وكان من المحزن المستدر للرحمة حقا أن ترى رجالا يقذفون بأرواحهم وأرواح غيرهم في سبيل حلم كاذب، فإن هذا الانتحار الديني لم يكن أكثر تعقلا أو أدخل في باب الدين، مما كان يقاسيه قساوسة «بال» الذين كانوا يقطعون أجسامهم بالسكاكين، أو مما يفعله زهاد الهنود الذين كانوا يدخلون أظفارهم في راحهم ثم يتركونها لتنمو فيها، وجنون الشهداء في سبيل أشرف وأعلى من سبيل هؤلاء لن يجعلهم أقل منهم جنونا، إن المسيحية لا تعلم دعاتها أن يطوحوا بحياتهم هدرا لمحض التمتع بالتعذيب والقتل، على أن نصارى الأندلس لم يضطهدوا ولم يحل بينهم وبين شعائر دينهم حائل، ولم يكن المسلمون يجهلون المسيحية أو يحتاجون إلى من يلقنهم تعاليمها؛ فقد كانوا يعرفون من الكتاب المقدس أكثر مما يعرف نصارى الأندلس أنفسهم، وكانوا لا يذكرون اسم عيسى من غير أن يتبعوه بالصلاة والتسليم؛ لأن قدسية المسيح وإحاطة اسمه بالإجلال والتبجيل من أظهر مبادئ الإسلام، وكل ما في الأمر أن المسلمين كانوا يؤثرون دينهم، فلم يكن للنصارى من عذر في الظهور بمظهر المضطهدين المستذلين بعد أن ترك لهم المسلمون دينهم، وفي الحق إننا لا نجد سببا معقولا لتهافت النصارى على الموت ما دام المسلمون قد سمحوا لهم بإقامة شعائرهم، وأجازوا لهم أن يعظوا وأن يعلموا من غير عائق أو حائل.
ليس هناك من علة مشروعة لبحث هؤلاء عن حتفهم بظلفهم، إلا إذا أرادوا أن يتنكبوا عمدا طريق الإنجيل، وأن ينبذوا جانبا تعاليم المسيح الذي يقول: «أحبوا أعداءكم، اعملوا الخير لمن يبغضكم، واستغفروا لمن يظلمونكم أو يضطهدونكم.» إنهم لم يظلموا ولم يضطهدوا ولم يمس المسلمون جمهرة النصارى بسوء، نعم إن بعض العامة كان يسخر أحيانا من القساوسة، ولكن طبقات المسلمين الأخرى لم تشترك في شيء من هذا، مع كل هذا التسامح وهذا العطف واللين أبى هؤلاء النصارى المساكين أن يحبوا أعداءهم، وتجاوزوا جادة الصواب في سبهم ولعنهم وإثارة غضبهم، لا لشيء إلا لحملهم على قتلهم ليموتوا شهداء في سبيل الدين.
ومن الأحكام المعروفة في بلاد المسلمين أن يعاقب من يسب النبي أو دينه بالقتل، نعم إنه حكم شديد قاس، ولكن الدنيا شهدت من القوانين ما لا يقل عنه قسوة وشدة؛ فقد كان الناس يحرقون بين صيحات السرور في إسمثفيلد وأكسفورد في عصور تلي هذا العصر الذي نكتب فيه.
8
ليس من المسيحية أن تثير عمدا عراكا دينيا أو تسب دينا غير دينك، وليس استشهادا بل انتحارا أن تتعدى مختارا حدود شريعة يجر تعديها إلى الموت، إن الرحمة التي تثير نفوسنا لشهداء قرطبة هي بعينها الرحمة التي تخالجنا لمن أصيبوا بالخباط (الهيستريا)؛ لأن من قتل منهم كان في الحقيقة شهيدا لمرض نفسي، وحال هذا تستدعي من الرحمة ما يستدعيه موت المستشهد في سبيل الدين.
