الإهداء
تمهيد مهم من الراوي
تمهيد لا داعي له من المؤلف إلا لو كان الغرض هو الإملال
القصة المملة الأولى: ببلومانيا
القصة المملة الثانية: شيء من الطفولة
القصة المملة الثالثة: عندما هفهف لباس الليل
القصة المملة الرابعة: 01
القصة المملة الخامسة: بإخلاص: أنت تعرف من
القصة المملة السادسة: القبعة الزرقاء
القصة المملة السابعة: مضت بسلام
القصة المملة الثامنة: مذكرات مايكل غروننبيرج
القصة المملة التاسعة: العاهرة
القصة المملة العاشرة: سيدي الطائر
القصة المملة الحادية عشرة: ديجا فو
القصة المملة الثانية عشرة: أجاممنون
تلخيص سريع من الراوي
مهند رحمه مع القراء
الإهداء
تمهيد مهم من الراوي
تمهيد لا داعي له من المؤلف إلا لو كان الغرض هو الإملال
القصة المملة الأولى: ببلومانيا
القصة المملة الثانية: شيء من الطفولة
القصة المملة الثالثة: عندما هفهف لباس الليل
القصة المملة الرابعة: 01
القصة المملة الخامسة: بإخلاص: أنت تعرف من
القصة المملة السادسة: القبعة الزرقاء
القصة المملة السابعة: مضت بسلام
القصة المملة الثامنة: مذكرات مايكل غروننبيرج
القصة المملة التاسعة: العاهرة
القصة المملة العاشرة: سيدي الطائر
القصة المملة الحادية عشرة: ديجا فو
القصة المملة الثانية عشرة: أجاممنون
تلخيص سريع من الراوي
مهند رحمه مع القراء
قصص مملة جدا
قصص مملة جدا
تأليف
مهند رحمه
الإهداء
إلى روح العراب د. أحمد خالد توفيق، في الذكرى الثالثة لوفاته ...
المعلم، والمرشد، والأب الروحي ... صاحب الخلق الدمث، والسيرة العطرة أبدا ...
فللأبد ...
ستبقى في قلوبنا للأبد ...
وحتى تحترق النجوم، وحتى ...
طبت حيا وميتا ...
تمهيد مهم من الراوي
كاتب هذه السطور ليس عميقا على نحو خاص ...
هل تريدني أن أحدثك بصراحتي المعهودة؟!
سأحدثك بصراحتي المعهودة ...
هذه المجموعة القصصية مملة جدا ...
دعني أكن صريحا معك أكثر، تلك أكثر القصص مللا على الإطلاق!
لن تحصد جائزة الطيب صالح، ولن تترشح للبوكر، ولدي شكوك جدية في أنها ستدخل في قوائم أفضل القصص القصيرة على مر التاريخ، ربما لن تنافس قصص جدتك عند انقطاع الكهرباء، أو قصص سائق الحافلة المتذمر؛ إذ يحكي لك قصة حياته وانتصاراته القديمة، بعد أن رماك حظك التعس بجواره.
لكنها ستحصد حنقك، وستجعلك تتثاءب وتشعر بالنعاس بعد الصفحة الأولى، قد تطلق بعض عبارات السباب البذيء كذلك للأحمق الذي وجد في نفسه الجرأة والمزاج الرائق لكتابة مثل هذه السطور، وتضييع وقتك.
قد تلعن دار النشر - وأنا أشجع على ذلك - التي قامت على سبيل اليأس والجشع بنشر شيء كهذا، ربما لو قاموا بطباعة الصفحات خالية لكان الكتاب أكثر تشويقا!
قد تمزق الأوراق وتتحسر على مالك المسلوب الذي أنفقته عليه!
إن للنصب حيلا كثيرة كما تعلم.
عندما ترى لوحة فنية قبيحة الشكل، تمازجت فيها الألوان بقبح وبلا نظام، وكأن أحدهم قد مسح يديه فيها على عجل، سينبري لك ناقد نحيل، يرتدي ربطة عنق مزركشة، ويضع تركيبة عطرية رخيصة من عند دكان جوزيف بالسوق الإفرنجي، ليؤكد لك أن الأمر أعمق مما تظن، وأنها لوحة مذهلة حد الإبهار، تعبر عن الأبستمولوجيا الحديثة، ورفض القولبة وتنميط المفردة لإعادة صياغتها من جديد. اختيار هذه الألوان تحديدا - يا أحمق - هي صرخة احتجاج في وجه المجتمع. الخطوط المتداخلة تشير لبعد سيسيولوجي اجتماعي عميق، تعبر عن فرط جدلية تأطير المفردة وتقوقعها حول ذاتيتها الفطرية، من عهود الأرسطية وسطوة الكاهن، حتى عصر الحداثة والتحرر الثقافي.
ستهز رأسك في ذكاء متظاهرا بالفهم، وتقول شيئا مثل: «يا سلاااااام قد أبدع الفنان!» ثم تشعر أنك أكثر ضآلة من أن تستطيع استيعاب هذه المعاني، هو فن راق على الأرجح ما دمت لا تفقه عنه شروى نقير.
ينطبق الشيء ذاته على الأدب. اقرأ أي قصة سخيفة، مرهقة، سطحية، بلا روابط أو هدف من أي نوع، مع الكثير من البذاءة، والمصطلحات المعقدة، والتجديف في الدين، ثم الاسترسال في الفحش بلا ضوابط، وسينبري لك ناقد نحيل، يرتدي ربطة عنق مزركشة، ويضع تركيبة عطرية رخيصة من عند دكان جوزيف بالسوق الإفرنجي، ليؤكد لك أنها تحفة أدبية زاخرة المعنى عميقته. الكاتب - يا ساذج - هو عبقري سابق لعصره، لم يجد من يفهمه بعد، إن هي إلا سطحية القطيع وعقله الدوغمائي.
لا تصدق هذا، أجمل الكتب أكثرها بساطة، وأشد الأشياء عمقا، أكثرها وضوحا. لا يتوسل المصطلحات المتضخمة والتعبيرات المتحذلقة إلا سطحيوا الفكر، فارغوه.
كثير مما تعده فنا عميقا محض هراء.
كثير مما تظنه أدبا عميقا هراء محض.
الهراء موجود في كل مكان حولك، لا يتطلب الأمر أكثر من أن تبتاع صحيفة اليوم، أو تتابع تصريحات الحكومة، أو تستمع لزوجتك، أو تقرأ الصفحات التالية.
وحتى لا تشعر أن مالك قد ضاع سدى، إليك بضعة اقتراحات عملية مفيدة:
استخدم ورق الكتاب لاحقا لتسليك أذنك.
استخدم الورق لامتصاص زيت السمك أو الطعمية، أيهما أقرب لمعدتك.
استخدم الورق لمسح زجاج السيارة (إذا كنت تمتلك واحدة بالطبع).
يمكنك قص صورة المؤلف من الغلاف الخلفي وحرقها على سبيل الاحتجاج الغاضب، إذا غامرت دار النشر بوضع صورته وهو يبتسم ببلاهة متظاهرا بالعمق والذكاء (لا ينصح بعرضها للأطفال دون الثالثة، لأسباب سيكولوجية بحتة، تتعلق بالنمو النفسي السليم).
إذا لم تكن تملك مقصا أو سعة بال يمكنك حرق الكتاب كله.
يمكنك استخدام الكتاب لموازنة الثلاجة مكان الحامل الخشبي المكسور.
وللأمهات العزيزات: يمكنك استعمال الكتاب لقذفه على رأس طفلك كبديل ثقافي ممتاز عوضا عن الشبشب.
يمكنك استخدام الورق كذلك لعمل قراطيس جميلة للف الملح المستلف من جارتكم البدينة «عوضية أم التومات»، لا أنصح بهذا؛ لأن «عوضية أم التومات» ستمن عليكم بملحها لاحقا، عند أول لحظة عنف لفظي متبادل بين الجارتين، وسيعرف الكل عن قصة كرمها الأسطوري، وتصدقها عليكم بالملح، ابتداء من جاراتكم في الحي، وحتى نساء مقاطعة «جيجيانغ» في جمهورية الصين الشعبية.
هذه نصائح ذهبية، لن تجدها حتما في أي قصة رصينة هادفة.
المجموعة القصصية التالية، جزء من مجموعة من القصص القصيرة وصلت إلى بريدي الإلكتروني من مؤلفها «مهند رحمه» - حوالي 20 قصة - وهو كاتب شاب ناشئ، لا أطيقه ولا أحب كتاباته، لكنني لاحظت أنه بدأ يكون شهرة لا بأس بها مؤخرا، وسمعة طيبة بين الناس، حتى إن البعض - تصور هذا - بدءوا ينادونه بكلمة «أستاذ»!
