وإذا قلنا: إن «الشكل» هو جوهر الفن؛ فقد قلنا بأن «الوحدة العضوية» بين أجزاء الأثر الفني الواحد هي سر الإبداع الفني؛ فالقيمة الفنية مرهونة - وجودا وعدما - بالوحدة العضوية حضورا وامتناعا، والوحدة العضوية هي التي تجعل من «الفرد» الواحد فردا واحدا لا تعدد لهويته برغم الكثرة الهائلة التي تدخل في كيانه، ولقد حدثتك عن وجهة نظري (في الفقرة السابقة) عن أهمية «التفرد» الذي لا يكون له شبيه بين كائنات الدنيا بأسرها - ما مضى منها وما هو كائن - في أن يكون الأدب أدبا أو الفن فنا.
لقد سئل هنري مور - إمام فن النحت في عصرنا - كيف اختلف فنه النحتي كل هذا الاختلاف البعيد عن فن النحت كما عرف أيام النهضة الأوروبية؟ فأدهش الجميع حين أجاب السائل بقوله: إنه لا فرق في الجوهر بين نحته ونحت رجال النهضة؛ لأنهم جميعا يلتقون عند الأساس وهو «الفورم»، وبعد ذلك لكل فنان أن يحقق الفورم على الوجه الذي يراه، وما هو الفورم أو الشكل أو الصورة؟ إنه هو الوحدة العضوية بين الأجزاء التي تجعل كل جزء مؤثر ومتأثر ببقية الأجزاء جميعا، وهكذا الحال في الكائن الحي، لا يستقل فيه عضو عن سائر الأعضاء، برغم أن لكل عضو منها وظيفته الخاصة، فلا الرئتان تتنفسان بغير قلب، ولا القلب يضخ دما في أوعيته بغير رئتين، ولا المعدة والأمعاء تفعل فعلها بغير دم وتنفس، وهكذا ينبغي النظر إلى ما ننظر إليه من قصائد الشعر وروايات وتصوير ونحت وعمارة وموسيقى، وهكذا تكاملت فكرتي عن العملية النقدية: الشكل محورها، والفردية الفريدة طابع مضمونها، وكلاهما يعتمد في إظهاره على يد الناقد إلى وقفة عقلية تحليلية، تجعل النقد أدخل في باب الفكر العلمي منه في باب الذوق الشخصي (اقرأ مقال «الشكل وأهميته» في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة»).
6
في صيف 1954م كنت قد فرغت من مهمة الأستاذية الزائرة التي في سبيلها قضيت في أمريكا عاما جامعيا سجلت أحداث حياتي الثقافية خلاله في كتاب «أيام في أمريكا» - كما قد أسلفت القول في موضع سابق - لكنني قبيل عودتي إلى مصر طلب إلي (أعني أنني لم أطلب بل طلب إلي، والفعل هنا مبني للمجهول) أن أواصل البقاء في الولايات المتحدة حينا أقضيه ملحقا ثقافيا بالسفارة المصرية بواشنطن، وإنني لأستعرض أيام عمري كلها منذ وعيت، فلا أجد في حياتي ما هو أشقى من الشهور التي قضيتها في ذلك الموقع، وكان ذلك راجعا إلى طبيعة الظروف أكثر مما هو راجع إلى الأفراد الذين قضيت معهم تلك الفترة المنحوسة، فما من فكرة طيبة كونتها عن نفسي عبر السنين إلا أصر شيطان تلك الظروف التعسة أن يحطمها، فإذا كنت قبل ذلك قد توهمت بأنني على شيء من العلم؛ فقد سخر ذلك الشيطان من كل علم في جعبتي، وإذا كنت قد حسبتني قبل ذلك على شيء من تماسك الشخصية؛ فقد وسوس لي ذلك الشيطان بأنني في ميزان التقدير نفخة هواء، وما أشدها مفارقة بين تلك الشهور العشرة التي قضيتها في السفارة المصرية مرغما كارها، وشهور عشرة أخرى سبقتها مباشرة، هي التي قضيتها أستاذا زائرا في الجامعات، فيشهد الله كم كان أثري وتأثيري أثناء أستاذيتي بالجامعات قويا وعميقا، وكم جذبت الاشتباه وأضحيت في القوم محور اهتمام شديد، فأين تلك المكانة من موقف أريد لي فيه أن أكون صغيرا بالقياس إلى آخرين، لم يكن عندهم شيء إلا وكان ذلك الشيء جزءا يسيرا مما عندي.
هي شهور عشرة شقيت فيها نفسا، وصغرت فيها قدرا، لولا أنني عوضت شيئا من ذلك الخسران بكسب أحصله من القراءة إذا ما أويت إلى منزلي، فكان بين ما خططت لقراءته أن أتعقب حركة النقد الأدبي في أمريكا يومئذ، وبصفة خاصة فيما كانوا يسمونه هناك بالنقد الجديد، ولم ألبث أن عثرت على ما يصح أن أجعله نقطة ابتداء ، هو كتاب «النقد الجديد» الذي صدر سنة 1911م لمؤلفه «سنجارن» الذي وجدته معدودا كالإمام في مجال النقد، يشار إلى اسمه فيشار إلى حجة تستمع إلى قوله الآذان.
