ولم يكن شيمينيس بالرجل الذي يسهل صرفه عن أغراضه ومآربه، فأغرى الملكة أن تصدر مرسوما تخير فيه العرب بين التنصر ومغادرة البلاد، وجاء في هذا المرسوم: أن أسلافهم كانوا مسيحيين، وأن الكنيسة تعدهم - وهم من سلالتهم - مسيحيين منذ الولادة، فيجب عليهم أن يظهروا دينهم الموروث، وبعد هذا المرسوم أغلق الكردينال الحانق المساجد، وأحرق المخطوطات والكتب النفيسة التي هي عصارة الفكر العربي في عدة قرون، وأنذر المسلمون وعذبوا أشد العذاب ليدخلوا في دين الرفق والرحمة، على الأسلوب الذي ارتضاه الملكان الكاثوليكيان لقسر اليهود على التنصر، وبهذه الوسائل خضعت جمهرة من العرب؛ لأنهم آثروا أن يتركوا دينهم على الشرود في بقاع الأرض بلا أهل ولا مأوى، ولكن جذوة من الروح العربية القديمة بقيت متأججة بين سكان جبال البشرات الذين لبثوا حينا من الدهر ثائرين ممتنعين على أعدائهم في معاقلهم الثلجية، وحاول المسيحيون أول الأمر القضاء على هذه الثورة فآبوا بالخيبة والاندحار.
وهذا الفوز الخلب لم يعمل إلا أن أثار غضب المسيحيين، وحفزهم على أخذ الثأر، فهجم صاحب تنديلة على قوجار، وهدم صاحب سيرين مسجدا على جماعة من النساء والأطفال كانوا التجئوا إليه من ويلات الحرب وكوارثها، وأخذ الملك فرديناند الطرق على العرب بامتلاك قلعة لانجارون، ففر من أبقت عليه السيوف إلى مراكش ومصر وتركيا، وعاشوا في هذه البلاد صناعا ماهرين، وهكذا انتهت الثورة الأولى بالبشرات.
وتلا ذلك نصف قرن والمسلمون في غيظ مكتوم، فقد أدوا مكرهين مرائين أقل ما يستطعيون أداءه من أمور الدين الذي فرض عليهم، ولكنهم كانوا إذا خلوا إلى أنفسهم جهدوا في غسل الماء المقدس الذي عمد به أطفالهم في الكنيسة، وإذا زوجهم قسيس أسرعوا إلى منازلهم فأعادوا عقد الزواج على سنن شريعة الإسلام، ثم إنهم أعانوا لصوص البحر الذين كانوا ينزلون بثغور الأندلس على اختطاف أطفال المسيحيين.
وقد كان في استطاعة حكومة الأندلس أن تتقي هذه الأخطار وتلك الأحقاد الدفينة لو أنها كانت حكومة حازمة أمينة، ترعى عهودها التي واثقت المسلمين عليها عند تسليم غرناطة، ولكن حكام إسبانيا لم يكونوا حازمين، ولم يكونوا أمناء في معاملة العرب، فقد أكرهوهم على أن يخلعوا أزياءهم الوطنية الجميلة ليستبدلوا بها قبعات النصارى وسراويلهم، وعلى أن يهجروا سنة الغسل والاستحمام اقتداء بغالبيهم في الصبر على تراكم الأقذار، ثم على أن ينبذوا لغتهم وعاداتهم وأسماءهم، وأن يتكلموا بالإسبانية، ويعملوا كما يعمل الإسبان، ويغيروا أسماءهم بأسماء إسبانية.
وكان تجريد العرب من قوميتهم ودينهم دفعة واحدة فوق احتمال أي شعب وقبيل، بله سلائل عبد الرحمن والمنصور وبني سراج، وحدث يوما شغب من جراء بعض جباة الضرائب الظلمة، فاشتعلت نار الفتنة الخامدة التي كانت تتحرق إلى الاشتعال، وقتل بعض الزراع بعض جنود الإسبان الذين كانوا يحتلون دورهم، وثار صباغ بغرناطة اسمه فرج بن فرج ينتمي إلى بني سراج، وجمع حوله جماعة من الساخطين ذوي الحمية، وفر بهم إلى الجبال قبل أن تدركهم الحامية، ونادت هذه الجماعة بهرناندو آل فالور ملكا على الأندلس وسموه محمد بن أمية، وهو رجل من نسل خلفاء قرطبة ومن أعيان غرناطة يزن بإسرافه في الشهوات، وبعد أسبوع عمت الثورة وحمل رجال البشرات كلهم السلاح، وكان هذا بدء الثورة الثانية سنة 1568م/976ه، وكانت منطقة البشرات من أحسن المناطق لنمو الثورات، فإن الأرض المرتفعة بين جبال نيفادا والبحر - وطولها نحو تسعة عشر ميلا، وعرضها نحو أحد عشر ميلا - ليست إلا وعرا تتقاسمه التلال الصلدة، والأخاديد العميقة حتى ليصعب أن يجد فيه المرء قطعة مطمئنة إلا في وادي أندرش الصغير، وإلا في نطاق ضيق يتوسط بين البحر والجبال.
واستمرت الثورة مشتعلة بالبشرات سنتين، ولم يطفئها الإسبان إلا بعد جهد عنيف، وتاريخ هذه الثورة ممتلئ بأعمال الجرأة، والتعذيب، والقتل، والخيانة، والقسوة الوحشية من كلا الفريقين، غير أن هذه الأعمال البشعة كان يتخللها كثير من أعمال البطولة والجلد الجديرة بأن تشرف أي عصر وأي قبيل، وكان صراع العرب شديدا يائسا؛ لأن المعركة كانت آخر معركة لهم في آخر مكان يستطيعون الوقوف فيه، فقد أحسوا أنهم يطاردون، فأخذوا في هجماتهم الأولى، والغضب ملء خياشيمهم، ينتقمون لما نالهم من ضروب الإهانة والاضطهاد في مدى مائة عام، فثارت قرية بعد قرية في وجوه الإسبان، ولطخت الكنائس بالأقذار، وجعلت صورة العذراء غرضا للرماة، وذبح العرب القساوسة، وكثيرا ما نكلوا بالمسيحيين الذين التجئوا إلى الأبراج والحصون.
