Modern Felsefenin Hikayesi
قصة الفلسفة الحديثة
Türler
مضت سنوات خمس انتقل بعدها صاحب الدار التي كان «سبينوزا» يقيم بها إلى بلد قريب من ليدن
Leyden ، فرافقه الفيلسوف لما كان قد توشج بينهما من روابط الحب والائتلاف، ولا يزال المنزل الجديد الذي هبطاه قائما حتى اليوم، ولا يزال الطريق إليه يحمل اسم هذا الفيلسوف العظيم. في هذه الدار قضى «سبينواز» أعواما يعيش عيشا غليظا خشنا، ولكنه في تلك الفترة من حياته سما بفكره وسما حتى بلغ أسمى الذرى، وكثيرا ما كان يقضي في غرفته أياما ثلاثة يسبح في تأمله دون أن يرى أحدا، سوى الخادم الذي يقدم إليه طعامه المتواضع. واستأنف «سبينوزا» في بلده الجديد عمل العدس الزجاجي لكسب عيشه، ولكنه لم يستفد من صناعته هذه إلا أخشن العيش، فقد أسلم نفسه للحكمة التي اختصها بحبه وقلبه، حتى انتهى إلى فشل ذريع في حياته العملية كاد يعجزه عن أن يقيم أوده، ولكنه كان في بساطة عيشه سعيدا هانئا لما كان يصادفه من لذة بالغة في التفكير، وقد أجاب رجلا نصحه أن يدع التفكير، وأن يؤمن بالوحي في غير تردد ولا عناء، بقوله: «إنني أيقنت في بعض الأوقات أن النتائج التي وصلت إليها بعقلي الطبيعي باطلة، ولكن ذلك لن يزيدني إلا اقتناعا بالعقل، لأنني سعيد في عملية التفكير نفسها.» نعم، كان فيلسوفنا سعيدا في تفكيره، لا يعبأ بزخرف الحياة كثيرا أو قليلا، ولعله أسرف في تقشفه، حتى كان لا يرتدي من الثياب إلا رداء قذرا رثا تمجه العين. ويروى في ذلك أن كبيرا من كبراء الدولة قصد إليه يوما ليراه، فألفاه في كساء قذر، فامتعض وأنحى على الفيلسوف باللائمة، ثم منحه رداء جديدا، فأجابه «سبينوزا» قائلا: إن الرجل لا يسمو به رداء جميل، واعتذر عن الهبة بقوله إنه لا يعقل أن يلف شيء تافه في غلاف ثمين.
سبينوزا في الطريق، منبوذا من الناس.
قضى سبينوزا في رينسبرج
Rhynsburg
سنوات خمسا كتب فيها رسالته الصغيرة «في تحسين العقل» كما كتب كتابا اسمه «الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي»، وقد فرغ من هذا الكتاب في سنة 1665م، ولكنه لبث عشرة أعوام دون أن يذيعه في الناس، وذلك خشية أن يصيبه من السجن والتعذيب ما أصاب رجلا نشر سنة 1668م كتابا يحوي آراء مماثلة لما أثبته «سبينوزا» في كتابه، فكان جزاؤه الحكم عليه بالسجن سنوات عشرا لم يتمها، ومات في خلالها، وقد ظن فيلسوفنا أنه مستطيع نشر كتابه في أمستردام حيث الآراء مكفولة حريتها نوعا ما، ولكنه لم يكد يحل بالمدينة حتى ذاع بين الناس أن «سبينوزا» سيصدر كتابا يحاول فيه أن يقيم الدليل على إنكار الله، ويقول «سبينوزا» في خطاب أرسله لأحد أصدقائه: «... يؤلمني أن أقول إن كثيرا من الناس قد تقبل الإشاعة على أنها حقيقة، وأن بعض رجال الدين قد انتهز هذا الموقف فشكوني إلى الأمير وإلى رجال الدولة ... فلما جاءني هذا النبأ من بعض المخلصين من أصدقائي الذين أكدوا لي أن رجال الدين يتربصون بي في كل مكان، أزمعت ألا أنشر الكتاب حتى يحين الوقت الملائم.» وشاء الله ألا يصدر كتاب «الأخلاق» - وهو خير ما أنتجه الفيلسوف - إلا بعد موته، إذ نشر في سنة 1677م مضافا إليه رسالة في «السياسة» لم يتمها. وكانت كل هذه الكتب مسطورة باللاتينية؛ لأنها كانت لغة الفلسفة والعلم في أوربا في القرن السابع عشر. وقد وجدت له بعد موته رسالة أخرى غير ما ذكرناها أسماها «رسالة موجزة في الله