انتهت الحرب العالمية الثانية في صيف 1945م، ولم تمض إلا بضعة أشهر بعد انتهائها حتى أقيمت الدورة الأولى لهيئة الأمم المتحدة في لندن (أصبح مقرها منذ الدورة الثانية مدينة نيويورك)، واضطر بلد عربي إلى الاستعانة بالسفارة المصرية في لندن؛ لتعيره ثلاثة من المصريين المقيمين هناك حينئذ، يصلحون أن يكونوا أعضاء في وفده الرسمي إلى تلك الدورة الأولى لهيئة الأمم المتحدة، وكنت أحد الثلاثة الذين اختارتهم السفارة، فأتيح لي - للمرة الأولى وربما للمرة الأخيرة أيضا - أن أمضي نحو ستة أسابيع على مقربة قريبة من كبار الساسة في العالم إبان تلك الفترة الهامة التي أعقبت الحرب مباشرة، والتي ظن هؤلاء الساسة الكبار أنهم إنما جاءوا ليضعوا فيها أسسا للسلام الذي لا تستطيع بعدئذ أن تهزه نازية أو فاشية أو ما شاكلها من نظم.
كانت فرصة نادرة لأرى ليوث السياسة في عرينهم، فأرى كيف يعتركون بالحيلة الناعمة والخدعة المغلفة بالحلوى، فخرجت آخر الأمر، من كل ما رأت عيناي وسمعت أذناي، كافرا بتلك اللعبة الصبيانية التي يسمونها «سياسة»، وكم من مرة همست لنفسي ما نسب قوله إلى الإمام محمد عبده: لعن الله السياسة، وساس، ويسوس، وسائسا، ومسوسا. لماذا؟ لأنني ما وجدت في ألاعيب الساسة بعضهم على بعض إلا مهارة تشبه مهارة الحواة، تخرج الأرانب من قبعات خالية، فهم - مثلا - يضعون صيغة معينة يحلون بها مشكلة معينة ويوافقون عليها بالإجماع، ثم ما هي إلا أن يحتدم الخلاف على تأويلها، وينهض من هنا خطيب ومن هناك خطيب، ومن هذا البلد فقيه ومن ذلك البلد فقيه، يبذلون كل ما في مواهبهم من ذكاء؛ لتأويل الصيغة المتفق عليها تأويلا يخدم وجهة نظره الوطنية.
قلت لنفسي إزاء هذه الألاعيب: لو كانت «السياسة» علما كسائر العلوم الدقيقة المضبوطة؛ لما كان هنالك مجال لهؤلاء الحواة، ولانكشف الغطاء عن مهاراتهم المزعومة؛ لأنها لو كانت في دقة العلم لما تعددت التفسيرات والتأويلات، وإذا كانت الصيغة التي وافقوا عليها محلا لاختلاف التفسير والتأويل، فلماذا لا يضعون لأنفسهم صيغة أدق وأوضح وأشد حسما؟ وهكذا خرجت من تلك الخبرة بدرس تعلمته عن السياسة ما يزال إلى هذه الساعة هو الدرس الذي يشكل وجهة نظري؛ وهو أن العمل السياسي - بهذه الصورة الشائعة - لا يصلح له إلا عقول تنقصها الرغبة في دقة التفكير العلمي.
ثم سنحت لي بانتهاء الحرب فرصة أخرى من نوع آخر، وهي فرصة أتاحت لي ترجمة ما يقرب من ثلاثمائة بيت من شعر العقاد إلى الإنجليزية شعرا ... كيف؟ أرادت جامعة لندن أن تقيم لقاء ثقافيا على مدى أسبوع (أو أكثر من أسبوع، لا أذكر) للإنجليز الذين هم في سبيلهم إلى مزاولة أعمالهم في ربوع الشرق العربي، فوضعت خطة لبرنامج ثقافي وإعلامي، يزود الحاضرين بزاد فكري عن العرب.
وأرسلت جامعة لندن إلى السفارات العربية؛ لتوزع الموضوعات المقترحة على علماء العرب وأدبائهم ممن تصادف وجودهم في إنجلترا، وكان أن تلقينا - أنا وصديقي المرحوم الدكتور محمد النويهي - ما يشبه التكليف من سفارتنا المصرية بأن نتقاسم الحديث عن حياتنا الأدبية، فأما الدكتور النويهي فيتولى الأدب العربي القديم، وأما أنا فأتولى الأدب العربي المعاصر، وكانت جامعة لندن قد اقترحت في خطابها أن يدار حديث المتحدث على رجل واحد، يتخذ منه المتحدث نموذجا للتعبير عن المناخ الوجداني والفكري السائد في الفترة التي يدار عليها الحديث، فوقع اختياري على «العقاد الشاعر».
