والإيمان بضرورة اللجوء إلى العقل وإلى العلم الذي هو في الحقيقة تجسيد للعقل في رسم السبل الناجحة، يتضمن إيمانا بقدرة العقل الإنساني على الاضطلاع بما خلقه الله من أجله. لكن هل هذه الوقفة هي التي لها السيادة في حياتنا؟ كلا، فنحن نفاخر سائر الدنيا بأننا أصحاب قلوب عامرة بوجدانها، لا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع المعروض للمعالجة مما تنفع أو لا تنفع فيه القلوب ووجدانها، ومن ثم كانت دعوتي التي ما فتئت أكررها بوجوب التفرقة الواضحة بين مجالين: مجال لا يصلح له إلا العقل بكل رصانته وبروده، ومجال آخر من حق المشاعر أن تشتعل فيه ما شاءت لها حرارتها.
وقد تكون هذه التفرقة واضحة أحيانا، لكنها قد تغمض على الناس أحيانا، ومن هنا ركزت الكتابة - كلما كتبت في ذلك - على المواقع التي يكتنفها شيء من غموض، فماذا نقول في مجال الفكر السياسي مثلا؟ أنخدم الوطن بأسلوب «العقل» أم بأسلوب «العاطفة»؟ فكتبت لألقي الضوء لمن أراد أن يشهد الحق، فأوضحت الفرق هنا بين «الهدف» و«الوسائل»؛ فرجال السياسة - لو أنصفوا - لما حق لهم أن يجاوزوا اختيار «الأهداف»، ثم يتركون رسم الوسائل المحققة لتلك الأهداف، يتركونها لرجال العلم في مجالات اختصاصهم؛ فاختيار «الهدف» تعبير عن رغبة، وبالتالي فهو أدخل في باب الحياة الشعورية؛ لأن فيها موطن «الرغبات»، وأما رسم الخطوات الموصلة إلى الهدف فينبغي أن يبنى على المعرفة العلمية في أدق صورها؛ فقد تكون «الرغبة» عند رجال السياسة أن يعمموا في الناس حق التعلم، أو أن يوسعوا الأرض المزروعة، أو أن يتحول البلد بثقله من محور الزراعة إلى محور الصناعة، أو أن يكون بيننا وبين بلد معين صداقة أو عداوة ... هذه وأمثالها رغبات هي من حق رجال السياسة أن يبدوها في المجالس النيابية وغيرها، لكن الرغبة لا تحمل في أصلابها طريقة تحقيقها، وهنا يأتي دور العلماء في الجامعات أو في مراكز البحوث أو غير ذلك من الهيئات العلمية، فيترك لهم رسم الوسائل التي يرجحون لها النجاح (راجع مقاله «العلم مذهب رابع» في كتابي «مجتمع جديد أو الكارثة»).
وأسوق مثلا آخر لمجال لا يتضح فيه الفرق بين عقل ووجدان فيقع الخلط: مجال الدراسة الأدبية، ومجال النقد الأدبي، فمجرد ذكر لكلمة «أدب» يوحي على الفور بأن المسألة موكولة إلى أدوات أخرى غير علمية المنهج إذا لم يكن الأمر أمر إبداع أدبي في قصة أو في قصيدة من الشعر؛ إذ في الإبداع الفني نفسه يختلف الأمر عنه في أن يكون ذلك الإبداع موضوعا للدراسة؛ فالفرق بعيد بين موقف أحمد شوقي - مثلا - وهو يصوغ شيئا من شعره، وبين دارس يتناول ذلك الشعر نفسه بالتحليل والتقويم، ولقد صادفت زملاء كثيرين من أساتذة «الآداب» ينكرون أن تكون أداة الدراسة متساوية في «العلمية» و«المنهجية» مع أي بحث يجري على ظواهر الطبيعة، وإذا كان بين الموقفين فارق فهو في درجة الصعوبة ودرجة الدقة لا في علمية النظر، على أني أرجئ الإسهاب في القول هنا إلى فصل تال أخصصه لموقفي من نقد الأدب والفن، وليست غايتي في هذا الموضوع من سياق الحديث إلا أن أشير إلى أن خلطا كثيرا ما يقع بين ما هو مجال للعقل وما هو مجال للوجدان الفردي الخاص، وماذا أنت قائل في أساتذة يتخصصون في دراسة التصوف فيحسبون أن من لوازم هذه الدراسة أن يعلنوا في الناس أنهم هم أنفسهم متصوفون، فيضيع أمام الأعين ما يميز الحياة الصوفية الداخلية والنظرة العلمية إلى تلك الحياة، إنه - بالطبع - لا تناقض بين أن يكون دارس التصوف متصوفا، لكنه كذلك لا تناقض في أن يكون دارس التصوف من غير المتصوفين، وكل ما أريد إبرازه هنا هو: أين تكون الكلمة للعقل الباحث الدارس؟ وأين تكون للعواطف والمشاعر؟ (راجع مقالة «علمية الدراسة الأدبية» في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة »).
