3
أصدر أحمد حسن الزيات مجلة الرسالة في أول سنة 1933م، فكأنما كان صاحبنا يترقب ظهور مجلة تناسبه؛ إذ لم تكد الرسالة تصدر حتى أخذ يرسل إليها مقالات متلاحقة عن الفلاسفة، والفلاسفة المحدثين على وجه الخصوص؛ فكتب عن ديكارت، واسبينوزا، ولينبتنر، وهيجل، وسبنسر، وبرجسون، ورسل وغيرهم، كل ذلك ولم يكن قد ذهب إلى مكتب المجلة ليقابل صاحبها ورئيس تحريرها، لكنه بعد أن نشرت له مقالات تبلغ العشرين أو نحوها، تغلب على خجله وانطوائه وقصد إلى صاحب الرسالة في مقره، وإذا ذلك المقر هو غرفة مستعارة من الشقة التي كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر تتخذها مكانا لها، وعندما وصل صاحبنا إلى مكتب المجلة وجد أحمد أمين هناك، ولم يكن قد رآه قط من قبل، وأحمد أمين هو رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ نشأت سنة 1914م وحتى وافاه الأجل سنة 1954م، فما إن عرف أن القادم عليهما هو فلان؛ رحب به ترحيبا لم يكن صاحبنا الشاب يتوقعه أو يتصوره، وكذلك فعل الزيات، وأثنى كلاهما ثناء طيبا على مجموعة المقالات التي نشرت لصاحبنا في الرسالة، ثم ما هو إلا أن اصطحبه الأستاذ أحمد أمين إلى ردهة المكان، وجلسا معا ليعرض الأستاذ على صاحبه أولا أن يقترح ضمه عضوا في لجنة التأليف، وثانيا أن يتعاونا معا على إخراج سلسلة من كتب تعرض الفلسفة في أسلوب سهل واضح يناسب أوساط المثقفين، فكادت استجابة الكاتب الشاب تسبق العرض، وفي أشهر قليلة - لا أظنها جاوزت أربعة أو خمسة - كان كتاب «قصة الفلسفة اليونانية» معدا للمطبعة 1935م، وبعده بما لا يزيد عن عام وبعض عام، كان الكتاب الثاني بجزأيه «قصة الفلسفة الحديثة» تدور به عجلات المطبعة.
كانت خطة العمل في هذين الكتابين - كما هو مذكور في مقدمتيهما - هي أن يختار لكل منهما مرجع إنجليزي جيد؛ ليتخذ أساسا، ثم يضاف إليه هنا وهناك ما يظن أنها جوانب لم يذكرها الكتاب المختار، مع ضرورة ذكرها في رأيهما؛ ولهذا وجد «المؤلفان» أن الكتب التي أخرجاها بهذه الطريقة ليست «تأليفا» بالمعنى الأكاديمي الصحيح، فأطلقا على العمل كلمة «تصنيف»، ووضعا هذه الصفة فوق الغلاف.
وها هنا أريد أن أنقل الحديث من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وبدل أن أتحدث عن صاحبنا، أجعل الحديث منسوبا إلى شخصي الراهن، فأقول: إنني كنت في كتاب «قصة الفلسفة الحديثة» صاحب فضل على المصطلح الفلسفي لم يذكره لي دارس واحد من دارسي الفلسفية، وأبى علي خيالي أن أذكره بنفسي عن نفسي، وإذا لم أغلب هذا الحياء الآن قبل أن تفلت هذه الفرصة الأخيرة، فربما ماتت الحقيقة مع موتي؛ وذلك أنه كانت الفلسفة اليونانية قد سبق إلى نقلها العرب الأقدمون إلى اللغة العربية، فصاغوا لها مصطلحها، فإن الفلسفة الحديثة لم تظهر متكاملة في كتاب عربي قبل كتابنا «قصة الفلسفة الحديثة»، فكان لا بد من خلق المصطلحات العربية لأول مرة، ولست أفتري على الحق إذا زعمت بأن عددا كبيرا مما شاع بعد ذلك واستقر في مصطلح الفلسفة الحديثة هو من صناعتي، ذلك هو الحق، ولعن الله الساكت عن الحق، فهو - كما يقال - شيطان أخرس.
