وإن شئت أن تضع ذلك نفسه في عبارة أخرى، فقل: إن طابع عصرنا الفكري هو العلم التجريبي وما يستتبعه من مناهج البحث والنظر، والفلسفة التي نشأت من ذلك الاتجاه العلمي هي الفلسفة التي جرى الاصطلاح أن تسمى بالفلسفة الوضعية، وجوهرها أن تجعل صدق الحواس أصلا لا يناقش؛ لأنه من تلك الفروض المطلقة التي تنبني عليها معرفة العصر واتجاهاته الفكرية. والفروض المطلقة لا يسأل عنها، وإلا فإنها لا تعد مطلقة، بل نسبية تستند إلى غيرها من مبادئ وأصول، وليس هناك بالطبع مانع مادي يحول بينك وبين أن تسأل عما يبرر افتراض ذلك الفرض المطلق. لكنك إن فعلت خرجت على روح العصر السائد.
إن الفلسفة الوضعية - التي تمثل عصرنا الحاضر - لا تكتفي بمخالفتها للفلسفات السابقة في طريقة الإجابة عن مشكلات بعينها، بل كثيرا ما ترفض تلك المشكلات ذاتها، فإن كانت تلك الفلسفة السابقة تسأل: ماذا وراء ما يدركه الإنسان بحواسه؟ ثم تختلف في الإجابات، فإن الفلسفة الوضعية تنكر السؤال ذاته؛ لأنه يتناقض مع الفرض الأول المطلق الذي جعلناه بداية وأساسا للبناء الفكري كله، وهو أن الحواس - وما تأتينا به من خبرة ومعرفة - صادقة، وهي الأساس الذي ليس وراءه شيء.
عند الفلسفة الوضعية أن الرؤية بالعين أو السمع بالأذن، هي الملاذ الأخير في إثبات الصدق لدعواك، أينا يعيش في عصر اتجاهه الفكري هو أن يقوم الرأي على التجربة بشهادة الحواس، وأن يكون صدق الرأي مرهونا بإمكان تطبيقه تطبيقا علميا.
إننا لو سئلنا: بماذا يتميز الغرب وحضارته؟ فلا نعدو الصواب إذا أجبنا بأنه يتميز بالعلم التجريبي. فإذا قمنا ننادي بوجوب الأخذ عن الحضارة الغربية الراهنة أخذا لا تحوط فيه ولا تحفظ؛ كدنا بذلك أن نقول بوجوب الاتجاه بحياتنا وجهة علمية؛ لكي نساير العصر الحاضر في نشاطه الفكري.
3
في تلك المرحلة من مراحل العمر عندما أردت أن أصور لنفسي - وللناس - نموذج الإنسان المتحضر والمثقف كيف يكون، جاءت عناصر الصورة من وحي ما هو سائد وفق المعايير الغربية الخالصة، وفيما يلي جزء من المقالة التي كان عنوانها «نموذج المتمدن»: «... لا شك أنك قد رأيت كلمات «الحق» و«الخير» و«الجمال» متجاورة في كثير جدا من المواضع، كلما أراد الكاتبون أن يعبروا بعبارة موجزة عن أحلام الإنسانية وأمانيها، فهذه الكلمات الثلاث تستطيع أن تجعلها تعبيرا آخر للجوانب الثلاثة نفسها التي يذكرها علماء النفس، وهي الإدراك والوجدان والنزوع؛ «فالحق» هو ما ننشده في حالات الإدراك ، و«الجمال» هو ما نبتغيه في حالات الوجدان، و«الخير» هو ما نقصد إليه في جانب النزوع أو السلوك، وسيرسم صورة الإنسان المتمدن على أساس هذه الجوانب الثلاثة.»
فأهم ما يميز الإدراك عند «المتمدن» في عصرنا هذا هو التقيد بالواقع، وإدراك الواقع كما هو يتطلب القضاء على الخرافة بكل ما يتصل بها من لواحق وأتباع، وللخريف مظهران أساسيان في طريقة تعليلنا للحوادث والظواهر: الأول أن تعلل حدوث الأشياء المحسوسة بأشياء غير محسوسة، والثاني أن تعلل شيئا محسوسا بآخر محسوس، لكنه لا يرتبط معه ارتباطا يدل عليه طول الملاحظة ودقة التجربة. فلو قلت - مثلا: إن المرض في جسم المريض شبيه شيطان حال في الجسم، أو أن السماء ترعد وتبرق لأنها غاضبة، فأنت مخرف من النوع الأول. ولو قلت: إن السفر يوم الأحد مشئوم، ونعيق الغراب نذير بالموت، فأنت مخرف من النوع الثاني، وفي كلتا الحالتين أنت خارج بإدراكك للأشياء على منهج «المتمدن» في هذا العصر الذي أبرز ما فيه هو العلم وما يؤدي إليه وما ينتج عنه.
حتى الآداب والفنون قد أصبح معيارها هو الواقع، ولا أقصد بذلك أن الأديب أو الفنان يقف حيال الظاهرة المعينة موقف العالم الذي يحللها ويصفها بالمقاييس والأرقام، بل أريد أن أقول: إن الآداب والفنون في ميدانها - ميدان التعبير عن النفس وما يدور فيها من مشاعر - أصبحت تنزع بقوة نحو إثبات الواقع، بغير حياء ولا خجل؛ فما قد كان يستحي منه أسلافنا لا يتحتم أن يكون عندنا نحن كذلك موضع استحياء، ومن ثم نرى اليوم أدباء لا يتورعون عن تصوير مجرى شعورهم كما هو، فيكون بين ذلك رغباتهم الجنسية وانحرافاتهم الإجرامية وما إلى ذلك، ونرى اليوم مصورين لا يجلسون أمام الشيء يصورونه كما يبدو، بل يصورونه كما يختلط بأفكارهم في لحظة التصوير، فإذا جلست مثلا إلى طائر تصوره، وأثناء ذلك دق جرس شغل بؤرة شعورك، وجب أن تدخل هذه الصورة الطارئة على نحو ما؛ لأنها جزء منك في اللحظة التي أردت تصوير نفسك فيها، ومن هنا كان كثير مما نعده «خلطا» في التصوير الحديث.
وأما الجانب الوجداني من «المتمدن» في عصرنا الحديث، فأهم ما يميزه هو التأثر بما ينتجه رجال الأدب والفن المحدثون، فأنت متخلف عن عصرك ومدنيته ، إذا لم تأخذ بنصيب - قليل أو كثير - في تقدير ما ينتجه هؤلاء الرجال من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وتمثيل ورقص وغناء، مهما يكن عملك وموضوع اختصاصك؛ فقد تكون طبيبا أو مهندسا أو رجلا من رجال الأعمال، لكنك لكي تكون إلى جانب ذلك «متمدنا» فلا بد من إضافة عنصر آخر هو التمتع بنتاج الفنون.
أقول: إنه لا بد من أخذك بنصيب في تقدير هذه الأشياء كلها، ولا أحتم عليك أن تحب كل ما تراه منها أو ما تسمعه، فلك أن تحب أو أن تكره، على شرط أن يكون حبك وكرهك قائمين على معيار هذا العصر نفسه؛ لأن الآداب والفنون كلها تعبير عن روح العصر، ويستحيل أن تتشرب روح العصر، وتتمرد في الوقت نفسه على كل آدابه وفنونه ...
Bilinmeyen sayfa