رأوا غرابا سانحا، فلما وصلوا إلى برغش رأوا غرابا بارحا.
ولما دخل برغش كان برفقته ستون رجلا، فهرع الرجال والنساء لمشاهدته عن بعد وهم حذرون، وأطل كثير من منافذ دورهم باكين محسورين، وصاحوا بصوت واحد: سبحان الله!! سبحان الله!! يا له من خادم كريم لو ظفر بسيد كريم!! وتمنوا أن يضيفوه في دورهم، ولكنهم لم يجرءوا؛ لأن ألفونسو في حدة غضبه أرسل رسائل إلى أهل برغش يحذرهم فيها من إيواء السيد، وينذر من يخالفه بمصادرة أمواله وسمل عينيه، واستولى الحزن والهم على النصارى حينما شاهدوا هذه المرزأة من بعيد، وأخذوا يختفون حينما قرب السيد منهم؛ لأنهم كانوا يحذرون مشافهته والقرب منه، فذهب السيد إلى «بوسادا» وهو الخان الذي كان ينزل به، فرأى صاحب الخان قد أسرع بإغلاق بابه خوفا من الملك، وعندما صاح رجاله بأبي المثوى أن يفتح الباب لم يجبهم أحد، فقرب السيد من الخان، وخلع قدمه من الركاب، وضرب الباب بها فلم يفتح؛ لأنه كان وثيق الغلق، وعندئذ خرجت فتاة صغيرة في التاسعة من إحدى الدور وقالت: أيها السيد، لقد نهانا الملك أن نؤويك فلم نستطع أن نفتح أبوابنا لاستقبالك، ولو فعلنا لفقدنا دورنا، وأموالنا، وأعيننا التي في رءوسنا، أيها السيد، إن مصيبتنا بإيوائك لن تساعدك، ولكن الله وجميع القديسين معك.
وعندما علم السيد بما أمر الملك به، لوى عنان جواده نحو كنيسة سنت ماري، وهناك ترجل وسجد، وصلى بقلب خافق يفيض رهبة وخشوعا، ثم ركب ثانية وغادر المدينة، حتى إذا كان غير بعيد من نهر أرلنسون عرس ودق أطنابه فوق الرمال؛ لأن أحدا لم يقبل أن يضيفه، فأقام بين أنصاره وصحبه كما لو كان مقيما بين الجبال التي خلت من دبيب الحياة.
وأذنت الديكة بأصواتها الندية، وبدت تباشير الصباح عندما وصل السيد إلى دير سنت بدرو، وكان إذ ذاك راهب الدير الدون سسبيوتو يؤدي صلاة الفجر، ومعه الدونة شيمانة زوج السيد في خمس من وصائفها النبيلات، يدعون الله والقديس بطرس أن يعين السيد ويشد أزره، فلما سمع الراهب صوت البطل لدى الباب كان سروره عظيما، فخرج هو ومن معه إليه يحملون المشاعل والشموع، وحمد الراهب الله أن متعه بلقائه، وأخذ السيد يقص عليه كل ما حدث له، وما رماه به الملك من النفي والاضطهاد، ثم منحه لنفسه خمسين دينارا، وأعطاه مائة دينار لزوجه وبنتيها وقال: أيها الراهب، إني أكل إلى رعايتك بنتي هاتين بعد أن أتركهما ورائي، فاخفض لهما جناح الرحمة، واعطف على زوجي ووصيفاتها، فإذا نفد هذا المال فأنفق عليهن سخيا مبسوط اليد، فإن كل دينار يصرف عليهم سيرد إلى الدير أربعة دنانير، فوعده الراهب بأنه سيفعل ما يؤمر بمشيئة الله، ثم تقدمت شيمانة إلى زوجها وهي تحمل طفلتيها، كل طفلة فوق ذراع، وجثت أمامه على ركبتيها وهي تبكي بكاء شديدا، وتومئ إلى يديه بالتقبيل، ثم قالت: انظر الآن كيف نبت بك بلادك وشمت بك الأعداء والحاسدون، وانظر الآن ما صار إليه أمري وأمر بنتي الصغيرتين، وكيف حكم علينا بالفراق ونحن أحياء؟! أقسم عليك بحق مريم إلا ما أخبرتني عما أفعل!! فحمل السيد طفلتيه فوق ذراعيه وضمهما إلى قلبه، وانتحب طويلا؛ لأنه كان شديد الحب لهما، وقال: إني سأحيا بمشيئة الله ومشيئة السيدة مريم حتى أزوج ابنتي هاتين، وحتى أقوم بشرف خدمتك أيتها الزوج النبيلة التي أحببتها كنفسي، وأقاموا في هذا الدير وليمة للبطل الكريم، وصدحت أجراس الدير برنات البهجة والسرور.
ومضت ستة أيام من المهلة التي منحها ألفونسو إياه لمغادرة البلاد، وبقي منها ثلاثة.
وكان ألفونسو صلب العود عنيدا، فلو أنه بقي في المملكة بعد انتهاء المهلة يوما واحدا ما استطاع أن ينقذه من براثنه ذهب ولا فضة، وفي هذا اليوم أولم مع أصحابه، ثم وزع عليهم في المساء كل ما يملك، فأعطى كل رجل على قدر منزلته، ثم أمرهم أن يتلاقوا بالدير عند صلاة الفجر ليرحلوا معا، وقبل أن يصيح الديك كانوا قد أخذوا أهبتهم واجتمعوا بالدير، فأدى بهم الراهب الصلاة حتى إذا انفتلوا منها أعدوا خيلهم للرحيل، وهنا أخذ السيد يعانق شيمانة وبنتيه ويدعو لهن، وكان فراقه لهن أشبه بنزع الظفر من لحم الأنامل، وعند مغادرة الدير طفق يبكي ويكثر من التلفت وترديد الزفرات، فقرب منه الڨارڨانز وقال: أين شجاعتك أيها السيد؟! لقد ولدت سعيد الطالع مجدودا!! فكر الآن في سفرنا، واعلم أن هذه الأحزان ستنقلب في يوم سعادة وسرورا.»
عرض السيد نفسه على أمير سرقسطة،
3
وكان أقوى ملوك المسلمين في الشمال، فرحب به وبرجاله وضمهم إلى جيشه.
ومن هناك قاد السيد أتباعه إلى غارة بأراغون، وكانوا قد شغفوا به ورأوا الغنم في متابعته، وكان سريع الضربة في هذه الغارة خفيف الخطا، حتى لقد قطع مسافات بعيدة في خمسة أيام، وفر بغنائمه قبل أن يشعر النصارى بمقدمه، ثم قاد العرب لمحاربة كونت برشلونة ففاز فوزا مبينا، حتى اضطر الكونت إلى محالفته.
Bilinmeyen sayfa