والإنسان»، أراد بها فيما يظهر أن تكون مقدمة تمهيدية «للأخلاق»، وأما الكتب التي نشرها في حياته فهي «أصول الفلسفة الديكارتية» و«رسالة في الدين والدولة»، وهذه الأخيرة صدرت خلوا من اسم المؤلف، فحرمت الحكومة بيعها، وكان ذلك عاملا على ذيوعها متسترة وراء عنوانات مختلفة، فسماها بعض الناشرين «رسالة طبية»، وسماها آخرون «قصة تاريخية» وهكذا، وقد تصدى لتفنيد هذا الكتاب عشرات من الكتاب، وأطلق بعضهم على سبينوزا، بعد أن عرف أنه المؤلف المتنكر «أنه أفجر ملحد شهدته الأرض.» كما تبرع فريق كبير من الكاتبين برسائل بعثوا بها إلى الفيلسوف يقصدون هدايته ورده إلى حظيرة الإيمان، نسوق منها مثلا رسالة جاءته من ألبرت برج
Albert Burgh ، وقد كان تلميذا سابقا لسبينوزا: «لقد زعمت أنك وجدت الفلسفة الصحيحة آخر الأمر، فكيف عرفت أن فلسفتك أصدق مما درس في العالم من قبل، ومما يدرس الآن، ومما سيدرس في الأيام المقبلة من فلسفات؟ ولندع ما قد تنتجه الأيام المقبلة، فهل اختبرت الفلسفة كلها، قديمها وحديثها، التي يدرسها الناس في الهند وفي أنحاء الدنيا جميعا؟ وإذا سلمنا أنك قد اختبرتها اختبارا صحيحا، فمن أدراك أنك قد تخيرت منها أصحها؟ كيف تجرؤ أن تضع نفسك فوق رجال الدين جميعا والأنبياء والقديسين والشهداء والعلماء ومعلمي الكنيسة؟ ألا إنك لإنسان منكود، ودودة تسعى على الأرض، نعم إنك جثة وطعام للدود، فكيف تعارض الحكمة الخالدة بكفرك اللعين؟ علام بنيت هذا المذهب الأحمق المأفون الأسيف؟ أي غرور شيطاني دفعك أن تصدر حكما في المعجزات التي يعترف الكاثوليك أنفسهم بأنها فوق العقول ...»
فأجاب سبينوزا عن ذاك الخطاب بهذا الجواب: «أنت يا من تزعم أنك قد وجدت آخر الأمر أصدق الأدباء وأحسن المعلمين، ثم قصرت إيمانك عليهم، كيف عرفت أنهم أحسن من علموا الأديان من قبل، ومن يعلمونها اليوم، ومن سيعلمونها منذ اليوم؟ هل اختبرت كل هذه الديانات قديمها وحديثها، التي يتعلمها الناس هنا وفي الهند وفي أصقاع الأرض جميعا؟ وحتى لو سلمت أنك قد اختبرتها اختبارا صحيحا، فمن أدراك أنك قد تخيرت منها أقومها؟»
ولكن إلى جانب هؤلاء الساخطين، كان للفيلسوف طائفة كبيرة من المعجبين به المقدرين نبوغه، ومنهم من أوصى له بقدر كبير من ماله لينفق منه عن سعة، ويكفي أن تعلم أن بين هؤلاء المعجبين لويس الرابع عشر الذي أجرى على الفيلسوف راتبا سنويا، وفي مقابل هذا العطف أهدى سبينوزا إليه أحد كتبه الخالدة.
ولما كان عام 1665م انتقل «سبينوزا» إلى إحدى ضواحي لاهاي ولبث بها خمس سنوات، ثم انتقل إلى لاهاي نفسها، حيث أقام بها، وبعد عامين (سنة 1672م) هاجم جيش فرنسي أرض هولندا وحاصر لاهاي، ولم يكد يستقر الجيش الفرنسي الفاتح، حتى دعا قائده «سبينوزا» أن يزوره في معسكره؛ لكي يقدم له الراتب الذي أجراه عليه ملك فرنسا، ولكي يقدم إليه فريقا من المعجبين بفلسفته ممن كانوا برفقة الجيش، فلم يتردد الفيلسوف في إجابة الدعوة إذ لم يكن له شأن بالخصومة التي تنشب بين الدول، بل إنه كان يرفض أن ينتسب إلى وطن من الأوطان، ويعد نفسه «أوروبيا»، فلما عاد إلى المدينة بعد زيارته للقائد الفرنسي، ذاعت في الناس أنباء الزيارة فاحتشد الناس غاضبين يريدون به سوءا وشرا، ولكنهم ما لبثوا أن تفرق شملهم في هدوء وسكينة، إذ علموا أن الرجل فيلسوف لا يزج بنفسه في معمعان الخصومة والعداء.
Bilinmeyen sayfa