فقال لها: لم تفتكرين بمثل هذا؟
فأجابته: الأمر واضح لا يحتاج إلى برهان، وهل تصعب معرفة الفرق بين السيد والخادم، وهذه ملابسك ونداؤك للكلب غير المعروف عندنا، كل ذلك أدلة تؤيد نظريتي.
وازداد شغف ليزا بأليكسي بين دقيقة وأخرى، وبما أنه اعتاد على رفع الكلفة مع الفلاحات أراد أن يطوق خصرها بيديه، ولكن ليزا قفزت من أمامه واتخذ وجهها هيئة الجد والصرامة، الأمر الذي أضحك أليكسي كثيرا، ولكنه أوقفه عند حده وحال بينه وبين هجوم جديد.
فقالت له ليزا بعظمة وشهامة: إذا كنت تريد أن نكون صديقين فأرجو ألا تنسى نفسك. - من علمك هذه الحكمة؟ ألقى عليها أليكسي هذا السؤال مقهقها. ألعلها ناستيا التي تعرفت بها أو كريمة سيدك؟ إني أرى بأي طريق ينتشر العلم والثقافة.
ورأت ليزا إذ ذاك أنها أنهت تمثيل دورها وعزمت على الانصراف، ولكنها خاطبت الشاب بقولها: أوتظن أني لم أزر منزل رب القرية؟ لقد زرته مرارا ورأيت وسمعت كل شيء. ثم استطردت الكلام وقالت: ثرثرتي معك حالت دون جمع الفطر، فاذهب أيها السيد من جهة وأنا أسير من جهة أخرى وأرجوك المعذرة، وأرادت أن تبتعد لكن أليكسي أمسك بيدها، وسألها: ما اسمك يا روحي؟
فأجابته: اسمي أكولينا، وحاولت سحب أصابعها من يده، وقالت: اتركني أيها السيد فقد حان الوقت لذهابي إلى المنزل. - اسمعي يا صديقتي أكولينا إني سأزور والدك باسيلي الحداد. - إياك أن تفعل هذا، باسم المسيح أرجوك ألا تقدم على هذا الأمر؛ لأنهم لو علموا في المنزل أني ثرثرت مع شاب على انفراد في الغابة لحلت بي مصيبة دهماء، وأبي باسيلي الحداد يضربني حتى الموت. - ولكنه لا بد لي من رؤيتك. - سآتي في وقت ما إلى هنا أيضا لأجمع الفطر. - ومتى تحضرين؟ - حتى ولو غدا. - يا عزيزتي أكولينا! أريد تقبيلك ولكني لا أجسر على ذلك؛ وعليه فإني أنتظرك غدا هنا في مثل هذا الوقت. - نعم! نعم. - وأنك لا تخدعيني. - لا أخدعك. - اقسمي على ذلك. - والجمعة المقدسة سأحضر.
فافترق الشاب والشابة، وخرجت ليزا من الغابة واجتازت الحقل ودخلت الحديقة خلسة، وبطيش وسرعة دخلت المنزل حيث كانت ناستيا تنتظرها، ثم خلعت ملابسها وكانت تجيب الوصيفة على أسئلتها المتتابعة وهي شاردة الفكر، ثم ذهبت إلى قاعة الاستقبال وكانت المائدة جاهزة وطعام الإفطار حاضرا، وقد قطعت المس جاكسون الفطائر اللذيذة، وأثنى الأب على ليزا لرياضتها في الصباح، وقال: وليس أحسن وأصح من النهوض من النوم عند الفجر، وأورد عدة أمثلة على طول العمر الإنساني اقتبسها من المجلات الإنكليزية، وقال: إن كل الأشخاص الذين جاوزوا المائة من سني حياتهم لم يذوقوا الخمر، وكانوا يستيقظون قبل الفجر صيفا وشتاء، ولم تسمع ليزا كلمة مما قاله؛ لأنها كانت تستعرض في فكرها جميع ظروف وأحوال مقابلة الصباح وحديث أكولينا مع الصياد الشاب، وأخذ ضميرها إذ ذاك يعذبها، وحاولت عبثا تبرير زلتها، وقالت: إن حديثها لم يخرج عن حدود الآداب، وإن هذه اللعبة التي لعبتها لا ينجم عنها أية عاقبة، ولكن ضميرها كان يتذمر وارتفع صوته على صوت عقلها وإدراكها.