وهي من علامات الساعة بكل تأكيد!
كل قصة منها أشد بؤسا من سابقتها ، تحت عنوان سخيف مبتذل من طراز «أجنحة العذاب» أو «عندما هفهف لباس الليل»، أو شيء من هذا القبيل، ولما كنت أمقت العناوين السخيفة التي تدعي عمقا لا تحتويه، وتشير بوضوح لمستوى ذكاء كاتبها، فقد قررت أن أسميها كما هي: «قصص مملة جدا».
كتحذير لا بد منه، ولإخلاء مسئوليتي الأدبية.
أما بقية القصص فلم أجد داعيا لنشرها.
قصص لزجة جدا، مطاطة جدا، مملة جدا، وغير هادفة بالمرة، عن أبطال إغريقيين، وكتب ملعونة، وهلاوس محرمة، ومؤلف فاقد للبوصلة، بدأت تثير سلامة قواه العقلية شكوكي، لم يعد يجد شيئا أفضل يفعله.
الراوي
تمهيد لا داعي له من المؤلف إلا لو كان
الغرض هو الإملال
بعد جهد جهيد، أشبه بعملية ولادة مرهقة متعثرة، أورثني قلقا دائما وصداعا لا يزول، أنهيت مجموعتي القصصية «عندما هفهف لباس الليل».
وبعد «أربعين» قصير مستحق، رحت أبحث عن حكمة ما، أو أي كلام يبدو عميقا، لأضعه في مقدمة الكتاب، كعادة مرضية يفرضها وسواسي القهري، فلم أجد سوى عبارة حكيمة، أثرت في وجدانيا، اختلستها ذات مساء، أثناء ركضي خلف إحدى حافلات الكلاكلة، تقول بأسلوب رصين:
قاسيا يا دنياء - ود قلبا.
إذا ما تجاهلت الأخطاء اللغوية، وتجاهلت ود قلبا، وتجاهلت اللعاب المتناثر على وجهك من السائق الغاضب ذي المنديل الملون على ياقة القميص؛ إذ يعوي صارخا في الركاب الذين اقتحموا الحافلة عبر النوافذ، ليسكب على أذنك التعسة سيلا من الشتائم العبقرية الموجهة، شتائم تبدأ ب «يا أولاد ال...» وتنتهي بالأمهات غالبا!
إذا ما تجاهلت كل هذا، فأعتقد أنها عبارة حكيمة بما فيه الكفاية، كل طفل يحبو يعرف أن «الدنياء» قاسية فعلا، هذا يفتح لك آفاقا جديدة في فلسفتك للعالم والوجود.
هذا كل شيء، يمكنك الآن الذهاب للصفحة التالية.
مهند رحمه
القصة المملة الأولى: ببلومانيا
خي إكس سيغما
1
سأقول لك شيئا مهما.
هناك نوعان لا أطيقهما من البشر، عليك أن تتعلم ألا تثق فيهما مهما حدث.
النوع الأول؛ هو أولئك الذين يتصورون بوضعية المفكر في الأستديوهات العمومية.
هل رأيت أحد هؤلاء؟
بالتأكيد تعرف هذا النوع اللزج، الذي يضع سبابته على خده وإبهامه على ذقنه، متظاهرا بتجاهل الكاميرا وهو يحملق في الفضاء بنظرة حالمة عميقة، كأنه يحاول حل معضلة سلوك الإلكترون في فضاء عالم الكوانتم.
كلهم لهم ذات الهيئة بالقمصان الغريبة، والبناطل المسطرة، والشعر المصفف بعناية، والجباه الضيقة، والوجوه اللامعة من أثر الفازلين، وسمة عامة من الغباء تنضح من وجوههم لا تخطئها عينك.
كل هذا بالطبع أمام خلفية لعينة من الورود والقلوب الممزقة، وأشياء سيريالية أخرى، ليذكرنا بأن روحه مرهفة كذلك، يضيفها صاحب الأستديو بالفوتوشوب مقابل جنيه ونصف إضافيين، أو بعض التوسل من طراز «عليك النبي ... عليك الله»!
فلتأخذها عني يا بني قاعدة هي من ثوابت الكون:
المفكرون الحقيقيون لا يتصورون بهذه الطريقة!
الحمقى فقط يفعلون!
النوع الثاني؛ هو أولئك الفضوليون، الذين يتحلقون حول المشاجرات والكوارث وحوادث الطريق، لا بد أنك قد رأيت أحد هؤلاء وقد شبك يديه على مؤخرة رأسه، وانحسر كم جلبابه حتى كوعه، ويتقافز على أطراف أصابعة في شغف، ليحظى بنظرة أوضح لأشلاء «حاج عبدالستار» المتناثرة تحت إطارات الحافلة!
هناك دم، هناك أشلاء ممزقة، هناك أطراف مجدوعة!
فيرتجف من النشوة!
يمارس التطهير النفسي برؤية الحوادث المميتة لكي يحمد الله على نعمة الصحة والعافية، وبعد أن يفض الجمع وتجمع الأشلاء، لا بأس من تعبير حكيم يبرهن للناس مدى تدينه، وزهده عن الدنيا وزخرفها. «هيييييييه الدنيا فانية، بس نحن المابنتعظ!»
يقولها في خشوع، ثم ينسى كل هذا الزهد في ثانيتين، فيعود ليطفف في الميزان، ويغتاب جيرانه، ويتفحش في النساء.
هؤلاء - أي بني - هم أسوأ الناس طرا، وهم جديرون حقا بأن يكونوا حطب جهنم!
هل تسمح لي بأن أناديك «بني» يا حضرة المحقق؟
أنت في عمر ابني بالتأكيد، ابني الذي لم أرزق به بعد لأسباب لست بصدد ذكرها اليوم، لكنك ستفهمها من السياق.
تريد أن تقوم بتسجيل هذه المقابلة؟ لا بأس، لا أريد أن أعيد رواية قصتي مجددا بالتأكيد.
نعم أنا قتلت «سعيدا»، وسأخبرك الآن لماذا.
هل تريد كوبا من العصير؟ أعتقد أن جلستنا ستطول قليلا، فلا بأس ببعض العصير!
حسن!
كان «سعيد» اسما على مسمى، رجل سعيد!
وهو ما بدا لي غريبا؛ أن يوجد من يطلق اسم «سعيد» على ابنه في بلاد كالسودان، هذا نوع من الكوميديا السوداء إن أردت رأيي. «سعيد» هذا كان سعيدا جدا، سعيدا للغاية.
سعيدا إلى درجة تثير غبينتك وغيظك.
تراه ترتسم الابتسامة البلهاء على وجهه طوال اليوم، يصحو صباحا ليكتشف أن الحنفية لا تخرج سوى صوت حشرجة مرعبة، لا ماء هنالك، فيبتسم، طرمبة ضخ الماء لن تعمل لأن الكهرباء تم قطعها كذلك فيبتسم، تفوته الحافلة فيبتسم، تتركه زوجته وتهرب مع عشيقها فيبتسم، يشتمه مديره في العمل فيبتسم، كأنه مصاب بمتلازمة مرضية لعينة ما!
ابن ال... هذا.
عندما أتذكر وجهه الغبي الآن أتمنى أن يعود للحياة لأهشم جمجمته مجددا.
متى بدأ كل شيء؟
هذا سؤال مهم، ولكي أجيبك عليه يجب أن ترجع معي عدة سنوات للوراء، مذ كنت طفلا صغيرا وأنا مولع بعادة غريبة، وهي تكديس الكتب ... لم أكن أسعد بشيء سوى اقتناء كتاب جديد، رائحة الكتاب الجديد، وملمس الورق المصقول، تصاميم الأغلفة، هذه أشياء كانت تثيرني حد الوله!
وخلال فترة وجيزة تراكمت مئات الكتب فى غرفتي، كتب من شتى المجالات، في الفلسفة والاقتصاد والرياضيات وعلم النفس والفيزياء والأدب والتاريخ والأدب، بعضها أفهمه وبعضها لا أفهمه، هل تعرف أنني قد قرأت «الأيام» لطه حسين، و«ثروة الأمم» لآدم سميث، و«هكذا تكلم زرادشت» لنيتشة، وكتب معقدة مماثلة، وأنا بعد طفل لم أتجاوز الثامنة من العمر! كنت أقرأ ما أستطيع استيعابه، وما لا أفهمه أخزنه من باب الاحتياط، لربما يفيدني في يوم ما!
بالتأكيد لم أكن أعرف أن هوايتي الوحيدة لها اسم لاتيني معقد مثل ببلومانيا
Bibliomania ، وهو اسم شاعري كما لو لاحظت، يصف اضطرابا نفسيا ينتمي إلى عائلة الوسواس القهري (
OCD ) المبجلة، داء العباقرة أو مرض المثقفين كما يطلق عليه.
