زاوية أخرى للنظر إلى الديوان المنقود، وهي شبيهة بالزاوية الأولى في كون الناقد يتخذ من الشعر الذي بين يديه «وسيلة» لغاية تثير اهتمامه في المقام الأول، وكل الفرق بين الرؤيتين أنه بينما الناقد في الحالة الأولى يبحث خلال الشعر عن «نفسية» الشاعر، نرى الناقد في الحالة الثانية يبحث خلال الشعر عن «الحالة الاجتماعية» التي كانت تحيط بذلك الشاعر، فكأنما شعر الشاعر هنا هو بمثابة وثيقة تاريخية ليصور من صور الحياة الاجتماعية، وكأنما الناقد هو أكثر اهتماما بحقائق «علم الاجتماع» منه بفن الشعر، ويمكن اعتبار كتاب طه حسين عن المتنبي مثلا لهذا الاتجاه الاجتماعي في النقد.
وهنالك (ثالثا):
زاوية أخرى للنظر، يبحث الناقد منها لا عن «نفسية» الشاعر صاحب الديوان المنقود، ولا عن «الحالة الاجتماعية» التي أحاطت به، بل يبحث في نفسه هو - نفس الناقد - عن وقع هذا الشعر فيها، فماذا ترك في جوانحه من أثر؟ هل خرج من قراءة الديوان وهو على وعي بالغايات العليا التي استهدفها الكون؟ أو خرج شاعرا بعبث هذا الكون وإفلاسه في أن تكون له غايات؟ هل خرج من قراءته راضيا عن نفسه أو ساخطا عليها؟ ... ثم يسطر هذا الناقد وصفا لطوية نفسه، والأغلب أن تجيء القطعة النقدية من هذا القبيل، وكأنها في ذاتها «أدب» بني على «أدب»، ويمكن تسمية اتجاه نقدي كهذا بالاتجاه «التأثري»، وأمثلته عندنا تملأ الصحف كل يوم. ومرة ثالثة أقول: إن الشعر المقروء لم يتخذ غاية في ذاته، بل إن الناقد قد اتخذ من قراءته له وسيلة يصبح عن طريقها «أديبا» بدوره.
ولكن ألا ترى أن سؤالا هنا يطرح نفسه علينا، وهو: أن يقف الناقد وقفته من الشعر المنقود، نفسية كانت أو اجتماعية أو تأثرية، أليس هو مضطرا - أولا - إلى التيقن من أن الذي بين يديه «شعر» يستحق المعالجة بهذه الطريقة أو بتلك؟ أكلما وقع ناقد على مجموعة شعرية مرقومة على ورق هاجمها من فوره باحثا عن «نفس» أو عن «اجتماع»؟
لا بد إذن من خطوة نقدية تسبق سائر الخطوات - إن كان بعدها خطوات - وهي أن يفحص الناقد الشعر نفسه، بغض النظر عما وراءه أو عمن وراءه؛ فها هي تي تركيبات صوتية وجدها وقيل له إنها «شعر»، فلينظر بادئ ذي بدء في صدق الدعوى، أشعر هي حقا؟ ولكنه لا يستطيع أن يجيب عن سؤال كهذا إلا إذا كان بحكم ثقافته السابقة مزودا بمعيار يقاس به الشعر بين جيد ورديء ومقبول ومرفوض، وما معنى ذلك؟ معناه أن ثمة أسبقية منطقية لأمرين؛ أولهما: فلسفة خاصة في ماهية الفن بصفة عامة والأدب بصفة خاصة، وثانيهما: تطبيق تلك الفلسفة على هذا الذي أمامه، ليتبين إن كان ذا طبيعة تؤهله للدخول في دنيا الفنون أو لم يكن، فإذا وجده مؤهلا لذلك بناء على الخصائص التفصيلية الداخلة في تكوينه، فله بعد ذلك أن يبحث وراءه عما شاء من «نفس» أو «اجتماع»، لكن هذه الإضافة - من وجهة نظري - قد تجيء وقد لا تجيء؛ فالعملية النقدية في صميمها تكون قد استوفت أركانها بمجرد الفراغ من منح الديوان المنقود تأشيرة الدخول في عالم الشعر.
وذلك هو موقفي من النقد.
2
عناصر الموقف ها هنا ثلاثة: كاتب وكتاب وقارئ، فلولا الكاتب وكتابه لما كان قارئ، وبالتالي لما كان ثمة ناقد، وكذلك لو كنت كاتب كتاب لغير قارئ - في حاضر الأيام أو مستقبلها - كأن يستخدم رموزا لا يفهمها سواه، لفقد الكتاب أخص خصائصه، وبطل بهذا أن يكون كتابا بالفعل والأداء، وإذن فعملية «التوصيل» من الكاتب إلى القارئ شرط ضروري لتكتمل للموقف عناصره.
