Modern Felsefenin Hikayesi

Zeki Necip Mahmud d. 1414 AH
67

Modern Felsefenin Hikayesi

قصة الفلسفة الحديثة

Türler

نحن نقصد بكلمة «إحساس» شعور الإنسان بوجود أحد المؤثرات على إحدى الحواس، فقد تبعث فينا الأشياء الخارجة عنا طعما على اللسان، أو رائحة في الأنف، أو صوتا في الأذن، أو حرارة على الجلد، أو لمعة خاطفة من الضوء على شبكية العين، أو ضغطة على الأصابع، فهذه الآثار الحسية هي المادة الخام الأولية التي تمدنا بها التجربة، وهي التي تكون لدى الطفل في أيامه الأولى قبل أن يبدأ حياته العقلية، وليست تسمى هذه الإحساسات «معرفة» ما دامت مفرقة مفككة لا يرتبط الطعم الذي جاء على اللسان بالضوء الذي أثر في العين ولا بالرائحة التي سلكت طريق الأنف إلخ. ولا تتجمع كلها حول «شيء» معين، فإذا ما تجمعت هذه الأشتات الحسية حول «شيء» في المكان والزمان تحولت إلى علم ومعرفة، فليست رائحة التفاحة وحدها، أو طعمها وحده، أو الضوء المنبعث منها «لونها» وحده، أو ضغطها على اليد الذي يكون شكلها معرفة، ولكن إذا ما اتحدت الرائحة والطعم واللون والشكل كلها في مجموعة واحدة متعلقة بشيء معين، كان إدراكنا لهذا «الشيء» هو المعرفة؛ لأننا عندئذ لا نشعر بمؤثر عن حاسة فحسب، بل ندرك شيئا، وهذا الإدراك للشيء في مجموعه هو ما نسميه بالإدراك الحسي ... وتحول الإحساس إلى إدراك حسي معناه تحول الإحساس إلى معرفة.

ولكن كيف تتحول الإحساسات إلى إدراك حسي؟ كيف تتجمع المؤثرات الحسية المتفرقة التي تسلك إلى الذهن سبلا شتى حول شيء بعينه؟ إن لون التفاحة يدخل من باب غير الباب الذي يدخل منه طعمها، وشكلها يأتي من نافذة غير النافذة التي تأتي منها رائحتها، فمن الذي يتناول هذه الآثار المبعثرة عند وصولها إلى الذهن، فيضمها بعضها إلى بعض، ويكون منها «تفاحة»؟ أم هل تسارع هذه الآثار فتجمع بعضها إلى بعض بطريقة آلية دون أن تحتاج في تجمعها إلى قوة خارجة عنها؟ يقول «لوك وهيوم»: نعم، إن هذه الإحساسات تتحول إلى إدراك حسي من تلقاء نفسها وبطريقة آلية، وأما «كانت» فيبعثها صرخة داوية ينكر بها ما ذهب إليه «لوك وهيوم».

إن هذه الإحساسات المختلفة تصل إلينا من خلال قنوات شتى، إنها تسلك ألوفا من الأعصاب التي تمتد من الجلد والعين والأذن واللسان إلى المخ. فانظر إلى هذا الخليط المتضارب المتنافر يصل إلى حجرة العقل ويتزاحم فيها، وكل واحد منا يدعو الذهن إلى الانتباه إليه! فلو ترك هذا الجمع المحتشد وشأنه لظل في تعدده وفوضاه عاجزا أن يرتب نفسه وينظمها، بحيث يصبح غرضا وقوة ومعنى، إن مثلها مثل طائفة كبيرة من الرسائل ترد إلى قائد الجيش في ساحة القتال من فيالق الجيش وبنوده، أترى إذا وضعت الرسائل إلى جانب بعضها فوق المائدة، أكانت تستطيع من تلقاء نفسها أن ترتب نفسها، ثم تتحول إلى فهم للموقف، ثم أمر يرسل إلى الجنود ليرسم لهم خطة السير؟ كلا، بل لا بد لها من منظم ومشرع! لا بد لها من قوة لا تتلقى الرسائل وكفى، بل تتناولها فتصوغها في معنى من المعاني.

