كان ينفق عليها كل سنة ثلث دخل المملكة
7
مدة خمس وعشرين سنة، ثم استمر ابنه من بعده في الإنفاق عليها مدة عشر سنين، وكان عدد العمال في كل يوم عشرة آلاف، وكان جملة ما يبنى منها في كل يوم من الصخر المنجور المعدل ستة آلاف صخرة، ويعمل في عمارتها في كل يوم نحو ثلاثة آلاف دابة، وأقيم بها من السواري أربعة آلاف كان كثير منها هدية من إمبراطور القسطنطينية
8
أو من رومة، أو قرطاجنة، أو سفاقس، أو غيرها، إلى جانب ما كان يؤخذ من مقاطع طركونة والمرية.
وكان بالزهراء خمسة عشر ألف باب ملبس بالحديد أو النحاس المموه، وكان سقف بهو الخليفة بالزهراء وحيطانه من الرخام والذهب وبفوارته تمثال عجيب أهداه إليه ملك الروم، وبعث إليه معه بدرة نادرة، وفي وسط البهو حوض ملئ بالزئبق الرجراج، إلى كل جانب منه ثمانية أبواب من العاج والآبنوس قد رصعت بالجواهر، فإذا دخلت أشعة الشمس من هذه الأبواب ولاقت اهتزاز الزئبق، ملأت البهو ببريق يشبه لمعان البروق، حتى لقد يحجب رجال الدولة عيونهم بأيديهم لشدته.
9
ويجد مؤلفو العرب متعة في التحدث بعجائب الزهراء فيقول بعضهم: «لقد يمتد بنا الحديث إذا اقتصرنا على عد ما بالزهراء من جمال وفن: فهناك الجداول الدافقة، والأمواه المتعرجة، والبساتين الزاهرة، والقصور الفخمة لسكنى رجال الدولة، وهناك صفوف الجند والخدم والعبيد من كل بلد وملة وهم في ملابس الحرير بين إقبال وإدبار في شوارعها الفسيحة، ثم هناك ازدحام القضاة والفقهاء والشعراء وهم يمشون في وقار ورهبة في أبهاء القصر الفخمة وأفنيته الكثيرة.»
وقد قدر عدد الفتيان من خدم القصر بخمسين وسبعمائة وثلاثة عشر ألفا، يصرف لهم في كل يوم من اللحم نحو ثلاثة عشر ألف رطل، حاشا أنواع الطير والحوت، وقدر عدد نساء القصر من كل جنس وطبقة - بما في ذلك نساء الخليفة ووصيفاتهن - بأربع عشرة وثلاثمائة وستة آلاف، وكان بالقصر من الخدم الصقالبة والخصيان خمسون وثلاثمائة وثلاثة آلاف، خصص بهم من اللحم أو الدجاج أو الطيور ثلاثة عشر ألف رطل، فمنهم من كان يصرف له عشرة أرطال، ومنهم من كان يصرف له أقل من ذلك على حسب منازلهم، وكان يقذف لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف رغيف في اليوم، غير ستة أقفزة من الحمص الأسود تنقع لها في كل يوم.
وعجائب هذا القصر دونت بإسهاب في كتب مؤرخي هذا العهد، وخطب بها الخطباء ونظمها الشعراء الذين استنفدوا كنوز البلاغة في أوصافهم «وقد أطبق كل من رأى قصر الزهراء على أنه لم يبن مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة من ملك وارد، أو رسول وافد، أو تاجر، أو جهبذ - وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة - إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبيها، بل لم يسمع، بل لم يكن يتوهم كون مثله، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب، والقبة وعجيب ما تضمنته من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف وبراعة الأثاث والفرش والسجف ما بين مرمر مسنون وذهب مصون، وعمد كأنها أفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى استقصاء التعبير عنها - لكفاه بعض ذلك شرفا ونبلا، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة لكي يري الغافلين عنه من عباده مثالا لما أعده لأهل السعادة في دار المقامة التي لا يتسلط عليها الفناء ولا تحتاج إلى الرم، لا إله إلا هو المنفرد بالكرم».
Bilinmeyen sayfa