كان يولوجيوس الروح المثيرة لهذه الانتحارات، وهو قسيس ينتمي إلى أسرة عريقة بقرطبة، اشتهر بحماسته الدينية؛ فقد قضى سنوات في الصوم والصلوات والإنابة وتعذيب النفس، حتى وصل إلى حال من الذهول دفعته في سبيل إخلاصه لدينه إلى الجرأة والتهور، وعزف به الزهد عن الميل إلى الحياة الدنيا، فلم يفكر يوما في نفسه، ولم يطمح إلى مأرب دنيوي، بل كانت كل أمانيه ومقاصده أن يصب اللعنات على دين المسلمين، وأن يوقظ روح التضحية السامية بين النصارى، وأعانه على الوصول إلى غايته شاب غني بقرطبة يدعى «الفارو» ثم عدد قليل من متحمسي القساوسة والرهبان والنساء والمسيحيين، وكان بين من أعجبوا بهذا القسيس الشاب المخلص فتاة على غاية من الجمال تدعى «فلورا» كان أبوها مسلما وأمها نصرانية، فنشأتها سرا على النصرانية، وبقيت فلورا عدة سنين مسلمة في ظاهر أحوالها، ولكنها فرت بعد ذلك من دار أخيها، وكان أبوها قد فارق الحياة، والتجأت إلى النصارى متأثرة بروح التضحية والتعصب التي أثارها يولوجيوس في سامعيه، وبما سمعت من بعض فقرات في الكتاب المقدس هاجت شعورها مثل: «إن الذي يجحدني أمام الناس سأجحده أمام أبي في السماء.»
ولما افتقدها أخوها المسلم بحث عنها في كل مكان فلم يجد بحثه شيئا، فاتهم القساوسة فقذف كثير منهم في السجن لتآمرهم على اختطافها، ولما لم ترد فلورا أن يؤذى أحد في سبيلها عادت إلى دارها وأعلنت نصرانيتها في صراحة وجرأة، وبذل أخوها أشد الوسائل وأعنفها لقسرها على العودة إلى الإسلام فلم يفلح، حتى إذا يئس في النهاية ساقها إلى القاضي متهما إياها بالردة، ومن المقرر أن الإسلام يعد ابن المسلم مسلما وإن كانت أمه نصرانية، ويعاقب على الردة بالقتل، ولا يزال هذا الحكم قائما إلى اليوم بتركيا، وإن تغافل الحكام عن تنفيذه من أربعين سنة.
ولن ينتظر من عرب الأندلس الذين سبقوا عهد الترك بألف سنة أن يكونوا أكثر تسامحا من الترك نحو المرتدين، ومع هذا أظهر القاضي الذي حضرت أمامه فلورا بعض الشفقة على الفتاة التعسة فلم يحكم بقتلها كما يوجب الدين، ولم يحكم بسجنها، ولكنه أمر بها فضربت ضربا شديدا، وطلب من أخيها أن يأخذها إلى داره ويلقنها تعاليم الإسلام، ولكنها فرت ثانية والتجأت إلى بعض أصدقائها، وهناك قابلت أول مرة يولوجيوس الذي أكن لهذه الفتاة الجميلة البائسة المخلصة حبا طاهرا حنانا يشبه حب الملائكة، فإن سمو نفسها وورعها وشجاعتها التي لا تغلب جعلتها قديسة في عينيه، حتى إنه بعد ست سنوات من هذه المقابلة لم ينس ما تركته في نفسه من الأثر حينما كتب إليها:
لقد تفضلت أيتها الأخت القديسة أن تريني عنقك وقد مزقته السياط، وقد قص الظلمة من حوله تلك الخصل الجميلة التي كانت تتدلى فوقه كأسلاك الذهب، فعلت ذلك لأنك عددتني أبا روحانيا، واعتقدت أن نفسي كنفسك صافية طاهرة، وقد وضعت يدي برفق على هذه الجروح، ووددت أن أبرئها بشفتي لو استطعت، وحينما فارقتك كنت كمن يمشي في حلم، واستمرت زفراتي وتأوهاتي.
نقلت فلورا مع أخت لها تماثلها في الرأي والتعصب إلى مكان خفي أمين، فلم يرها يولوجيوس فترة من الزمن.
Bilinmeyen sayfa