إن الموعد الذي حددته للمقابلة في اليوم التالي أقلقها كثيرا، وعزمت على أن تحنث بقسمها، ولكنها قالت: إن أليكسي إذا انتظرها كثيرا ولم تحضر يقصد القرية للبحث عنها، عن ابنه الحداد باسيلي أكولينا الحقيقية الثخينة المجدورة، فيفقه إذ ذاك طيشها وخفتها، فأزعجها هذا الفكر كثيرا؛ ولذا عزمت أن تقصد الغابة في اليوم التالي بشخص أكولينا.
أما أليكسي فكان في غاية الانشراح والجذل، ولبث طول النهار مفكرا بالصديقة الجديدة، وتراءت له ليلا صورتها الحسناء السمراء وتكرر ذلك في منامه، وما لاح الفجر حتى كان مرتديا ملابسه ولم يترك لنفسه وقتا لحشو البندقية، بل خرج إلى الحقل مع كلبه الأمين وأسرع نحو مكان المقابلة الموعود بها، لبث نصف ساعة منتظرا حسبه دهرا وأخيرا رأى بين الأدغال بريق الجلباب الأزرق، وهرول لاستقبال أكولينا الوضاحة الجبين، فابتسمت شاكرة له سروره بمقابلتها، ولحظ من فوره على وجهها آثار الكآبة والاضطراب، وأراد معرفة سبب ذلك، فاعترفت ليزا بأن عملها هذا طيش وخفة، وأنها ندمت على ما فرط منها، وأنها لم ترد هذه المرة عدم الوفاء بوعدها، وأن مقابلتهما هذه تكون الأخيرة، وترجوه أن يقطع حبل المعرفة التي لا تقودهما إلى أمر نافع. قالت هذه العبارات بلهجة فلاحية صميمة، ولكن أفكارها وشعورها غريبان بالنسبة لفتاة فلاحة، الأمر الذي أدهش أليكسي وصبره فاستعمل كل ما في مقدوره من حسن البيان والبلاغة ليحمل أكولينا على العدول عن عزمها، وأكد لها أمياله ووعدها بأنه لا يدع مجالا في المستقبل للندم، وأنه سيكون طوع إرادتها في كل شيء، وأقسم عليها ألا تحرمه من سلوى فذة برؤيتها على انفراد يوما بعد يوم أو مرتين في الأسبوع، وكان يتكلم بلسان الحب الخالص الحقيقي، وكان في هذه الدقيقة كالعاشق الولهان، وكانت ليزا تسمع كلامه وهي صامتة، فقالت له أخيرا: عدني وعدا صادقا بأنك لا تبحث عني مطلقا في القرية أو تسأل أحدا عني، وعدني أيضا بأنك لا تطلب مني مقابلة أخرى غير المقابلات التي أحددها أنا، وأراد أليكسي أن يقسم لها بالجمعة المقدسة، ولكنها استوقفته بابتسامة، وقالت: لا لزوم للقسم ويكفيني وعدا منك، وبعد هذا أخذا يتسامران كصديقين واستراضا في الغابة إلى أن قالت ليزا: حان الوقت؛ فافترقا.
ولما بقي أليكسي وحده لم يستطع أن يفهم أو يفقه كيف أن فتاة قروية ساذجة استطاعت بمقابلتين أن تتسلط عليه وتخضعه لإرادتها. ثم إن علاقته بأكولينا كان لها طلاوة الجديد الطريف، وبدا له أن أوامر الفلاحة الغريبة ثقيلة، ومع هذا لم يخطر بباله أن ينقض عهوده لها. ومع ما صادفه من النحس برفض المكاتبة السرية والاجتماعات الدائمة معها بقي ثابتا لا يتزعزع؛ لأنه كان صالحا طيبا ملتهبا حبا، وكان له قلب طاهر جدير بشعور التمتع بلذة الطهارة والعفة.
Bilinmeyen sayfa