فما ذلك «الجديد» في النقد كما أورده سنجارن في كتابه الذي بات مرجعا يرجع إليه كلما أشكل أمر على أحد التابعين في موضوع النقد الجديد؟ كتبت في ذلك يومئذ، فكان بين ما قلته (راجع مقالة «الليلة والبارحة» في كتاب «قشور ولباب»): «... الجديد عند سنجارن وتابعيه - وسترى بعد قليل أنهم هم الذين يطبعون الحركة النقدية في أمريكا اليوم (كتب هذا سنة 1954م) بطابعهم - هو باختصار شديد أن يكون الأثر الأدبي نفسه موضع الاهتمام والدرس.» «فأنت تعلم أن الناقدين ليسوا في ذلك على كلمة سواء، فإذا ما صدر أثر أدبي كان هنالك بصدوره أربعة أشياء: الكتاب الذي صدر، والكاتب الذي أصدره، والمحيط الذي ظهر فيه مكانا وزمانا، والناقد الذي يريد أن يتناوله بالدراسة الأدبية، فأي هذه الأربعة يكون محور الاهتمام الأول؟ ...» وإجابة أنصار «النقد الجديد» عن هذا السؤال، هي أن الأولوية هي للأثر الأدبي نفسه، فيدرس «النص» ذاته بغض النظر عن مؤلفه وظروفه، وبغض النظر عن أهواء الناقد نفسه وميوله، فأمام الناقد ترقيم على صفحة من كتاب، وهذا الترقيم هو مجاله الذي لا مجال له سواه، فمهمته إذن هي أن يحلل هذه التشكيلات اللفظية التي انتشرت أمامه؛ ليرى كيف ركبت أجزاؤها. «يظل سنجارن يعيد في كتابه مرة بعد مرة قوله: «النص ولا شيء إلا النص»، «الكلمات المرقومة على الصفحة» هي موضوع النقد، وتحليلها وتشريحها وفحصها من جميع وجوهها هي مهمة الناقد، إن الأثر الأدبي لا ينبغي أن يعتمد في تفهمه على شيء سواه، وإذن فلا بد أن تكون كل العناصر كائنة فيه وبين دفتيه، فإن اضطرتك كلمة في الكتاب، أو عبارة فيه، إلى الرجوع إلى شيء في البيئة لتفهم معناها، فلا يزال معنى الكلمة أو العبارة هو الذي يشغلك» (راجع مقالة «الليلة والبارحة» في كتاب «قشور ولباب»).
ذلك هو «الجديد»، فكتبت في المقالة المذكورة أقول: «هل يسع دارسا عربيا إلا أن يسأل: أين الجديد؟ وأين إذن ذهب عبد القادر الجرجاني والآمدي؟» والحق أني لم أجد يومئذ فرقا جوهريا بين ما أراده أصحاب النقد الجديد من الكتاب على «النص» ذاته تحليلا وتشريحا، ومعظم النقاد العرب الأقدمين حين تناولوا بالنقد قصيدة من الشعر، إذ تكاد لا ترى شيئا في نقدهم إلا الانحصار في النص الذي أمامه، وفي مقارنات يجريها بينه وبين نصوص أخرى ليزيد الأمر وضوحا.
وسواء أكانت تلك هي حقيقة الأمر أم لم تكن، فلقد جاء ما قرأته عن اتجاه النقد الجديد - وكان يمثله في أمريكا يوم أن كنت أتابعه هناك (1954-55) بلاكمير؛ فالحق أنني أحسست كأنما أتزود بزاد من جنس الزاد الذي ألفت أن أغتذي به، فموقفي «الخاص» في نظرية النقد شديدة الشبه بما قرأته عن حركة النقد الجديد، لكنني لم أستمد رؤيتي النقدية من تلك الحركة، بل لعل منشأ رؤيتي تلك هو أنها رؤية تجيء نتيجة طبيعية لمن أخذ نفسه بمنهج التجريبية العلمية (الوضعية المنطقية) كما أخذت نفسي، فكان المنهج الفلسفي والمنهج النقدي عندي متسقين اتساق النتيجة ومقدمتها، فكأنهما صفحتان من كتاب واحد.
7
الفلسفة والأدب والفن منسوجة كلها في مخيلتي في رقعة واحدة محبوكة الخيوط، أميز فيها بين خيط وخيط، فأدرك أن هذه فكرة فلسفية، وتلك صورة شعرية، والثالثة لوحة تآلفت عليها الألوان والخطوط، ولكني إذ أميز الخيوط بعضها من بعض على هذا النحو، أعلم أنه لا يمكن فهم الواحد منزوعا عن الآخر في ثقافة العصر المعين، فما أيسر - بعد شيء من نفاذ البصيرة - أن أرى أن الفكرة الفلسفية المعينة ما كان لها أن تظهر في عصرها المعين إلا مقرونة بلون خاص من الشعر والرواية، وضرب خاص من التصوير والنحت والعمارة.
Bilinmeyen sayfa