لم أكن أعرف أنني «ببلوماني» بطبيعة الحال، وأن حبي للكتب شيء يستوجب زيارة الطبيب النفسي، كنت سعيدا وكان هذا ما يهمني.
مرت الأعوام وتزوجت زواجا تقليديا، لم أكن مولعا بالنساء بشكل خاص، ولم أعجب بفتاة أو أقع في الحب من قبل، لست مريضا أو منحرف الميول إذا ما تبادر شيء من هذا إلى ذهنك، أنا فقط أعشق كتبي وقراءاتي إلى الحد الذي لم يعد هناك مجال لإضافة شيء آخر.
هل رأيت زوجة «أينشتاين» من قبل؟ من الواضح أن الرجل لم يكن يفقه شيئا في النساء، وأكاد أجزم أنه لم يرفع رأسه عن كتبه عند زواجه بحيث ينتبه أنه يتزوج ابن خالته، لا أقارن نفسي ب«أينشتاين» بالطبع، لكنني أوضح لك فكرتي فقط!
في لحظة ما انتبهت والدتي أنني تجاوزت الأربعين ولما أتزوج بعد، فاقترحت علي ابنة عم خالة جدي، أو شيئا من هذا القبيل. - «بنت أصول ومتربية وست بيت شاطرة.»
مع الكثير من «عايزة أشوف أولادك قبل ما أموت!» ولا بد من بعض الدموع كذلك، على سبيل الابتزاز العاطفي حتى لا أعترض!
أنت تعرف كيف يتم ترتيب مثل هذه الزيجات فلن أصدع رأسك بالمزيد، خلال أسبوع انتهى كل شيء، ووجدتني أجلس في كوشة حفل الزواج وأضع خاتما على إصبعي، وبجواري امرأة لا أعرف عنها شيئا ترتدي فستان الزفاف وترقص بسعادة.
المسكينة!
في تلك المرحلة كانت كتبي تشغل غرفة كاملة، مئات الكتب تتراص من الأرض لسقف المكان، آلاف الكتب جمعتها طوال حياتي!
هناك قصة مشهورة عن «الزبير بن بكار»، كان يقضي وقته دائما في بيته وسط كتبه يقرأ ويكتب، قالت بعض النسوة لزوجته إنها محظوظة؛ لأنها تزوجت رجلا محترما لا تزوغ عينه إلى سواها، ولا يعود لها أنصاف الليالي برائحة عطر أنثوي أو بصمة أحمر شفاه على كتفه، فقالت المرأة غاضبة: والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر.
الآن يمكنك أن تفهم شعور زوجتي وقتها، لا أستطيع أن ألومها حقا، كنت أقضي كل يومي بين عملي في الجامعة، أحاضر الطلاب عن اقتصاد السوق الحر، ونظريات جون كينز، وعندما أعود للمنزل أغلق على نفسي باب مكتبتي وأنهمك في القراءة، لا أخرج منها إلا ليلا فأجدها قد نامت وتركت لي الطعام على طاولة الصالة، في النهاية لم تعد تطيق كل هذا فطلبت الطلاق، وتطلقنا بسرعة وهدوء.
لم يكن الأمر محزنا بالنسبة لي، في الواقع نسيت كل شيء عن زوجتي بعد يومين، لم أشعر بغيابها لأنني لم أشعر بوجودها سابقا، أخرج للعمل صباحا وهي نائمة وأعود للفراش ليلا وهي نائمة كذلك، لم أكن أتذكرها بعد انفصالنا إلا عندما تصرخ أمعاء بطني، فأخرج من المكتبة ولا أجد شيئا آكله في الخارج، أفتح الثلاجة فأجد بعض الخبز الجاف أو وجبة ظلت هناك لعدة أسابيع تحل المشكلة وتخرس معدتي. جربت أن أتعلم الطبخ لكنني اكتشفت أنه مضيعة كبيرة للوقت، هل جربت أن تقضي قرابة الساعة لتطبخ شيئا تأكله في دقيقتين يا حضرة المحقق؟
ربما تتفق معي أنه ليس التصرف الأكثر ذكاء في العالم، ومضيعة كبيرة للوقت، دعك من قناعتي بأن أي دقيقة أقضيها في شيء غير القراءة هي وقت ضائع بالنسبة لي، فلم يكن لدي وقت لعادة سخيفة كالأكل.
ثم اكتشفت الحل السحري فجأة، كان هذا الحل دكانا صغيرا يسمى «مطعم العائلة»، الآن هذا حل ممتاز يوفر لي طعاما على مائدتي بدون تضييع وقتي في الطبخ، والأجمل أنه لا يطلب مني اهتماما خاصا أو يهددني بالطلاق. اتفقت مع صاحبه على أن يجلب لي طلبات محددة كل يوم في وقت معين، ويعلقها على باب الشقة من الخارج، ونقدته ماله مسبقا.
هناك مشكلة أخرى لاحت لي، لا أعرف ما الحكمة من اتساخ الملابس وغسلها باستمرار، سمعت من قبل عن تكنولوجيا النانو التي سيضيفونها للملابس فلا تتسخ على الإطلاق مهما تطاول زمن ارتدائك لها، وإنني أحسد أولئك المحظوظين الذين سيعيشون في ذلك العصر.
كانت مشكلة كبيرة وقتها وقد حلت بسرعة كذلك عندما اكتشفت شيئا سحريا آخر اسمه «عبدو المكوجي»، ثم الحل السحري الآخر المسمى «أم بركة»، امرأة ضخمة كوزير اتحادي فاسد، تلهث بلا انقطاع، وتشهق للهواء وهي تضع يدها على صدرها كأنها ستسقط ميتة بالسكتة القلبية في أي لحظة، لحسن الحظ لم تفعل ذلك، لكنها فعلت ما هو أفضل، وافقت على أن تمر على بيتي مرة كل أسبوع لتعتني بالنظافة، وغسل الأواني، وترتيب المكان مقابل أجر زهيد.
حشد من الحلول السحرية حلت جميع مشاكلي، وعادت حياتي لروتينها الجميل بين الجامعة والبيت.
أرجو ألا أكون قد أثرت مللك يا حضرة المحقق؟
لا؟ جميل!
الآن يمكنني أن أجيب سؤالك وأقول لك متى بدأ كل شيء.
لا بد لك أن تقفز بالزمن معي عدة أشهر للأمام، كان هذا في شهر أبريل، أو ربما هو مايو! لا أذكر بالضبط.
لكنني كنت عائدا إلى داري عصرا من الجامعة، خلعت ملابسي وارتديت الجلباب الخفيف ودخلت إلى المكتبة، كان المكان في حالة فوضوية، أقصد أنه كان نظيفا للمرة الأولى منذ سنوات، وهو ما بدا لي فوضويا، لدي نظام معين في ترتيب الأشياء لا أتحمل تغييره، وهو مرض آخر جادت به علي عائلة الوسواس القهري الكريمة، الهوس الشديد بنظامي الخاص في ترتيب أشيائي.
أذكر أنني قد ثرت ثورة عارمة على زوجتي من قبل عندما حركت كتابا كنت أقرؤه بضع سنتمترات لليسار، كان هذا مما لا يحتمل في قاموسي الشخصي، وقد عرفت هي هذا وفهمته فلم تجرؤ على الدخول إليها مجددا.
لا بد أنها «أم بركة»، حذرتها مرارا من عدم دخول مكتبتي، فلا بد أنها قامت بالتنظيف على سبيل تجويد العمل.
تلك اللعينة!
دلفت للداخل بسرعة وأنا أسبها وألعنها، عندما تعثرت قدمي بكتاب ضخم ملقى على الأرض، كان الكتاب مجلدا ضخما مكتوبا بخط اليد، له أوراق مصفرة غريبة الشكل.
وغمرتني قشعريرة باردة، وأنا أقرأ العنوان الرهيب.
شمس المعارف الكبرى!
2
شمس المعارف الكبرى، مخطوط لأعمال سحر تتعلق بالجن والعالم السفلي.
ينسب تأليفه إلى أحمد بن علي البوني المتوفى سنة 622ه، تم تحريم تداوله في الدين الإسلامي لما فيه من مزيج عجيب من المعلومات عن كيفية تحضير الجن، ووصفات خطيرة لتسخير كائنات العالم السفلي وجعلها طوع القيادة. (ويكبيديا)
جذبت كرسيا وجلست أتصفح الكتاب السيئ السمعة.