كان توفيقنا في عرض الفلسفة بهذين الكتابين: «قصة الفلسفة اليونانية»، و«قصة الفلسفة الحديثة»، في بيان عربي واضح وجذاب، سببا في انتشارهما على نطاق واسع؛ فلقد مرت خمسون عاما تقريبا منذ ظهورهما إلى هذا اليوم الذي أكتب فيه الآن (1982م)، ومع ذلك ما زالت تتوالى فيهما الصعاب، وما زالا يؤديان الرسالة التي أريدت لهما حين كتبا أول مرة، وهي أن يعرضا تاريخ الفلسفة في صورة مشرقة ينجذب إليها القارئ العابر والطالب الدارس على حد سواء.
وأعود إلى الحديث عن صاحبنا الشاب خلال الثلاثينيات عندما كان متوهج الشعلة، لا يكل ولا يمل ولا يفتر، يواصل العمل كل ساعات النهار وشطرا كبيرا من ساعات الليل، لا يريد لنفسه راحة أو متعة كأنه كان مسخرا من إرادة خفية تحفزه إلى النشاط الدائب، ولا تدعه ليستريح ساعة إذا أمكن أن يملأ تلك الساعة بالعمل والدرس والتحصيل والكتابة.
ففي الفترة الزمنية القصيرة نفسها، التي كتب فيها قصتي الفلسفة - اليونانية والحديثة - ترجم عن الإنجليزية أربع محاورات لأفلاطون، وهي المحاورات الأربع التي توصف أحيانا بأنها المحاورات السقراطية؛ بمعنى أن ما يتحدث به سقراط فيها هو حقيقة تاريخية عن شخص سقراط، وليس هو فيها مجرد شخصية يستخدمها أفلاطون ليجري على لسانه ما يريد أفلاطون أن يقوله، شأن سقراط في ذلك كشأن سائر الشخصيات التي نراها في الأدب المسرحي. وأما تلك المحاورات السقراطية الأربع التي نقلها صاحبنا إلى العربية في تلك المرحلة من حياته العقلية فهي: الدفاع، وأقريطون، وأوطيفرون، وفيدون. والحمد لله؛ فقد كان نصيب تلك الترجمة من النجاح مماثلا لنصيب قصتي الفلسفة، فما تزال تطبع مرة بعد مرة كل عام، لم ينقص طلب الدارسين لها حتى بعد أن مرت على ظهورها نحو خمسين عاما.
4
منذ حمل صاحبنا القلم لأول مرة وإلى هذه الساعة التي أكتب عنه هذه الصفحات، وهو يؤمن إيمانا جازما بحرية الأفراد، لا يريد لتلك الحرية أن تنتهك لأي سبب من الأسباب، شريطة أن نحدد للفردية معناها بحرص شديد حتى لا يساء فهمها، وينقلب تعاون الأفراد داخل الأمة الواحدة - بل داخل الأسرة الواحدة - حربا يعلنها فرد على فرد كلما تعارضت بينهما الرغبات والأهداف؛ لأننا لو قبلنا مثل هذا الصراع لما بقي للفردية نفسها وجود، فهي تفنى بفناء الأفراد على طول المدى، وإن منطق العقل من جهة والفطرة السليمة من جهة أخرى ليقضيان بأن الفكرة المعينة إذا كانت بحكم مفهومها ذاته، تفنى بالوسائل نفسها التي تثبت بها وجودها، فإنما هي فكرة باطلة بموجب كيانها، وفكرة الفردية الحرة لا يدوم لها وجود إلا إذا تجدد معناها بما يصون لجميع الأفراد أن يصان وجودهم.
وكان صاحبنا إبان الثلاثينيات وما بعدها بقليل يحس خطرا داهما على حرية الأفراد، في نظم قامت واشتد عودها، وكان الخوف هو أن تنتشر عدواها لتشمل الدنيا بأسرها، وأعني بها - بصفة خاصة - النازية في ألمانية والفاشية في إيطاليا. وعلى الرغم من أن صاحبنا لم يمل بهواه نحو السياسة قط، إلا أنه من الناحية العقلية الصرف لم يجد في نفسه نازعا يستهويه تجاه الدكتاتورية كائنة ما كانت صورها وأهدافها؛ فالوسيلة هنا أهم من الهدف، وماذا تكون الوسيلة التي أرادوا التضحية بها في سبيل أهداف القوة والمجد، إلا حرية الأفراد، يجهزون عليها لتصبح الحرية مقصورة على فرد واحد هو الدكتاتور.
Bilinmeyen sayfa