وفل قائد غرناطة مركيز منديجار من غرب هذا العصيان قليلا بهجمة عنيفة على الجبال ، كان فيها على رأس أربعة آلاف من الجنود الأشداء، ثم حاول أن يأخذ الثوار باللين والمسالمة والصفح، وكاد يفلح لولا أن حدثت مذبحة للعرب بجيوبيليس، ولولا أن غدر الإسبان بالعرب ونكثوا بعهودهم في لارول، فأثار كل ذلك غضب المسلمين، وأعاد نيران الثورة إلى تأججها بعد أن كادت تبوخ، ثم تلا ذلك أن ذبح طائفة من المسجونين الإسبان بسجن البيازين مائة وعشرة من العرب، فجاء ذلك ضغثا على إبالة، وزاد في حنق العرب المضطهدين، وكان منديجار بريئا من تلويث يده بهذه الأعمال الدموية، راغبا في مسالمة العرب، وقد سار بحرسه إلى السجن ليهدئ ما به من ثورة واضطراب، ولكن رئيس شرطة المدينة أخبره في الطريق أن لا داعي لذهابه؛ لأن جميع من بالسجن من العرب قد ماتوا.
وبعد هذه الحوادث كان العرب يفوزون كل يوم بانتصار جديد، وأصبح ابن أمية أميرا بالفعل على جميع ولاية البشرات، ولكن هذا الأمير الضعيف المستهتر لم ينعم بالحكم فترة قصيرة حتى ذبحه في سريره بعض أتباعه سنة 1569م/977ه لبغضهم إياه، ولما حام حوله من الشبهات، وخلفه في الملك والزعامة مولاي عبد الله ابن أبيه، وكان صنديدا مخلصا، وقائدا صادق العزم، يقذف بنفسه بين مخالب الموت فداء لأتباعه وأنصاره، غير أن القدر كتب على ابن أبية هذا أن يحارب عدوا من صنف جديد، ذلك أن أخا الملك وهو الدون جون الأوستري، وهو شاب في الثانية والعشرين، ملأته الآمال، وتكهنت بعظمته المخايل - خلف منديجار على قيادة الجيوش، فأقنع فيليب بعد أن تبادلا كثيرا من الرسائل بخطورة الموقف وتفاقم الخطب وضرورة اتخاذ وسائل عنيفة لحسمه، فوصل إليه في النهاية أمر من الملك بالهجوم، ولم يتوقع العرب من الإسبان بعد صدور هذا الأمر الخطير إلا أن يمنحوهم وقتا قصيرا للتوبة والإنابة، ففي غضون الشتاء سنة 1569-1570 (977-978ه) زحف الدون جون على العرب، ولم يجئ مايو إلا وقد كانت شروط التسليم قد أعدت، أما الأشهر التي مرت بين بدء هذه الحرب ونهايتها فقد لطخت بأنهار من الدماء؛ لأن شعار الدون جون كان «لا إبقاء ولا هوادة» فذبحت النساء والأطفال بأمره، وتحت سمعه وبصره، وأصبحت قرى البشرات مجازر بشرية.
وبعد أن ظهر للعيان أن العصيان قد أخمد وبردت جذوته، انطلقت من بين الرماد آخر شرارة للثورة؛ ذلك أن ابن أبية بقي مجالدا فلم يخضع للإسبان، ولكن القتل أخضعه في النهاية، فحز رأسه وعلق على باب المذبح بغرناطة، وبقي معلقا ثلاثين عاما.
وجاء بعد الدون جون القائد الأعظم ريكيسنس، فقضى على هذه الشرارة الأخيرة للثورة في الخامس من نوفمبر سنة 1570م/978ه بطرق منظمة، فكان يحرق القرى بمن فيها، وكان يرسل الدخان على الملتجئين إلى الكهوف والأغوار حتى يموتوا أو يخرجوا فيموتوا، وانتظر النفي والرق كل من نجا من هذه الثورة - وكانوا قليلي العدد - فقد قتل في الثورة كما قيل أكثر من عشرين ألف عربي، وبقي منهم نحو خمسين ألفا، فلما جاء عيد جميع القديسين في سنة 1570م/978ه مجد الإسبان ذكرى الحواريين والشهداء، واحتفلوا فيه بالقضاء على من عثروا عليه من العرب، وحكم الإسبان على من أسروا في الثورة بالعبودية، ونفوا الباقين تحت حراسة الجنود بعد أن راقبوا شعاب الجبال حتى لا يفروا، ومات كثير من هؤلاء في الطريق من الجوع والنصب والعري، وذهب بعضهم إلى إفريقية فعاشوا بها يستجدون الناس؛ لأنهم لم يجدوا بها أرضا تصلح للحرث، وسار بعضهم إلى فرنسا فلم يلاقوا ترحيبا من هنري الرابع، وإن وجد فيهم أداة صالحة للكيد لإسبانيا، ولم ينته استمرار نفي العرب إلا في سنة 1610م/1019ه حين حكم في هذا العام على نحو نصف مليون منهم بالنفي، وقد ثبت أن من نفوا من العرب في المدة بين سقوط غرناطة والعقد الأول من القرن السابع عشر يبلغون ثلاثة ملايين.
Bilinmeyen sayfa