هناك العديد من النسخ صدرت من الكتاب لاحقا، ما أعرفه أنه قد تمت طباعة أول نسخة في بيروت عام 1985، وقد حذفت كل الفقرات التي تحتوي على شفرات تحضير الجن وطلاسم عالم السحر، لم يتبق منه سوى بعض الحديث الإنشائي عن السحر وتفاصيله العامة.
فيما بعد تمت مصادرة كل النسخ المطبوعة من كل الدول الإسلامية، ومنع تداوله بعد صدور عدة فتاوى بتحريم التعامل به، باعتباره من كتب تعليم السحر الأسود، وأصبح من يقتنيه في حكم الكافر شرعيا، فبالرغم من تقنينه لا زال الكتاب خطرا جدا.
ما بين يدي الآن هي النسخة الأصلية من الكتاب الرهيب، المكتوبة بخط يد أحمد بن علي البوني شخصيا!
الأوراق من جلد الحيوانات المدبوغ، والخط متعرج يصعب قراءته، خط كوفي متشابك من النوع الذي يميز المخطوطات القديمة، هناك تعليقات على الهوامش بها بعض آيات القرآن الكريم، وتركيبات جمل غريبة مثل «بطح، نويا، جبم»، آيات قرآنية كتبت عكسيا، وجملة تتكرر بإصرار غريب في هوامش الكتاب «افهم ترشد»، «افهم ترشد».
هناك رموز غريبة، ورسومات متكررة لمربعات متداخلة، بداخلها حروف متقطعة عربية وعبرية وحروف أخرى لم أعرفها، تبدو كالتالي:
يمكنك أن تفهم مدى حيرتي ورعبي يا حضرة المحقق، فما بين يدي كان أخطر الكتب على الإطلاق وأسوأها سيرة، كل من حاز على الكتاب انتهى نهاية بشعة يشيب لها شعر رأسك، بعضهم انتحر، وبعضهم وجد مقتولا على طريقة العصور الوسطى، كسر الرقبة وتدوير الوجه للخلف ... هناك بضع روايات متداولة عن السير «فيتزجيرالد»، أحد النبلاء الإنجليز في القرن الثامن عشر، قيل إنه قد اشترى الكتاب من مزاد سري بمبلغ فلكي من أحد العرب، وقد رآه بعض الشهود في آخر ظهور له، يتصارع مع كائن شيطاني مخيف قبل أن يختفي بلا أثر على الإطلاق. لا توجد جثة، ولا أشلاء، ولا أي شيء يشير إلى مقتله، فقط تلاشى كأن لم يكن!
هذه النسخة ظلت تنتقل سرا بين الأيدي عبر مئات السنين حتى وصلت إلي أنا بالذات!
فكيف وصلت إلى مكتبتي؟ ومتى؟
لا أذكر أنني قد اشتريته أو تحصلت عليه بأي طريقة من الطرق، نحن لا نتحدث عن كتاب أسرار الطبخ أو تعلم الإنجليزية بدون معلم في ثلاثة أيام، كتاب كهذا لا يمكنك أن تنسى كيفية حصولك عليه!
أغلقت الكتاب بيدين مرتجفتين وقد قررت على الفور ما علي فعله، سأحرق الكتاب!
أعرف جيدا ما حدث لكل من تحصل عليه وتعامل معه، لست بهذا الحمق، لا أرغب في الموت الآن، وبالتأكيد لا أريد لشيطان ما أن يهشم رأسي ويلوي رقبتي للخلف بطريقة القرون الوسطى، ستكون نهايتي في مستشفى حكومي ضعيف الإمكانيات، أسعل قليلا وأطلب كوب ماء، ثم أغمغم شيئا ما لا يفهمه أحد، وأموت بأناقة!
اتجهت للمطبخ ووضعت الكتاب في أحد أواني الطبخ، ملمس الكتاب غريب يثير التقزز، نحن نتحدث عن جلد حيواني مدبوغ، قال البعض إنه جلد بشر حقيقي لكنني لا أرجح هذا الاحتمال، لا بد أنه من الأساطير التي أحاطت بالكتاب، أشعلت ثقابا ورميته، وراقبت الشعلة الزرقاء الجميلة؛ إذ تتوهج وتبدأ في التهام الكتاب الشيطاني، رائحة مزعجة فاحت مع الدخان المتصاعد، رائحة شواء كريهة تعبق بسحر القرون الوسطى، إن كنت تفهم ما أعنيه.
هل هذا صوت صراخ؟!
هنا تذكرت شيئا، من يضمن لي أن كل القصص التي نسجت عن ضحايا الكتاب هي قصص حقيقية فعلا؟ لا يوجد دليل مؤكد عن تلك الوفيات، والأمر قد لا يعدو كونه جزءا من هالة الأساطير التي نسجت عنه وعن مؤلفه؛ ألا يكون حرق الكتاب ضربا من الجنون؟ خاصة وأنه النسخة الوحيدة في كل العالم.
دعك من الجانب المادي، هذا الكتاب الذي بين يدي الآن يمكنه أن يجلب لي ثروة إذا ما قررت بيعه، ثروة ستغنيني عن العمل بقية حياتي.
قفزت بسرعة وجلبت منشفة المطبخ ورحت أطفئ النيران، لحسن الحظ لم يحترق منه شيء سوى الزوايا العلوية، أعددت كوبا من الشاي الثقيل وعدت لمكتبتي ورحت أتصفح الكتاب.
أغلب الصفحات وصف سردي للسحر، وبعض التعاريف لحروف الأبجدية العربية ومواطن قوتها إذا ما تم تركيبها مع حروف أخرى بتركيبات معينة.
هناك تعريفات عامة للحروف، يقول الكاتب في إحداها: «حرف العين: ظاهره عليم وباطنه عظيم، أحد الحروف الترابية، وهو حرف لين يطوع الجن إذا ثار أو أراد ⋆
نص غير واضح ⋆ ، دين الإنسان، يكتب في قماش ويوضع في الماء ويقرأ عليه
سلام قولا من رب رحيم
عشرين مرة، وهذا الحرف المبارك مشتق من العلم والتعلم، و... ⋆
نص غير واضح ⋆
سبعين مرة في الساعة الأولى من يوم الجمعة، ⋆
نص غير واضح ⋆
وزعفران وسقاه لمن به وجع، سكن وجعه بإذن الله».
الحروف - بحسب الكاتب - تنقسم إلى أربعة أنواع، الحروف النارية، والحروف المائية، والحروف الترابية، والحروف الهوائية، يتم استحضار الجن عن طريق تركيبات ثلاثية معينة للحروف النارية، وترديدها سبعين مرة بطقوس معينة تتضمن شفرة الاستحضار، ويتم صرفه عن طريق مزيج من الحروف المائية والترابية، لا يوجد وصف لمهام الحروف الهوائية.
هناك جدول للحروف النارية وتركيباتها الثلاثية، لن أذكرها لك بطبيعة الحال حتى لا تحدث كارثة.
هناك رسومات بخط اليد تشبه الوصف التشريحي لمراكز تركز الجن عن حلوله في جسد الشخص المضيف، رسومات للجن نفسه كما تخيله الكاتب - وربما رآه! - ورموز غريبة تبدو كخليط من الحروف العبرية والحروف الصينية ونجمة داءود.
قاطع أفكاري صوت طرق منخفض على الباب، أغلقت الكتاب وذهبت لأفتح باب الشقة، كان ذلك الشيء يقف هناك في خجل، قصير القامة قليلا، ضئيل الحجم، بدأ الشعر يتساقط من مقدمة رأسه، وله ابتسامة بلهاء معلقة على وجهه بلا سبب.
من النوع الذي يصحو صباحا ليكتشف أن الحنفية لا تخرج سوى صوت حشرجة مرعبة، لا ماء هنالك، فيبتسم، طرمبة ضخ الماء لن تعمل لأن الكهرباء تم قطعها كذلك فيبتسم، تفوته الحافلة فيبتسم، تتركه زوجته وتهرب مع عشيقها فيبتسم، يشتمه مديره في العمل فيبتسم.
قال لي إن اسمه «سعيد» وأنه جاري الجديد، دعوته للدخول وأعددت لنا كوبين من الشاي، وراح يتحدث كثيرا.
أعتقد أنك قد لاحظت يا سيدي المحقق أنني لست من نوعية الأشخاص الذين يمكنك وصفهم بالاجتماعيين، في الواقع أنا أكره البشر وأهرب منهم كأنهم الطاعون ذاته، وأمقت أي تواصل بشري إذا ما خرج من نطاق التحية وردها. أما التواصل الحميم فهو شعر لا أملك له مشطا، ولا أطيق هؤلاء اللزجين المملين، الذين يظنون أن مجرد وجودهم في الحياة هو حدث أسطوري بما فيه الكفاية، يستحق أن يسطر في المجلدات، وأن ما في حيواتهم التافهة ما يستحق أن يروى لتستقطر منه الحكمة، ويستهدي به الناس من بعد ضلال.
