وعند العودة من تشييع الجنازة أخذ المهندس سباستيان لودوس الذي أحب المتوفاة حبا لم يعترف به قط، والجيولوجي الهولندي فان دن فونديل يتحدثان في مكتب بمعمل التكرير.
انهار سباستيان لودوس على مقعده وجبهته في يده، وعلى المقعد الآخر أمام المائدة جلس فان دن فونديل.
وبنفس خاوية أخذ ينظر إلى الطين الذي يغطي حذاءه وقد احتفظ في يده بالصحيفة الهولندية التي كان البواب قد أعطاها له فأخذها منه آليا.
كان الاثنان عائدين من الجنازة، ولم يكونا يستطيعان أن يقولا لماذا جاءا إلى هنا بدلا من الذهاب إلى مكان آخر، ولماذا أتيا معا بدلا من أن يبحث كل منهم عن رفيق آخر أو يبقى وحده خاليا بنفسه.
وفي الخارج خلف زجاج النوافذ المخططة بشعيرات المطر، كانت الحياة في معمل البترول تجري كالمألوف في مدينة المضخات والأفران والبطاريات والبروج والقباب والأعمدة والخزانات، والعمال يروحون ويغدون محملين بالمواسير والآلات في أيديهم، وعربات النقل تمر في ضجة، والدخان الذي تسوقه السحب والمطر يطفو كأعلام منكسة، والرياح تدفعه فيتبدد، محاولا التسلل على طول النوافذ، متلويا - في عناد - كأنه دخان نار أوقدت، ويبحث عن منفذ إلى السماء ولكن السماء ترده إلى عالمه، عالم الأبراج والأفران والبطاريات والخزانات.
وقال سباستيان لودوس - في صوت مكتوم: «سأعترف لك بشيء ... وهو اعتراف صعب، ولكنني أعرف أنه سيصبح غدا أكثر صعوبة، غدا وفي المستقبل وإلى الأبد» ... ولم يقم فان دن فونديل بأية حركة، ولاح أنه لم يسمع شيئا واستمر ينظر إلى الطين الذي يغطي حذاءه، وقد انهارت رأسه المستديرة فوق صدره، وكأنها تستعد لأن تنفصل وتتدحرج عند قدميه.
واستأنف سباستيان لودوس قائلا: «أعتقد أنه بالنسبة لهذا الكائن.»
وتوقف لأن الألفاظ لم تسعفه، وقد ظل الاعتراف غامضا حتى بالنسبة له نفسه، وكان من الصعب أن يدلي به للغير.
ورفع فان دن فونديل يده الممسكة بالصحيفة وأسندها إلى حافة المائدة.
وحدق فيه من تحت حواجبه الغزيرة وقال - في ألم: «أنا أعرف ... لا فائدة من أن تقول شيئا إذا كان لديك شيء من العاطفة نحوها فلماذا أخفيته؟ ... لماذا أخفيته على نفسك؟ ... لماذا لم تمنع ذلك؟»
Bilinmeyen sayfa