وأن ثوار البربر في المغرب لن يتخلوا عن الاستقلال الجديد الذي نالوه ليحظوا بالشرف الأجوف بتولية أحد الأمويين عليهم.
عند ذلك حول نظره إلى الأندلس؛ حيث كان الصراع الدائم بين القبائل والعشائر المتنافسة جديرا بأن يفتح بابا لعبقري مثله، يؤيده النسب الأموي وتزكيه الهمة العالية؛ لذلك أرسل خادمه بدرا إلى زعماء حزب الشام بإسبانيا، وكان بينهم كثير من موالي الأمويين الذين يوجب عليهم الشرف العربي نصر من ينتمي إلى ساداتهم الأولين، ورأى بدر من هؤلاء الزعماء رغبة في استقبال الأمير الشاب بعد أن فاوضوا القبائل المعادية من اليمن فوعدت بنصرته، عندئذ عاد بدر إلى إفريقية.
وكان عبد الرحمن يصلي على سيف البحر حينما رأى السفينة التي تحمل خير الأخبار مقبلة إليه، وكان يميل إلى الأخذ بالفأل كجميع المشارقة الذين طبعوا على التفاؤل والتطير، واتفق أن أول رسول أندلسي قدم مع بدر كان اسمه أبا غالب تماما، فلما عرف عبد الرحمن اسمه صاح: «تم أمرنا وغلبنا بحول الله وقوته.» ثم نزل إلى السفينة فأبحرت به إلى إسبانيا في سبتمبر سنة 755م/138ه وكان دخول هذا الناجي الفذ من بين السلالة الأموية الأندلس أشبه بصفحة من قصة عجيبة، وهو يشبه وصول الشاب الذي ادعى ملك إنجلترا إلى أسكتلندة سنة 1745م.
وانتشر خبر دخوله الأندلس انتشار النار في الهشيم، فتزاحم عليه المناصرون القدماء للدولة الأموية يقدمون الطاعة، ووضع أبناء موالي الأمويين أنفسهم تحت أمره، وتأثرت قبائل اليمن التي لم تكن تشعر بانعطاف نحو الأمير الشاب، بحماسة أنصاره، فانتقلت إليها العدوى، وعقدت الخناصر على البر بوعدها، وتواثقت على نصرته.
ورأى أمير الأندلس معظم جنوده وقد انصرف عنه، فاضطر إلى انتظار جيش جديد، على أن الأمطار في هذا الفصل من السنة جعلت القتال مستحيلا، فترك ذلك لعبد الرحمن متسعا من الزمن يجمع فيه جنوده، ويدبر أمره.
بدأ الصدام شديدا في ربيع السنة التالية، واستقبل عبد الرحمن بحماسة وترحاب في أرشذونة وإشبيلية، فأعد جيشه للهجوم على قرطبة، وزحف الأمير يوسف بن عبد الرحمن الفهري لوقف تقدمه، ولكن الوادي الكبير كان فياضا بماء المطر، فتسابق الجيشان على كلا شاطئيه، أيهما يكون أسبق وصولا إلى قرطبة.
7
ولكن عبد الرحمن خدع يوسف بحيلة لا تليق بالأبطال، فطلب منه أن يتركه يجتاز النهر بعد أن هبط ماؤه ليعقد معه صلحا، فلما وصل إلى الشاطئ الآخر انقض على جيش يوسف بعد أن وثق الأمير بوعده، فتغلب عليه ودخل قرطبة ظافرا، وكان له من الهيبة والشهامة والنخوة ما منع الجند من النهب والتخريب، وحمل نساء الأمير المهزوم وأسرته إلى مأمنها، ولم تمض السنة إلا وهو مسيطر على جميع ما احتازه المسلمون من أرض إسبانيا، وبهذا الإقدام النادر وبهمة عبد الرحمن قدر للدولة الأموية بقرطبة أن تستمر في الحكم نحو ثلاثة قرون.
ولم يثبت أمير قرطبة الجديد فوق عرشه بغير جهاد أو نصب، فإن الذي أجلسه على العرش وذلل سبيله إليه لم يكن إلا حزبا صغيرا من الأحزاب الكثيرة التي اقتسمت المملكة فيما بينها، غير أن عبد الرحمن كان أكثر استعدادا وأوسع حيلة من سواه للاحتفاظ بملكه بين هذه العناصر المضطربة المشاغبة، فإنه كان سريعا عند الخطب، قوي العزيمة، غير متحرج إذا صمم، شديد البطش، لا يرعى إلا ولا ذمة، سياسيا داهية، أعد لكل مفاجأة عدتها، وكثيرا ما دهمته الحوادث فرأت فيه بطلا هماما.
ولم يستقر بعرشه طويلا حتى اجتاز العلاء بن مغيث من إفريقية ليرفع العلم العباسي بإسبانيا، ولم ينزل برجاله في ولاية باجة حتى اتخذ له مناصرين من بين الساخطين المستعدين دائما للانضمام إلى من يدعوهم لغنم جديد، فحاصر عبد الرحمن شهرين في قرمونة، وكان هذا الحصار شديد الخطر؛ لأن كل يوم يمر فيه كان يحمل إلى الأعداء مددا جديدا، ولكن عبد الرحمن كان عبقريا، فما كاد يسمع أن الأعداء خففوا بعض التخفيف من مراقبتهم وحذرهم حتى جمع سبعمائة من أشجع أصحابه، ثم أوقد نارا عظيمة وصاح فيهم: «إننا الآن بين حالين: فإما إلى نصر مؤزر، وإما إلى موت محقق.» ثم ألقى بقراب سيفه في اللهب، وتأثر رجاله فألقوا بقربهم في النار معه معلنين أنهم لن يضعوا سيوفهم في أغمادها حتى يفك حصارهم ويصبحوا أحرارا، ثم انطلقوا خلف قائدهم، وانقضوا على محاصريهم بالأسنان والأظافر، فمزق الجيش العباسي وذهب بددا.
Bilinmeyen sayfa