يجلس أحدهم وهو يداعب كرشه في رضا عن النفس يثير هلعك، ليصدع رأسك بقصصه ووجهات نظره، وآرائه الحمقاء في كل شيء. «سعيد» كان من هذا الطراز، لزج كالمخاط، وممل كبيان حكومي.
وخلال الساعات التالية أصر أن يعذبني بقصصه مع برنامج اللوتري الأمريكي ورغبته في الهجرة من بلد لا يقدر مواهبه، معاناته مع زوجته وهروبها مع عشيقها، مديره المتسلط، زحام المواصلات، تقلب الجو، مؤامرات الماسونية، ومشاكل الإصلاحات السياسية وتحديات التنمية في دولة الكنغو، بينما كنت أهز رأسي في سأم وأفكر في كيفية طرده، أو إشعاره بأنه غير مرغوب فيه، تشاغلت عنه أثناء حديثه ولم يفهم، قرأت كتابا ولم يفهم، تثاءبت ولم يفهم، غططت في النوم وارتفع صوت شخيري، فأيقظني وسألني بفضول «هل نمت؟» ثم عاد لكرسيه واستمر في تعذيبي.
ثم أشرق وجهه فجأة من بين حديثه، وهو يخرج صورة فوتوغرافية من جيبه، قال شيئا ما عن تعارف بالبريد الإلكتروني بينه وبين فتاة ما تقيم في أحد دول المهجر، كانت الصورة له وهو يأخذ وضعية المفكر إياها، مع الكثير من فلاتر تحسين الصورة لجعله يبدو أجمل مما هو عليه في الواقع.
يضع سبابته على خده، وينظر للكاميرا في هيام واضح، وعلى وجهه أغبى ابتسامة يمكنك أن تراها. في الخلفية صورتان مصغرتان له؛ في الأولى يضع الهاتف المحمول على أذنه متظاهرا بالانهماك في مكالمة مع مدير أعماله، وهو ينظر للكاميرا بطرف عينه. أما الثانية - وهي ألعن - فقد كان يحمل أزهارا بلاستيكية ويتظاهر باستنشاقها في هيام، مع حشد من القلوب المنفطرة التي تقطر دما!
الآن يمكنك تفهم دوافعي لقتله يا حضرة المحقق.
أليس كذلك؟!
3
في الجامعة كنت مشغول الذهن أثناء المحاضرة، وقد ظللت أنسى الموضوع الذي أتحدث عنه عدة مرات، فينبهني أحد الطلاب ضاحكا أين توقفت وماذا كنت أقول، كنت متشوقا للعودة للبيت وقراءة الكتاب، فلم يترك لي «سعيد» وقتا بالأمس لمطالعته، لم يفارقني اللعين إلا عندما اعتذرت له صراحة لرغبتي في النوم، وراح يتمتم بعبارات الشكر لحسن ضيافتي وأنا أدفعه أمامي متعجلا، ويعدني بزيارة أخرى.
وكأن الأحمق لم يفهم بعد أنني أطرده من منزلي!
عدت للمنزل، كانت «أم بركة» قد انصرفت للتو على ما يبدو؛ فالشقة كانت نظيفة ورائحة بخور عطر تطغى عليها، دلفت للمكتبة وفتحت الكتاب!
في المقدمة يقول الكاتب إنه قام بتشفير وصفات استحضار الجن في الكتاب، مفتاح الشفرة نفسه موجود بالكتاب، وقد اضطر لفعل هذا حتى لا يتعرض أي شخص للخطر إذا ما وقع الكتاب في يده بالصدفة، هكذا لن يفيد الكتاب أحدا إلا إذا كان يعرف ما يريده منه بالضبط، وهو تصرف نبيل من المستر أحمد بن البوني بعد كل شيء. «افهم ترشد»، «افهم ترشد»!
العبارة تتكرر بلا هوادة في كل الصفحات تقريبا، أحيانا تكون في سياق الكلام وأحيانا تخالف السياق، لا أحتاج أن أكون هوكينج لأعرف أنها مفتاح شفرة الوصفة.
جلبت ورقة وقلم رصاص، ووضعت عدة علامات على الصفحات التي تحتوى على العبارة، ثم رحت أبحث عن كيفية فك الشفرة، جربت شفرة قيصر، وشفرة ديغراف، وشفرة النقر بلا نجاح.
أعتقد أن الأمر استغرق مني قرابة الأسبوع حتى استطعت فك شفرة الكتاب، قام الكاتب بوضع تشفير خاص به، وهي شفرة بسيطة ومبتكرة في الواقع، بحيث يشير رقم كل حرف في العبارة إلى رقم السطر في الصفحة.
قمت بتفكيك العبارة إلى أحرفها الأبجدية، ثم مقابلة الأحرف بالأرقام التي تكافئها في الترتيب الأبجدي كجدول مرجعي للشفرة!
في كل صفحة توجد فيها عبارة «افهم ترشد» علمت بالقلم الرصاص على السطر الأول، ثم العشرين، ثم السادس والعشرين، وهكذا.
الآن قمت بتحديد الأسطر المقصودة، وهي عبارات بريئة لا تعني شيئا عند جمعها، ولا توجد عبارات مميزة أو أحرف كتبت بألوان مختلفة لتوضحها، لا بد من وجود تشفير آخر لتحديد الجمل المقصودة من كل سطر، لن أصدع رأسك بكمية المحاولات التي قمت بها لمحاولة اكتشاف جمل الاستدعاء، لكنني توصلت للحل الصحيح لاحقا بطريقة غريبة بعض الشيء.
أ
1
ف
20
ه
26
م
24
ت
3
ر
10
ش
13
د
8
كان الليل قد انتصف، وشعرت بأن الصداع يفتك بي من كثرة محاولاتي الخرقاء، فأغلقت الكتاب وقمت لأخلد للنوم، ورأيت في حلمي الجدول الذي قمت بكتابته ينفصل عن الورقة التي كتبته فيها ويحلق في الفضاء المظلم، ثم تتناثر عدة حروف في فضاء المكان. «ك و د م ح» «ا ر ك ش.»
وهي جملة جميلة جدا لو دققت النظر.
تتراقص الحروف في الفضاء قليلا، وتعود بعض الأحرف وتستقر في أماكنها، ثم يضيء حرف الألف ثم التاء ثم الشين بالترتيب. «أ - ت - ش.»
تحضرني هنا قصة أرخميدس عندما كلفه ملك سيراكوس بمهمة وزن التاج دون إتلافه، بعد أن شك في أن الصائغ قد غشه في المكونات وأضاف النحاس بدلا عن الذهب الخالص لزيادة الوزن. لاحظ أرخميدس وهو يستحم أن كتلة الماء تنزاح بمقدار وزن الجسم المغمور فيه، هكذا قفز من حوض الاستحمام وخرج في الشارع يجري ويصيح «أوريكا أوريكا» أي «وجدتها وجدتها»!
كان هذا ما فعلته تقريبا.
قفزت من السرير مستيقظا فجأة، وتعثرت بطرف الملاءة حتى سقطت أرضا، نهضت وأنا أسب وألعن، ثم ارتديت نظارتي وقلبي يخفق من فرط الحماس ...
أحمد بن البوني!
أيها الذكي اللعين!
فتحت الكتاب من البداية بيدين مرتجفتين من فرط الحماس، ورحت أتقصى الأسطر التي رسمت عليها علامات بالقلم الرصاص بحسب التشفير النصي لعبارة «افهم ترشد».
في الواقع، كانت الشفرة مزدوجة من البداية، فقد قام مؤلف الكتاب بتشفير الأسطر بحسب الترتيب الرقمي لحروف الأبجدية أولا، ثم اختيار الأحرف التي تقابلها أرقام فردية لتحديد الكلمات المطلوبة في الأسطر ذاتها ثانيا، وهي الكلمات التي تبتدئ بهذه الأحرف.
لأقرب إليك الفهم سيدي المحقق؛ فإن الأرقام الفردية في الجدول تقابل ثلاثة أحرف فقط من عبارة «افهم ترشد »، وهي الحرف «أ»، والحرف «ت»، والحرف «ش».
أ
1
ت
3
ش
13
من السطر الأول وضعت علامات على الجمل التي تبتدئ بأحد تلك الأحرف، أو تأتي في الترتيب الثالث في حال وجود حرفي التعريف «ال»، إذا ما كانت الجملة قائمة بذاتها بدون حرفي التعريف، بمعدل ثلاث كلمات في كل سطر.
