهوية بين شخصينا فذلك هو موضع العجب، ومع ذلك فهو تشابه يجاذبه اختلاف بعيد يفرق بين مزاجه ومزاجي.
كلانا بدأ حياته مدرسا، وكلانا سلخ أعوام شبابه عزبا، ولكلينا ولع خاص بالثقافة من إحدى زواياها؛ فهو مثلي يتتبع المذاهب الفكرية العامة في الفلسفة والنقد، وفي الفن وفي السياسة وفي الاجتماع، تتبعا يجنح نحو التجريد في الفكرة والبعد بها عن التطبيق؛ ولذلك فنحن كلانا نبرع في الجدل النظري، بقدر ما نعجز عن التماس طريقنا في الحياة العملية، وإن يكن الأحدب بعد هذا التشابه بيني وبينه يعود فيختلف عني في درجة والولوغ والإيغال في عالم الثقافة هذا، ويتسع هذا الاختلاف بيننا حتى يشمل طريقة النظر إلى الحياة؛ فهو سوداوي المزاج قلق متشائم ثائر على الأوضاع كلها كيفما وجدها، فلا يرضيه أن يكون الأبيض أبيض ولا الأسود أسود، وقد انعكست هذه النظرة على طريقة معاملته للناس، وها أنا ذا قد وجدته في عزلته لا يكاد يعرف أحدا أو يعرفه أحد، وفوق هذا كله فهو يدس في خفايا نفسه شعورا بالنقص ما يفتأ يستفحل أمره معه فيؤثر على سلوكه تأثيرا صريحا واضحا، على حين أني - برغم ما بيني وبينه من تماثل في كثير من الوجوه - قد لا أكون راضيا عن بعض الأمور فأكتم السخط لأظهر الرضا، وأمجد الغيظ لأبدو هادئا، وأقيم الثورة في جوانحي لأستسلم للأمر الواقع، فلئن كان الأحدب يترك زمامه لدفعات الهوى، فإني كثيرا ما ألجم الأهواء بشكيمة العقل .
بلغ بنا القطار غايتنا وغايته - مدينة الإسكندرية - وتفرقت بيني وبين صديقي فريد وزوجته سبل الطريق، وكنا لم نزل في أول الضحى، فأخذت طريقي إلى شاطئ البحر لأمضي سويعات انتظار لموعدي هناك، فجاءت جلستي أمام البحر في الكازينو الذي كاد ساعتها أن يخلو من زبائنه؛ أقول إن جلستي تلك قد جاءت فرصة مناسبة أتأمل فيها هذا اللغز النفسي العجيب، وهو أن أسمع روايات تروى أمامي عن الأحدب في بدء حياته العملية، فإذا هي روايات تحدث في نفسي شيئا كرجع الصدى، وكأنما هي ذكريات من شبابي لا قصص تروى عن شخص آخر.
لكن الله قد أراد لذلك اللغز أن يزداد إلغازا بدل أن يجد شعاع الضوء الذي يفك طلاسمه، وذلك أن صوتا جاء يناديني من الخلف، هو بذاته صوت الأحدب كما عهدته؛ فالتفت ورائي دهشا، لأرى صديقا لم أتوقع قط أن أراه؛ لأنني كنت ظننته قد غادر البلاد في بعثة دراسية، فما إن جلس وألقيت عليه السؤال حتى أفهمني حقيقة موقفه، وهي أنه إنما تعذر عليه السفر كما تعذر على سواه في تلك الأيام السود، فصمم على أن يعوض ما فاته بدراسة يؤديها هنا بنفسه ولنفسه، حتى إذا ما زالت عن العالم غمته وسنحت فرصة السفر إلى أوروبا مرة أخرى. كان قد قطع شوطا على الطريق يدنيه من غايته.
كنت أعرف في صديقي هذا - واسمه إبراهيم - منذ أيام الدراسة تعدد المواهب والقدرة على خلق المبتكر، حتى ولو كان ذلك المبتكر الذي يخلقه شيئا لا نفع فيه؛ وكان يتميز دون سائر الزملاء بجمال الخط ودقة الرسم ونظافته؛ ولذلك كان يبحث عن العمل الذي يتطلب الكتابة والرسم، ليتمكن من عرض خطه الجميل ورسمه الدقيق النظيف، حتى لو كان هذا العمل لسواه لا لنفسه، لقد كان هذا الصديق قوي الخيال في غير منهجية واضحة تنظم ذلك الخيال ليجيء خيالا منتجا بناء؛ فهو خيال أقرب إلى خيال الأطفال حين يصور لهم الوهم أن العصا بين أرجلهم حصان أو قطار.
لكن ذلك الخيال القوي عند صديقي، قد كان من خصائصه النافعة - من جهة أخرى - أن يصور له الغايات قبل وقوعها تصويرا ناصعا، حتى ليظن هو أن تلك الغايات المأمولة قد باتت واقعا محسوسا، ومثل هذا التصور الناصع للغايات، من شأنه أن يحفز صاحبه على العمل؛ لأنه يخرج الأمل من دنيا الأحلام ليدخله في دنيا الحقائق.
وبهذا التصور القوي للغايات المرجوة البعيدة، رسم صديقي إبراهيم لنفسه خطة دراسته التي يستعد بها انتظارا للفرصة إذا سنحت للسفر، ولما قابلته كان بالفعل قد قطع شوطا لا بأس به من الطريق، ظفر فيه بشهادتين من جامعة لندن: الشهادة الأولى، والشهادة الوسطى، ولم يكن قد بقي له إلا شهادة الختام، وأخذ يشرح لي بشيء من التفصيل ماذا قرأ وفي أي اتجاه يسير، وأين اجتاز الامتحان؛ وعلمت مما رواه لي أن سيره يتجه به في طريق الدراسة الفلسفية، وأن امتحانه للشهادة الأولى كان في مدينة القدس قبل محنة القدس بعشرات السنين؛ لأن جامعة لندن لم تكن بعد قد جعلت القاهرة مركزا لنشاطها الخارجي؛ وأما امتحان الشهادة الوسطى فقد كان في القاهرة.
سألته قائلا: لكن لماذا تبدأ الشوط من أوله، ودرجة الليسانس التي بين يديك تعفيك من بعض المراحل؟
فأجابني: أردت أن أجعل طريق السير متجانسا ومتكاملا، وفيم العجلة؟! إنني أستهدف الدراسة نفسها بقدر ما أستهدف الشهادات، وقل إن المسألة كلها فيها من التسلية العلمية مقدار ما فيها من جدية الأهداف.
لم يدهشني اختياره للدراسة الفلسفية؛ لأنني كنت أعلم أن له فيها ماضيا مليئا بالجهود الممزوجة بالحب الشديد؛ وهل أنسى أننا حتى ونحن في أيام الدراسة كنا قد لحظنا فيه هذا الميل بوضوح، فأطلقنا عليه اسم «سقراط». وأذكر أني سألته ذات يوم منذ زمن بعيد: ما الذي مال بك نحو الفلسفة بكل هذا الحب؟ فأجابني بأنها المصادفة البحتة هي التي أوقعته على كتاب إنجليزي صغير عن الفلاسفة الثلاثة الكبار: سقراط وأفلاطون وأرسطو، فلما قرأه كان كمن كشف عن نفسه الغطاء؛ إذ أحس أن مثل هذه المادة العقلية هو ما خلق من أجله؟ فإذا كان «شن» - في المثل العربي القديم - قد وافق «طبقة»، فكذلك قد وافقت الفلسفة طبيعتي. ولعله منذ تلك اللحظة لم يحد عن الطريق. •••
Bilinmeyen sayfa