6
النظرة اللاعقلية - واللاعلمية بالتالي - تتحكم في حياتنا العامة حتى لتمسكنا من رقابنا، ومن هنا أحسست منذ زمن طويل بأنه إذا كان لي دور أؤديه في إيمان قوي فذلك هو الدعوى إلى إقامة الخط الفاصل بين ما يجوز الاحتكام فيه إلى العاطفة وما لا يجوز، وكان مما أمدني بالقوة فيما اتجهت إليه من دعوة إلى سلطان العقل كلما كان الموضوع المطروح موضوعا عاما في دنيا السياسة أو الاقتصاد أو التعلم وما إلى ذلك، هو إدراكي التام بأن تراثنا العربي وعقيدتنا الإسلامية معا تؤكدان منزلة «العقل» في حياة الإنسان، وإذن فليس الأمر دخيلا علينا لا يربطه بتاريخنا سبب من الأسباب، وكل ما في الأمر هو أننا انحدرنا عن قمة مجدنا، فانحدرنا نتيجة لذلك إلى رخاوة العاطفة؛ إذ لم نعد نحتمل صلابة العقل وقوة أحكامه، حتى لقد أسقطنا على العالم الحديث ظلالا توحي للغرباء بأننا «دراويش» لم يخلقنا الله للعلم القائم على منطق العقل كما خلق سائر عباده ممن يمسكون بزمام الحضارة الراهنة.
فلما حدث سنة 1976م أن دعيت - مع من دعوا - من الوطن العربي لحضور ندوة ثقافية أقيمت في واشنطن، وأطلقوا عليها اسم: «الثقافتان العربية والأمريكية»، وكان الغرض منها أن يدلي الفريق الأمريكي بالملامح التي تميز الثقافة الأمريكية، وأن يبرز الفريق العربي كذلك ما يميز الثقافة العربية، تعمدت أن أجعل موضوع محاضرتي في ذلك اللقاء الثقافي الكبير عن «جانب العقل في التراث العربي»؛ لأبين بما استطعت من قوة ووضوح أن التفكير العلمي القائم على منطق العقل الصرف كان أوضح ما يميز آباءنا في دراساتهم التي تناولوا بها شتى الميادين: اللغة والفقه والفلسفة والنقد الأدبي وكتابة التاريخ، فضلا عن العلوم الخالصة من رياضة وطبيعة وفلك وغيرها؛ وذلك لأمحو من الأذهان ما استطعت فكرة ربما شاعت عنا، وهي أننا إذا أفلحنا في ميادين التعبير الوجداني كالشعر والتصوف، فليس لنا في المجال العقلي العلمي باع ولا ذراع، كانت محاضرتي تلك إحدى اثنتين: أما الثانية فألقيت في قاعة المحاضرات الكبرى بمكتبة الكونجرس وأدرت الحديث فيها عن «الحياة الثقافية في مصر المعاصرة» (وكلتا المحاضرتين منشورة بالإنجليزية في كتاب أصدره القائمون على الندوة، وأسموه: الثقافتان العربية والأمريكية، وقام على إعداده الدكتور جورج عطية).
في فصل تال سأبسط - في شيء من الإسهاب - وجهة نظري في طريقة الجمع بين ثقافة موروثة وثقافة معاصرة، مقيما ذلك الجمع على أساس الجانب العقلي الذي ساد حياة آبائنا من جهة، والذي كان ينبغي أن يسود حياتنا نحن اليوم، لكنني أسارع هنا لأذكر لنفسي إضافة جديدة قدمتها في مؤتمر عقد بالقاهرة، وكان معلوما مقدما أن عددا من المستشرقين قبلوا الدعوة لحضوره، وكان مدار المؤتمر مناسبة حلول القرن الخامس عشر الهجري، فلقد أقمت بحثي - وعنوانه «طريق العقل في التراث الإسلامي» - على فكرة محورية هي أن المسلم - بحكم عقيدته الإسلامية نفسها - مطالب باستخدام «العقل» فيما يعترض طريقه من مشكلات، إلا إذا كان الموقف مما جاءت عنه أحكام صريحة في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف، على أن كلمة «العقل» كثيرا جدا ما تفهم بسطحية شديدة، فعنيت في مستهل الحديث بتحديد المعنى المقصود بهذه الكلمة تحديدا دقيقا، ثم أخذت أستعرض بإيجاز تاريخ المسلمين الأولين ومناهجهم في التفكير؛ لأبين كم كان نصيب ذلك المنهاج من «العقل» المنطقي بأدق معانيه (راجع النص في كتابي «هموم المثقفين»).
لم تكن محاربتي للنزعة اللاعقلية الشائعة في حياتنا قائمة كلها على نحو ما تكتب الأبحاث العلمية، بل كنت كثيرا ما ألجأ في ذلك إلى البناءات الأدبية في عرض ما أريد عرضه، وأقصد بالبناء الأدبي ذلك الضرب من الكتابة الذي يبحث فيه الكاتب عن «شكل» (فورم) ليبث فيه - بطريق غير مباشر - المعنى الذي يريد إعلانه.
وأستأذن القارئ - مرة أخرى - في كتابة نموذج كامل لمقالة من هذا الطراز الأدبي، كتبتها لأرد بها على شيخ جليل، له في أعين الجمهور أعلى مكانة، وكان يومئذ يشغل منصبا في الدولة هو أعلى المناصب، ومع هذا الوزن كله لشخصه استباح أن ينشر علينا رأيه بجواز أن نغرق الذبابة التي تسقط في شراب نشربه؛ لأنها - تماما كما هو شائع بين عامة الناس - تسقط على جناح ملوث، فإذا أغرقناها كاملة في الشراب، جاء العلاج من جناحها الآخر، وتحت عنوان: «ذبابة تعقبتها» كتبت ما يلي:
كانت الشمس في ضحاها ذات يوم من أيام الشتاء وكنت في غرفة مكتبي من البيت، وزجاج النوافذ مغلق يشف عما وراءه، ولقد راق وكأنه لا زجاج بيني وبين الخارج، لولا ذبابة كانت تجول على سطحه الخارجي، فتدل بوجودها على وجوده.
Bilinmeyen sayfa