وجدير بنا أن نلاحظ أن ليس كل ما يبعث من الرسائل يقبل، مما يدل على أن الأمر لا يقتصر على استقبال فحسب، فهناك من المؤثرات التي تؤثر في نواحي جسمك في هذه اللحظة ملايين، هنالك عاصفة من المؤثرات الحسية الآتية من الخارج تضرب على أطراف الأعصاب، وتتطلب الوصول إلى الذهن، ولكن ليس كل ما يدق الباب يسمح له بالدخول، بل إنا نختار من ملايين الإحساسات الواردة إلينا ما نتمكن من صياغته في إدراكات حسية تناسب الغرض الذي نقصد إليه هذه اللحظة المعينة، كما نختار من بين تلك الإحساسات ما نرى أنه ينبئ بالخطر ... افرض أن ساعة تدق الآن أمامك أثناء قراءة هذه الصفحة، فهذه الدقات تبعث موجاتها الصوتية التي تقرع أعصاب الأذن، ولكنك مع ذلك لا تسمعها، فإذا ما توجهت بإرادتك إلى الساعة سمعت دقاتها جلية واضحة، مع أنها لم تعل عما كانت قبل ... ثم انظر إلى هذه الأم الراقدة إلى جانب طفلها تراها لا تستيقظ لعجيج الأصوات الصاخبة من حولها، ولكن لو تحرك صغيرها حركة خفيفة، أو همس همسة خافتة، نهضت من نعاسها فزعة، مع أن صوت الطفل أضأل من جلبة العربات والمارة، فهذا دليل على أن العبرة ليست في مجرد الإحساس، ولكن لا بد كذلك من القوة التي تختار هذه الأحاسيس وتكسبها ما لها من معنى، فالأمر متوقف على غرض الإنسان الذي يقصد إليه في وقت معين، فمثلا لو رأيت رقم 2 ورقم 3 مكتوبين أمامك على ورقة، ثم قصدت إلى جمعها، كان الناتج في ذهنك «خمسة»، فإذا قصدت إلى ضربهما، كان الناتج «ستة» مع أن صورة الرقمين، أي الإحساس الذي ينبعث منهما إلى العين هو هو في كلتا الحالين لم يتغير، إنما الذي تغير هو الغرض، فاستتبع ذلك اختلافا في معنى إحساس بعينه ... إن التداعي بين الإحساس والأفكار ليس متوقفا فقط على التجاور في المكان، أو التقارب في الزمان، أو التشابه، أو التكرار، أو ما إلى ذلك، بل إنه خاضع فوق ذلك كله إلى غرض العقل، فإحساساتنا وأفكارنا خدم لنا تنتظر دعوتنا فلا يأتي الأثر الحسي أو الفكرة إلى أذهاننا إلا إذا احتجنا إليها فدعوناها، وإن لدينا قوة تقوم بهذا الاختيار، وهذا التوجيه، ألا وهي قول العقل.

وللعقل وسيلتان في اختيار الإحساسات، ثم في تحويلها إلى إدراكات حسية ذات معنى هما الزمان والمكان، فكما يرتب القائد الرسائل التي ترد إليه من أطراف جيشه حسب زمانها الذي كتبت فيه، ومكانها الذي جاءت منه، وبهذا يستطيع أن يفهم موقف جيشه فيصدر أوامره تبعا له، كذلك العقل يرتب الرسائل الحسية التي ترد إليه من العالم الخارجي حسب زمانها ومكانها، فيعزوها إلى هذا الشيء أو ذاك، وإلى الحاضر أو إلى الماضي، وبذلك يتمكن من ترتيبها في ذهنه ترتيبا تتحول بفضله إلى إدراك حسي له معنى، ولكن ليس الزمان والمكان اللذان يضيفهما للآثار الحسية الواردة إليه شيئين موجودين في الخارج، ولكنهما صور ابتكرها العقل ليستعين بها على الإدراك. هما طريقان لوضع المعنى في الإحساس، أو هما وسيلتان للإدراك الحسي.

نحن نتلقى مادة الإحساس الخام من الخارج فنصبها في صورة من عندنا حتى تصير إدراكا حسيا؛ إذن فالمادة مكتسبة. أما الصورة التي نشكل المادة فيها فمفطورة فينا، وهي سابقة لكل تجربة، المادة تجربية، أما الصورة فخالصة، وكلاهما يكونان الإدراك الحسي، فكل إدراك حسي هو عبارة عن مادة جاءت من الخارج فاكتسبت صورتها في العقل، فنحن لا نخلق المدركات الحسية، ولكنا نصفها فقط كما يصنع النجار المائدة من قطع الأخشاب، والأداتان اللتان نستعملها في صنع الإدراكات الحسية من الإحساسات هما الزمان والمكان، والزمان الذي بواسطته نضع الآثار الحسية في تتابع وتعاقب، حتى تتكون منها سلسلة مترابطة متصلة، والمكان الذي بواسطته نجاور بين الطعم واللون والرائحة حتى تتألف منها التفاحة ... والزمان والمكان لا يجيئان إلينا من الخارج مع التجارب الحسية، ولكنهما كما قدمنا موجودان في العقل بطبيعته، وآية ذلك ما يتصفان به من ضرورة، فلسنا نستطيع أن نفكر بغيرهما، أو أن نجرد منهما الأشياء والحوادث التي تقع في التجربة، وكما أنهما لم يأتيا من التجربة الحسية، كذلك هما ليسا فكرتين مجردتين استخلصهما العقل مما يصادف من جزئيات في الخارج؛ لأن وجودهما لا يستلزم وجود عدة أزمنة وعدة أمكنة لكي نصل إلى فكرتيهما، بل الأمر على النقيض من ذلك؛ إذ لا بد لك لكي تفكر في عدة أزمنة، وعدة أمكنة، أن يكون لديك بادئ بدء «زمان» و«مكان». وما يدل على أنهما فكرتان ذاتيتان موجودتان فينا وليس لهما وجود في الخارج، أنك لا تستطيع مثلا أن تفرق بين مكانين إلا بالنسبة لشخصك، فلا يمكنك أن تفرق بين وضع اليد الحقيقية ووضع صورتها في المرآة إلا بقولك: إن هذه ناحية اليمين، وتلك ناحية اليسار. واليمين واليسار بالطبع اعتباران ذاتيان يتعلقان بالشخص الرائي، وأنت مضطر أن تلجأ إليها في التفرقة بين الوضعين؛ لأنه ليس هناك صفات مكانية موضوعية مستقلة عنك يمكن استعمالها في التمييز بين وضعين مختلفين.

