بصارم يلمع كالهلال
قال الراوي: قالت المياسة: من تكون من الرجال، وإلى من تنسب من الأبطال؛ حتى أقول برز لي فلان وقابلني في الميدان؟ فلم يجبها دون أن حمل عليها وضايقها ولاصقها، وهم أن يطعنها فسابقته بطعنة فزاغ عنها، ثم إنه ألكزها في كعب الريح فرمى البيضة من على رأسها، فقالت له: أيها الفارس، هل لك أن تمهلني حتى أشرب الماء وأرجع إلى الميدان؟ فقال لها المقداد: أنت مجازاة بذلك. فدعت بشربة ماء فشربت ثم مالت تمانعه وتخادعه وتدافعه وتقول: أيها الفارس الكرار والليث المغوار والأسد الزيار، هل لك في شرب الماء حاجة؟ ثم إنها كشفت البرقع عن وجهها، وقد احمر وجهها من العرق، فقامت تمسح العرق عن جبينها، وقد ينحدر على جبينها كاللؤلؤ الرطب، فنظرت إلى المقداد نظرة، والتفت إليها التفاتة، فوقعت عيناه عليها، فانذهل عقله واستلب فؤاده واندهش واحترق قلبه، وانقلبت عيناه في أم رأسه، وصار شاخصا باهتا؛ لا يرد جوابا، ولا يصبو إلى خطاب، فطمعت المياسة فيه، قالت: لا شك أن هذا الغلام قد زال عقله وسلب فؤاده من حسني وجمالي.
قال الراوي: وبعد ساعة فاق المقداد وصحا من سكرته، وانتبه من رقدته، ورد عقله إليه، واستدرك وقال في نفسه: ويحك يا مقداد، إن المياسة ما تصيد الرجال الأبطال إلا في هذه الخيلة والمكر والدلال والحمرة والجمال، وقد انذهل عقلي من نظرة واحدة والساعة تسير في يديها أسيرا وتسير من بعد العز حقيرا، ثم إنه ألوى عنان الحصان إليها غير مكترث بها وصاح عليها وقال: ويلك، لقد وافاك ليث زيار وبطل مغوار. فقالت له: من تكون من العرب، وإلى أي قبيلة من ذوي الرتب؟ ثم إنه ألوى عنان جواده إلى المياسة، وصاح صيحة عظيمة، وقال لها: ويلك، لقد أكثرت علي المقال، فإنه الذي لا تنكر العرب فعاله، ولا يخفى على الأبطال مراسه، أنا الأسد مضجاج، أنا مرهج العجاج، أنا فارس الهيجاء، أنا هزبر الفلوات، أنا الفارس الكرار، أنا ابن عمك المقداد بن الأسود الكندي، قاتل الرجال ومبيد الأبطال، ثم أنشد يقول:
إني أنا المقداد نسل الأسود
أرى العدا بالصارم المهند
إن كان نكران فعالي في الوغى
لما علوت فوق ظهر الأجود
قال الراوي: فلما فرغ المقداد من شعره وعلمت المياسة باسمه أخذتها الحمية، وهزتها النخوة العربية وقالت: يا مقداد، من أين لك هذه الشجاعة التي لم أعهدها فيك؟ فقال: نحن أهلها. ثم إنها حركت الجواد بأطراف الركاب، فخرج من تحتها كالريح الهبوب أو كالماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب حتى بلت المقداد وقالت له: ابرز إلى الميدان، فإن هذا اليوم آخر أيامك من الدنيا. قال: فلما سمع المقداد كلامها هز جواده وانحدر إلى الميدان، ثم إنهما تجادلا طويلا واعتركا مليا حتى جرى بينهما العرق، وازورت منهما الحدق، وامتدت نحوهما الأعناق، وشخصت نحوهما الأحداق، وأخذ الناس يلومون أباها ويقولون له: هذه بنتك من عظيم طغاوتها برز إليها شيطان من الجن واليوم يكشف حالها. ثم إن المقداد ضايقها ولاصقها وأراد أن يقتلعها من سرجها، فانقلبت تحت بطن الجواد ثم استوت على ظهر الجواد، فلما رآها المقداد طعنها بكعب الرمح فرمى البرقع عن وجهها، فنظرها وقال شعرا:
نظرت مقلتي شمس ضحى
نورها قد علا الأنوار
Bilinmeyen sayfa