لكن هذا القول لا يعني أن يتلقى الكتاب قراء كثيرون، فتصلهم رسالة الكاتب على درجة سواء؛ إذ ما دام الناس يتفاوتون في خبراتهم، فهم بالضرورة يتفاوتون فيما يستخرجونه من الكلمات المرقومة أمامهم، وبخاصة إذا ارتبطت تلك الكلمات بالحياة الوجدانية بسبب؛ فالكثرة الغالبة من هؤلاء القراء يقفون عند مستوى الأحداث التي تجري كما ترويها الكلمات المقروءة، أما أن يصعد القارئ بعد هذه الأحداث السطحية إلى ما وراءها - إن كان لها ما وراء - فذلك ما يتعذر على تلك الكثرة، حتى يتصدى لها قارئ ممتاز، فيدرك «الماوراء» ثم يكتب لسائر القراء ما قد أدركه، فعندئذ يكون هذا القارئ الكاتب «ناقدا»، وتكون كتابته عما قرأه «نقدا»، وبعدئذ يتغير المنظور كله أمام أعين القراء الآخرين بالنسبة إلى الأثر الأدبي المنقود.
على أنه من الضروري أن نفرق بين ثلاثة رجال قد يختلط الأمر في شأنهم عند كثيرين، بل لعله قد اختلط بالفعل اختلاطا شديدا، أما هؤلاء الرجال الثلاثة فهم: كاتب التعليق الأدبي الذي يعلق به على كتاب معين، كالتعليقات التي نراها منشورة في الصحف، والناقد الذي يتناول عملا أدبيا بالدرس المستفيض، والفيلسوف صاحب النظرية الجمالية المعينة، فأما أولهم فمهمته أن يقدم كتابا للقراء، تقديما يظهر حسناته وسيئاته، وشيئا موجزا عن محتواه، ومثل هذا الكاتب غير ملزم بأن يبسط في تقديمه ذاك مبدأه النظري الذي على أساسه ينقد ما ينقده؛ إذ هو معني بجزئية أدبية واحدة هي الكتاب الذي يقدمه إلى قرائه، وأما «الناقد» - بالمعنى الأشمل والأكمل - فلا بد أن تكون له أسس نظرية في طبيعة الأدب؛ ليقيم عليها نقده، لا بالنسبة إلى كتاب واحد بعينه يتولى عرضه، بل بالنسبة كذلك إلى أي عمل أدبي آخر، فهو بعد أن خبر على طول الأيام جزئيات أدبية كثيرة - كأن يكون قد درس لنفسه عددا ضخما من قصائد الشعر ومن الروايات والمسرحيات - استطاع أن يستخلص قواعد نظرية عامة يجعلها أسسا للحكم الأدبي على ما يريد أن يحكم عليه، فإذا كانت الجزئية الأدبية الواحدة المعينة هي التي تستغرق اهتمام المعلق الأدبي، فإن القاعدة النظرية التي تبنى عليها الأحكام الأدبية هي التي تستولي على اهتمام «الناقد» عند التطبيق على عمل أدبي معين، أو ربما على عصر أدبي بأكمله، ثم يأتي بعد المعلق والناقد معا مستوى أعلى من حيث درجة التعميم، هو المستوى الذي يصعد إليه صاحب الفلسفة الجمالية (الاستاطيقا)؛ ففي هذا المستوى يبحث الفيلسوف عن مبدأ عام شامل، نفسر بمقتضاه لا هذا الكتاب المعين وحده كما يفعل المعلق الأدبي، ولا الميدان الأدبي كله أو بعضه كما يفعل الناقد حين تتكون لديه رؤية خاصة لما ينبغي أن يكون عليه الشعر أو الرواية أو المسرحية؛ بل تفسر بمقتضاه كل نتاج في دنيا الفن على إطلاقها، من موسيقى إلى شعر وتصوير ونحت وعمارة، وهكذا يتجه السير خلال هؤلاء الرجال الثلاثة، من النظر إلى جزئية واحدة، فإلى قاعدة عامة تشمل ميدانا فنيا، ثم إلى مبدأ شامل - عند الفيلسوف - يغطي كل ميادين الإبداع الفني برباط نظري واحد (راجع مقالة «الناقد قارئ لقارئ» في كتابي «في فلسفة النقد»).
Bilinmeyen sayfa