إذن فنحن الذين نخلع على الإدراكات الحسية المختلفة، (أي الظواهر) زمانيتهما ومكانيتهما، والزمان والمكان يتشابهان في أن كلا منهما حالة ذاتية يستعين بها الشخص على تحويل الإحساسات إلى إدراكات حسية، ولكنهما يختلفان في أن المكان تستعمل صورته في تشكيل الإحساس الذي يأتي إلينا من الخارج فقط، أما الزمان فهو قبل كل شيء يستخدم في وصل مشاعر الشخص وحالاته المتعاقبة لكي يتكون منها في النهاية ذات، أعني أن المكان خاص بما تدركه في الخارج، والزمان خاص أولا بما تدركه في باطنك، ولكن لما كانت تلك الإحساسات الخارجية التي تربط بعضها ببعض بواسطة «المكان» يتبعها دائما إحساسات داخلية أو ذاتية، ولما كانت هذه الإحساسات الداخلية - كما قدمنا - ترتبط وتتشكل بواسطة «الزمان»، فالزمان إذن صورة (غير مباشرة) للإدراك الحسي الخارجي أيضا، فموضع الخلاف بينهما هو أن المكان لا يستعمل إلا في الإحساسات الخارجية فقط، أما الزمان فيستعمل في الإحساسات الداخلية والخارجية على السواء؛ الأولى بطريقة مباشرة، والثانية بطريقة غير مباشرة، ومعنى ذلك أن الزمان أشمل من المكان، فكل الظواهر باطنية كانت أو خارجية زمانية، أي تصاغ في صورة الزمان، والظواهر الخارجية مكانية أيضا، أو بعبارة أخرى: فالظواهر الخارجية تقع في الزمان والمكان معا، والتأملات الباطنية تقع في الزمان والمكان.

وواضح أنه ما دام الزمان والمكان أداتين يستخدمهما الإنسان في تكوين الإدراكات الحسية فهما يبطلان إذا ما استخدما في غير الحس، أي ما ليس بالظواهر. ويسمي «كانت» كنه الشيء الذي وراء ظاهرة: «الشيء في ذاته»، وإذن فالأشياء في ذواتها ليست تقع في زمان أو مكان؛ لأنها ليست مما يدرك بالحس، وكما أنك لا تستطيع أن ترى بعينيك إلا ما هو مرئي، كذلك لا يمكنك أن تصب الزمان والمكان إلا على ما هو حسي.

وما دمنا قد علمنا مما سبق أن الزمان والمكان هما صورتان مفطورتان في العقل لم يستمدا من التجربة، وأنهما هما اللتان تجعلان المدركات الحسية هي ما هي؛ فإذن ينتج من ذلك أن كل ما نعزوه للأشياء من أحكام متعلقة بمكانها أو زمانها فهو مستمد من فطرتنا، ولم نعتمد فيه على ما أتانا من الخارج بواسطة الحواس، وعلى ذلك فكل القضايا الرياضية مشتقة من طبائع عقولنا؛ لأنها تتعلق إما بالمكان أو بالزمان، وهذان كما قلنا قد خلقناهما بأنفسنا من أنفسنا، فالهندسة تختص بالمكان، والحساب يتوقف على إدراكنا للزمان؛ لأنه أعداد، والعدد عبارة عن تكرار الوحدة، والتكرار معناه التعاقب والتتابع، وهذا هو الزمن، وعلى ذلك فالمبادئ الرياضية لم تأت لنا من الخارج، ولكنا خلقناها من أنفسنا، فهي إذن فطرية لا تعتمد على التجربة، أعني أنها خالصة مجردة، ويستحيل أن يثبت خطؤها أو أن يظهر فيها شيء من التناقض، ومعنى ذلك كله أن الرياضة باعتبارها علما خالصا ممكنة المعرفة، ما دام الزمان والمكان موجودين فينا بالفطرة، وبذلك يكون «كانت» قد أجاب عن السؤال الأول.

يتضح مما سبق أن «كانت» وقف بمذهبه بين الواقعية والمثالية؛ لأنه من ناحية اعترف بالإحساسات التي تأتينا من الخارج كمادة المعرفة الأولية، ولكنه من ناحية أخرى أكد فاعلية العقل واشتراكه في صياغة تلك الإحساسات في مدركات حسية،. هو واقعي مثالي؛ لأنه يرى أن الأشياء المكانية موجودة حقا وليست مجرد ظواهر، ولكن أساس وجودها هو المكان الذي يقع فينا وتخلقه عقولنا.

Bilinmeyen sayfa