عندما فرغت من نقل الكلمات في ورقة جانبية واجهتني الرسالة الرهيبة التالية: «الآن تفهم شفرتي، أنت تحمل الشعلة، إليك تسخر الشرور.» «اجم تتط شطط - الم تاب شقف - اجج تغف شيش - إبليس تحر شظغ - اشر تعف شيص.»
من المؤلف للقارئ
قبل أن تستمر في القراءة، أتمنى ألا تكون قد قرأت هذه الرموز بالترتيب سرا أو علانية، وإذا فعلت، فاستعذ بالله من همزات الشياطين، واقرأ المعوذتين ثلاثا مع الوضوء «هذا مهم»، ولا تقلق بشأن الكوابيس، ستستمر معك يوما أو اثنين على أقصى تقدير.
في هامش مؤخرة الكتاب يقول الكاتب: «أمراء الجحيم السبعة، لوسيفر، ومامون، وأسموديوس، والشيطان، وبعلزبول، والحوت لوياثان، وبلفيجور، هم الشياطين الكبار الذين يحكمون جهنم، وينشرون الخطايا ويوسوسون بالآثام، وأسباب كل الشرور.»
لاستدعاء أحد الأمراء السبعة تقرأ كلمات النداء سبعا وسبعين مرة، مع الجلوس بغير طهارة، عكس اتجاه القبلة، وقراءة الآيات الثلاث من القرآن الكريم أدناه بشكل عكسي، وترديدها ثلاث مرات قبل كلمات النداء، والبدء بالبسملة «باسم السبع العظام» بدلا عن «بسم الله الرحمن الرحيم»!
باسم السبع العظام «...»
1
بسم السبع العظام «...»
بسم السبع العظام «...»
ثم يضيف أخيرا فيما يشبه إخلاء الطرف: «أما الآن وقد وعيت وفطنت، وباسم الجبار تحصنت، تتفتح لك طاقات عالم الشياطين السفلي ويسخر لك مثل نبي الله سليمان، فاستخدم سلطتك بحكمة ولا تكونن من الممترين، وإني أدلك ولا أهديك، وأوجهك ولا أثنيك، وأرشدك ولا أزجيك، ثم لا أغنيك عن الله شيئا، بين يديك مفتاح عالم مخفي عن العيون، ومفارق للمتون، وداع للكفر والجنون، فاعلم أن ما بين يديك قوة ساحقة ماحقة لم يسبقك إليها أحد من الأنام، وأبرئ نفسي من استخدامها في ارتكاب الذنوب والآثام، وإن الله على ذلك لشهيد .»
لم أنتبه لشروق الشمس إلا عندما فرغت من الكتاب، وقد قررت ما علي فعله.
بثبات قمت من على الكرسي، ضوء الشمس يتسرب بخجل من بين فرجات الستار السميك على النافذة، أزحت الستار فغمر الضوء المطمئن المكان.
قرأت الآيات القرآنية المكتوبة بشكل عكسي ثلاث مرات، ثم وقفت وظهري في اتجاه النافذة، أخذت شهيقا عميقا، ثم رددت بصوت عال: «اجم تتط شطط - الم تاب شقف - اجج تغف شيش - إبليس تحر شظغ - اشر تعف شيص.»
4
لم يحدث شيء!
تلفت حولي في حذر متوقعا تجسد كائن شيطاني ما مع بعض الصواعق والعواصف والدخان ليخبرني أنه طوع أمري، وأن لدي ثلاث أمنيات أو شيئا من هذا القبيل، لكن لم يحدث شيء من هذا، ظل المكتب هادئا كما هو!
صحت مجددا: «اجم تتط شطط - الم تاب شقف - اجج تغف شيش - إبليس تحر شظغ - اشر تعف شيص.»
مجددا، لا شيء!
هي مزحة ثقيلة إذن من الأخ أحمد بن البوني بعد كل شيء!
مزحة سخيفة إلى أقصى حد!
لا بد أنه كان يشعر بالكثير من الملل في خيمته فقرر أن يزجي وقته بطريقته الخاصة، بأن يتلاعب بالأحمق الذي سيأتي من بعده ليردد هذه العبارات غير المفهومة بثقة وثبات بحثا عن سر القوة المطلقة.
وتخيلته يتقلب في قبره ضاحكا!
على كل حال لا يوجد وقت للمزيد من الألعاب، أنا مرهق للغاية، لقد ظللت مستيقظا طوال الليل، سأتصل على عميد الجامعة وأعتذر عن قدومي اليوم، أما الآن فلا شيء سوى السرير الدافئ؛ فالنوم الطويل بلا كوابيس!
تدثرت بالأغطية وأنا ألوك تلك الأشياء الوهمية، جفناي يتثاقلان، أشعر أنني أغوص في ثنايا الفراش ... أغوص!
أغوص ...
أغوص ...
ثم رأيته يقف أمامي!
على عكس الصورة النمطية السائدة للشياطين، كان هذا رجلا عاديا، رجل وسيم في الواقع، شعره مصفف بعناية يتخلله بعض الشيب حول فوديه، ويرتدي بذلة سوداء وربطة عنق أنيقة، وبعض الحلي الذهبية حول رقبته وأصابعه، ويبتسم ابتسامة آسرة غاية في اللطف. - «من أنت؟» سألته مذعورا! - «أنا إبليس، أنت استحضرتني بعبارات النداء!»
قالها وابتسامته الساحرة تزداد اتساعا وتضيئ المكان فعليا.
تلفت حولي في توتر، كنا نقف في صحراء جرداء، رمالها حمراء كالدم، وبعض الأشجار الجافة والنافقة، السماء ملبدة بالغيوم فلا يتبين منها شيء، وضوء خافت يعم المكان لا أعرف مصدره بالضبط، كنت أعرف أنني أحلم الآن، قرأت في إحدى الصحف من قبل عما يسمى بالحلم النقي، عندما تحلم وأنت تعرف في حلمك أنك تحلم، كانت المرة الأولى التي أعيش فيها هذه التجربة.
قال، وكأنه قرأ أفكاري: «أنت تحلم الآن، لكنه ليس حلما مختلقا، وبرغم أن جسدك يربض في فراشه بعيدا عن هنا فإن هذا اللقاء حقيقي، لكنه في بعد آخر غير بعدك الأرضي، تلك هي الوسيلة الوحيدة التي أستطيع بها التواصل معك، فقط عبر العالم الأثيري، أما في واقعك المادي فليس لي وجود.»
سألته بذات التوتر: «ما الذي سيحدث الآن؟»
قال وهو يهز كتفيه ببساطه: «ستوافق على بيع روحك، أشياء بسيطة، مجرد شكليات!» - «ماذا تعني؟!» - «أعني أننا سنبرم عقدا، تماما كما يفعل المتعاقدون في عالمك!»
قلت وقد بدأت أشعر بالمأزق الذي قدت نفسي إليه: «تقصد أبيعك روحي مثل فاوست!» - «شيء من هذا القبيل!» - «استحضرتك بشفرة الكتاب، ألا يكفي هذا؟!»
ضحك برقة حتى أشرق وجهه ووضع يده على كتفي، وكأنه صديق قديم سمع للتو خاطرة مضحكة من صديقه المقرب، ومن القرب بدت ملامحه أكثر جمالا، لا توجد امرأة على وجه الأرض يمكن أن تقاوم سحر هذا الرجل، ربما لا يوجد رجل يمكن أن يقاومه كذلك!
قال وهو يمسح على زجاج نظارة ظهرت بين يديه فجأة: «عبارات النداء الغرض منها استحضاري فقط، أما التعاون فشيء آخر، لا بد لك من أن توافق على خدماتي.»
ثم نظر لي باسما وأضاف: «أنت استحضرتني بإرادتك الكاملة، وأجهدت نفسك حتى توصلت إلى شفرة الكتاب، لا أفهم سبب تخوفك الآن!»
من قال إن الشياطين يفتقدون حس المنطق!
سألته في تبرم لا داعي له: «حسن أين سأوقع؟»
ضحك مجددا، ثم ارتدى النظارة الطبية «أنت مضحك حقا يا صديقي!» قالها من بين ضحكاته ، ثم فرقع بأصابعه فظهر كرسي من العدم جواري، أشار لي بالجلوس فجلست صامتا، وكأحد حواة برامج المواهب الأجنبية، فرقع بأصابعه مجددا فظهرت شمعة متقدة قدمها لي وطلب مني أن أمسكها بكلتا يدي في حرص، ثم أشار للأرض فارتسمت دائرة ضخمة على الرمال حولي، وفي منتصفها نجمة داءود المميزة، كنت أنا في منتصفها.
ردد بصوت فخيم محبب: «باسمك لوسيفر العظيم، إلهي الأعظم، ورب الظلمات، حاكم أقداري ومالك روحي، أناشدك بالحضور والوفاء لرغباتي!»