لقد كنت أرى في العقاد الشاعر - وما زلت أرى - تعبيرا قويا وصادقا عن أهم ملامح مناخنا الفكري والشعوري فيما بين الحربين العالميتين؛ لأنه رفع لواء الحرية بكل معانيها. ولا خلاف على أن مطلب الحرية في حياتنا الثقافية كلها - منذ الاحتلال البريطاني - إنما كانت تدور عجلتها حول محور رئيسي هو فكرة «الحرية»، لكن للحرية وجوها كثيرة: أحدها الحرية السياسية، وحين أقول عن شعر العقاد: إنه جاء تعبيرا قويا وصادقا عن تطلعنا للحرية، فإنما قصدت شيئا أكثر جدا من مجرد التحرر من مستعمر خارجي أو من مستبد داخلي؛ إذ قصدت إلى حرية الإنسان من حيث هو فرد مستقل يصنع لنفسه قرار حياته، ليكون مسئولا بعد ذلك عن قراره ذاك أمام الله وأمام الناس وأمام نفسه؛ فتلك الحرية الفردية - كما أراها - هي الأساس لكي تتحقق كل حرية أخرى. وأحسب أن العقاد في حياته الفردية - منعكسة في شعره - نموذج حي ناطق لما أردت عرضه على الحاضرين.
وعندما بدأت إعداد المحاضرة لم أكن أحلم بأن الأمر سينتهي بي إلى جهد من نوع نادر؛ وذلك أني رأيت - بعد أن سرت في إعداد المحاضرة شوطا - أن الصورة التي سوف أقدمها للناس ستظل كالدخان العالق بالهواء ما لم أقدم نماذج من شعر العقاد، وهل تكون ترجمة الشعر إلى لغة أخرى - إذا أريد لها أن تترك في السامع أقوى أثر ممكن - إلا شعرا؟ إذن فلأجرب قدرتي في هذا السبيل، وإذا عجزت فلأقنع عندئذ بترجمة نثرية لمعاني الأبيات المترجمة. ووفقني الله - بعد جهد ذهني مركز لعدة أيام - توفيقا يشهد عليه أن مجلات الشعر هناك (وفي أمريكا) نشرت ما أرسلته إليها من تلك النماذج.
8
كنت لم أزل ماضيا في إعداد رسالتي للدكتوراه، وموضوعها - كما ذكرت - هو «الجبر الذاتي» وهو موضوع - كما ترى - يمس حرية الإرادة بصفة أساسية وجوهرية، ودون أن أتعمد في البداية أن أتجه في بحثي مع هذا المذهب أو ذاك من مذاهب الفلسفة؛ فقد جاءت الأفكار منساقة نحو شيء يشبه مذهب برجسون في فكرته عن التطور الخلاق، وعن طبيعة الحياة كيف تبدع ما هو جديد، كما انساقت الأفكار كذلك نحو شيء يشبه حرية الإنسان عند بعض فلاسفة الوجودية.
وبينما أنا ماض في طريقي ذاك، أعلن عن تعيين الدكتور ألفرد آير (وكان إلى ذلك الحين أستاذا في جامعة أكسفورد) رئيسا لقسم الفلسفة في الكلية الجامعة بجامعة لندن، وجريا على العرف المألوف كان على الأستاذ الجديد أن يفتتح عمله بمحاضرة عامة، وأعلن بالفعل عن موعد تلك المحاضرة، لم أكن قرأت شيئا للدكتور آير، فرأيت ضرورة أن أعرف عن الرجل شيئا قبل استماعي لمحاضرته العامة، فكان أول ما قرأته من كتبه، كتابه الذي يلخص به اتجاها فلسفيا ظهر أولا في فينا خلال العشرينيات من هذا القرن، ثم أخذت دائرته تتسع، وهو اتجاه أطلق عليه أصحابه اسم «الوضعية المنطقية»، ثم شاع له بعد ذلك اسم آخر لعله أنسب وهو «التجريبية العلمية»، فما إن تلقيت الفكرة الأساسية في هذا الاتجاه؛ حتى أحسست بقوة أنني خلقت لهذه الوجهة من النظر.
Bilinmeyen sayfa