كانت الكلمات بلغة غريبة على مسمعي، ولغرابتي فقد عرفت أنها اللاتينية القديمة، والأكثر غرابة أنني كنت أفهم ما يقول بلا مشقة برغم أنني لا أعرف حرفا من اللاتينية. اقترب مني وقد بانت أسنانه المتراصة بنظام، ببياضها الناصع من خلف ابتسامته الواسعة، أمسك يدي وسألني: «هل توافق على شروط العقد المبرم بيننا ...»
بطرف عيني استرقت نظرة إلى السماء الملبدة بالغيوم، بدت أكثر سوادا وادلهماما، وغمرني شعور مزعج بأن الله غاضب علي! - «سامحني يا رب!» أسررتها في نفسي، ثم قلت له: «نعم ... أوافق.»
ابتسامة واثقة شاعت على وجهه الجميل، ثم سألني: «ماذا تريد؟ مالا؟ معرفة؟ سلطة؟»
سألته في حذر: «ألا يمكنني الحصول عليهم جميعا؟ أم أن هناك عددا معينا من الأمنيات؟»
ضحك في رقة، ثم قال: «لقد أفسدت القصص العربية عقلك، أنا لست جنيا خرج من فانوس سحري يا صديقي، يمكنني أن أحقق لك ما تريد لكن ليس بتلك الطريقة الإعجازية، إن ورد شيء كهذا إلى خاطرك!»
تفكرت قليلا، ثم قلت بعد أن حسمت أمري: «حسن، المعرفة، أريد أن أعرف كل شيء، بالمعرفة يمكنني أن أحقق كلا الأمرين الآخرين.»
هز رأسه في إعجاب مؤمنا على كلامي، وقال: «هي المعرفة إذن!»
ثم تراجع للخلف بذات الابتسامة الجذابة، وأضاف: «قد يؤلمك هذا قليلا، تقبل أسفي!»
شعرت فجأة بألم جارف يجتاح جهازي العصبي، وكأن النيران شبت في يدي، فأطلقت صرخة ألم حادة، وقفزت من الكرسي في ذعر. مادت الأرض تحت قدمي، وأحسست بنفسي أحلق في الفضاء لجزء من الثانية، قبل أن يرتطم رأسي بطرف الكومود، وفتحت عيني لأجد نفسي على الأرض في ظلام غرفتي، وقد سقط غطاء الفراش بجواري!
أضأت ضوء الغرفة في لهفة ونظرت لظهر يدي مذعورا.
كان هذا وشما طازجا لنجمة خماسية تتوسطها الأرقام «666»، بينما أبخرة الشواء المزعجة لا تزال تنبعث منه!
5 «خي إكس سيغما» أو 666.
رقم الوحش، وهو تفسير لنص ورد في سفر رؤيا يوحنا في العهد الجديد من الكتاب المقدس، كتب الرقم في المخطوطات اليونانية القديمة بالأحرف اليونانية
χξς .
ويجعل الجميع الصغار والكبار والأغنياء والفقراء والأحرار والعبيد تصنع لهم سمة على يدهم اليمنى أو على جباههم. (سفر الرؤيا)
مع لسع ماء الصنبور البارد الذي تدفق على يدي رحت أفكر بعمق.
قرأت كثيرا عن رقم الوحش في الأساطير اليونانية القديمة، وكتابات يوحنا الإنجيلي في الكتاب المقدس، لكنها في النهاية تندرج تحت بند الأساطير، أغلب الظن فإن الرقم «666» إن صحت الأقاويل عنه فهو يرمز للحاكم الغاشم «نيرو»، وقد استحدثته المعارضة كنوع من الترميز لاسمه عند الحديث عنه دون التعرض لخطر الاعتقال أو القتل، آراء قليلة جدا هي تلك التي أشارت إلى أن الرقم لا علاقة له بالحاكم «نيرو» ولكنه رمز للشيطان نفسه!
تعرف يا سيدي المحقق أنني رجل أكاديمي عقلاني، من الصعب علي ابتلاع قصة أنني قد انتقلت لبعد آخر وقابلت شيطانا قام بوشم نفسه على يدي، وبهدوء منطقي حاولت أن أفند تلك التجربة الغريبة التي مررت بها.
لا يوجد تفسير لوجود هذا الوشم إلا أن ما مررت به كان حقيقيا، وإلا فمن أين جاء؟ لم يكن هناك قبل أن أذهب للفراش.
معنى هذا أن الأساطير التي تحدثت عن رمز الوحش لم تكن خرافات إلى هذا الحد، الأمر حقيقي بعد كل شيء.
كانت ساعة الحائط في الصالة تشير للرابعة صباحا، لن أستطيع النوم مجددا، سأظل مستيقظا حتى تشرق الشمس ثم أذهب للجامعة ... أعددت كوبا من الشاي الثقيل، ومع رائحة النعناع الزكية المتصاعدة من الشاي جلست في المكتبة على ضوء الأباجورة الخافت أطالع الكتاب.
في الفصل السابع المسمى «في الأسماء التي كان النبي عيسى يحيي بها الأموات» يقول أحمد ابن البوني: «لم يكن السر الخاص بالسحر والشياطين وكيفية تسخيرهم متاحا للبشر في أي زمن مضى، حتى جاء النبي سليمان ملك بني إسرائيل، وسخر الله له كائنات العالم الآخر، وبعد وفاته انتشرت أقاويل أن هناك مخطوطا كتبه أحد الجن يحتوي كل الرموز التي كان يستخدمها النبي سليمان للسحر ويشرح كافة تفاصيله بدقة.»
ثم راح في الصفحات التالية يتحدث بإسهاب عن الجني «شمشوق». «شمشوق» هذا - بحسب ابن البوني - ملاك ساقط، من أوائل الملائكة التي تمردت مع إبليس ورفضت السجود لآدم، فنفاهم الله جميعا إلى الأرض، ثم سخره لاحقا ضمن حاشية من الجن ليكون خادما لدى سليمان، وقد كان حاضرا عندما طلب سليمان عرش بلقيس وجاءه الجني ليعرض عليه أن يحضر عرشها قبل أن يرتد إليه طرفه ... وحدث ما حكى عنه القرآن الكريم لاحقا.
كان «شمشوق» مقربا من نبي الله «سليمان»، وكثيرا ما كان الملك يستشيره في أمور الناس.
لكنه كان يملك عادة سيئة جدا، هي أنه وسيم جدا.
وعادة سيئة أخرى، أنه يكتب كثيرا!
حشد من العادات السيئة كانت السبب لما حكى عنه لاحقا.
في مخطوطة تقع في أكثر من ألف صفحة من جلد الجمال المدبوغ، سطر «شمشوق» تفاصيل الأيام التي قضاها مع «سليمان»، تحكي الأوراق عن القوة الهائلة التي حصل عليها النبي، وكيف أن العالم المنظور وغير المنظور كان تحت تصرفه وأوامره، حكى عن هوس السلطة، وجنون العظمة الذي بدا يعتري النبي الملك، وهو شيء مفهوم بالطبع، افتح أي كتاب في التاريخ واقرأ عن قادة الجيوش أو الملوك والأمراء، ستصاب بالذهول من الكم الهائل من الاضطرابات النفسية، والنرجسية المفرطة، وكل أوهام العظمة، والبارانويا، التي كانت تنضح من وجوههم وأفعالهم، أن تكون ملك الملوك، وأقوى الأقوياء على وجه البسيطة، لم يخلق بعد الإنسان الذي يستطيع الحياز على كل هذه السلطة دون أن تغير فيه شيئا.
لم يكن السحر بمعناه الحديث معروفا في تلك الأيام، لذلك كانت الأشياء السحرية الإعجازية التي يقوم بها الملك مثيرة للذهول ، تحكي الأوراق كذلك عن الشفرة السرية التي كان يرددها النبي والتي أوحى الله له بها عن طريق الملك «جبريل»، حين زاره ذات مساء في قصره، وأعطاه ملفوفا يحتوي عبارات غريبة، نوع من التعاويذ يحافظ على كل هذه الكائنات المرعبة تحت سيطرته حتى لا يفلت عيارها، أو تتمرد عليه!
متى بدأ الخلاف؟
بحسب ابن البوني فإن الشقة بين الجني الكاتب، والنبي الملك، بدأت مع قدوم بلقيس إلى «سليمان» لتعرض الصلح، في اللحظة التي كشفت فيها عن ساقها لتعبر ما ظنته بركة ماء، وقع الاثنان في غرامها من الوهلة الأولى، يمكنك تخيل النظرة المنبهرة في عين الملك والجني مع أي موسيقى رومانسية في الخلفية تعبر عن الحالة.
لكن «شمشوق» لم يصرح بحبه البكر واحتفظ به لنفسه خوفا من غضب الملك، لا أحد يعرف ما حدث بالضبط، فقد أورد ابن البوني العديد من الأقوال المتضاربة هنا، على كل حال زل لسان «شمشوق» وتحدث إلى الشخص الخطأ في نهاية المطاف، تسرب الخبر بسرعة البرق ووصل إلى سليمان بوشاية من أحد الجن، خشي الملك أن يسلبه الجني فتاته على ما يبدو، خاصة وأن الجني كان جميلا بشكل يفوق الحد الطبيعي، كان يشكل تهديدا، هكذا أمر بسجنه وتعذيبه، لكن الجني العاشق لم يتحمل كثيرا، ومات تحت وطأة التعذيب.
الآن يقفز أحمد بن البوني قفزة طويلة، بعد أن أطلق سراح الجن والشياطين عند موت «سليمان»، انتشرت الأقاويل أن «شمشوق» تنبأ بتاريخ وفاة النبي الذي لا يعلمه سوى الله، وأنه قد دونه في كتابه، بالرغم من أنه قد مات تحت سمع وبصر حاشيته دون أن يعرفوا أنه قد مات، قالوا كذلك أن الملاك الساقط تنبأ حتى بوقت موته هو بعد اكتشاف «سليمان» لأمره، وقام بدفن الكتاب في مكان سري بجوار عرش الملك في إسرائيل قبل أن يتم القبض عليه!
هذا المكان نعرفه الآن باسم «هيكل سليمان» في بيت المقدس!
تحكي الشواهد التاريخية عن قائد آخر تسربت له أخبار الكتاب وسعى للحصول عليه، كان هذا نبوخذ نصر الثاني، وقد قام بحصار القدس سنة 587 قبل الميلاد، وهدم الهيكل بحثا عن الكتاب، لكنه لم يوفق في الحصول عليه.
يستطرد أحمد بن البوني أن الجن والشياطين الذين تم إطلاق سراحهم في العالم، بعد وفاة سليمان لا يزالون هناك، في حالة من الانفلات والتوهان بعد أن مات سيدهم، ويضيف أن من يستطيع الحصول على هذا الكتاب فإنه سيستطيع ملك العالم المادي وقوانين الطبيعة طوع قبضته، وإعادة تطويع هذه الكائنات مجددا وجعلها ملك أمره، ويؤكد أنه - أي أحمد بن البوني - قد حالفه الحظ واطلع على صفحة واحدة فقط من أوراق «شمشوق»، كتب منها كتاب شمس المعارف الكبرى، لا يعرف أحد كيف تسربت إليه، ولم يذكر هو كيفية حصوله عليها.
يقول كذلك أن الكتاب يحتوي على صورة طبيعية لبلقيس في إحدى صفحاته، ولا تسألني عن كيفية قيام الجني بأخذ صورة فوتوغرافية في ذلك الزمن السعيد قبل اختراع الكاميرا ذاتها!
على ما يبدو، فإن الجني العاشق كان يمضي أوقات فراغه في تأمل صورة محبوبته عشيقة الملك، بينما يستمع لأغاني كاظم الساهر ويتمزق قلبه من فرط اللوعة.
هنا يعرج ابن البوني للحديث عن الشيء الأكثر خطورة على الإطلاق في الكتاب.
حكى عن العملية السحرية المرعبة التي كان يمارسها بعض الجن من حاشية «سليمان» للحصول على المعرفة، وهي عادة مرعبة بما يكفي لدرجة أنها تسببت في تأزم الحالة النفسية للنبي الملك، بعد أن عرف ما يقوم به كهنته في أقبية القصر المظلمة. وأمر بإيقافها فورا وقتل كل من كان يمارسها.
عادة عرفت فيما بعد باسم «النكرومانسية»! •••
صوت أنفاسي غريب بالنسبة لي!
تنفس ثقيل شهواني أشبه بصوت تنفس حيوان مفترس، أمشي وسط المقابر الصامتة في ثقة.
كنت هادئا برغم خوفي الغريزي الكامن في أعماقي منذ كنت طفلا من المقابر، شيء ما في طريقة مشيتي لم يبد لي طبيعيا، أمشي مكبا للأمام، وكأنني أمشي على أطرافي الأربع.
توقفت أمام قبر بعينه، وبسرعة قمت بنبشه بأظافري كحيوان مسعور، ظهر الكفن الأبيض تحت طبقة التراب الأخيرة، فقمت باقتلاع الجثمان من مكانه ورميته على كتفي ثم هرولت عائدا!
6
النكرومانسية
nekromanteía : نوع من أنواع السحر الأسود، يقوم بالتسلط على جثث الموتى واستنطاقها عبر أكل الجسد الميت للحصول على الحكمة أو القوة الروحانية، أو أي أسرار لا يعرفها إلا الميت المستحضر.
هل انتهى كوب العصير أخيرا يا سيدي المحقق؟ هذا جيد.
هل تريد المزيد؟ لا؟
حسن، فلنستمر في قصتنا.
فتحت عيني فجأة مع شهيق قصير، من طرف فمي كان يسيل خيط من اللعاب تجمع ليشكل بركة صغيرة على سطح المكتب، مسحته بظهر يدي سريعا وأنا أتحسس عنقي المتشنج.
نمت دون أن أشعر على سطح المكتب، وبجواري على أرضية المكتبة سقط الكتاب على الأرض وتناثرت معه بعض الكتب والأقلام.
كان قلبي يخفق بعنف حتى توجست، لا بد أن هذا من آثار الحلم الغريب الذي حلمت به من قليل، تثاءبت بصوت عال، وأنا أمد يدي لآخرهما لتحريك عضلات جسدي المتيبسة، أحرك عنقي يمينا ويسارا بضغطة من يدي فسمعت صوت القرقعة الخفيف، ظمآن بشدة، ككلب في يوم حر قائظ، جفاف شديد في حلقي، وبعض حبات العرق البارد على جبيني وأعلى صدر جلبابي، وكأنني بذلت مجهودا مرهقا ... نهضت عازما التوجه لثلاجة في المطبخ لأشرب بعض الماء، هنا لاحظت شيئا غريبا عندما استندت بيدي على سطح المكتب لأنهض، كانت هناك بقايا طين جاف على أطراف أصابعي وتحت أظافري!
ما معنى هذا!
جاءني خاطر غريب لمع في عقلي بسرعة البرق، خاطر مفزع تزايدت له ضربات قلبي حتى كاد يقفز من بين الضلوع.
عندما ضغطت على مفتاح النور في الصالة الخارجية، تأكد لي الأمر!
كانت الجثة مستلقية على أرضية الصالة، وقد انسل منها الكفن والتف بطرف حامل المنضدة الزجاجية!
لحظة! لماذا أشعر بأنني! - «ما بالك يا صديقي تبدو مرهقا!»
ما زال يقف هناك، بوجهه الوسيم، وشعره المصفف بعناية، وابتسامته الودود!
صحت في هلع: «مه ... ما ال... ما الذي يحدث!»
قال بهدوء وهو يشعل سجارا ويصلح من وضع نظارته الأنيقة على أنفه: «لقد فقدت وعيك!»
صحت فيه بحدة: «لا تتظاهر بالغباء، ما الذي جلب جثة إلى صالة داري؟»
قال مبتسما وهو ينفث الدخان ويصنع منه أشكالا غريبة «بدت لي حية وتتحرك»: «أنت جلبتها بنفسك!» - «لا لم أفعل هذا، كنت نائما.»
قال بابتسامة ساخرة خفيفة وهو ينظر ليدي: «حقا؟»
رفعت يدي أمام وجهي، كان الطين الجاف يغطي أطراف أصابعي وتحت أظافري، تماما كما رأيتهما قبل أن أفقد وعيي، قلت بصوت كالبكاء: «ما الذي فعلته بي!» - «ما طلبته بالضبط.» - «طلبت المعرفة، لا أن أكون غولا ينبش القبور.» - «وكيف تحسب أنك ستحصل عليها، هذه هي الطريقة الوحيدة، لا توجد حلول سحرية هنا.»
قلت له متحديا: «ما الذي تتوقع مني فعله؟»
نظر لي في تركيز، من خلف زجاج نظارته الشفاف، بدت لي عيناه غريبتان، هناك شيء غير طبيعي فيهما لم أستطع استيعابه.
قال: «أنت تعرف ما عليك فعله!» - «أنا لن أفعل هذا.» - «بل ستفعل، هل نسيت أنني أملكك الآن!»
رحت أتمتم بصوت هامس، فاقترب مني في فضول متسائلا: «ماذا تقول؟»
رحت أردد: «
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم .»
قال ضاحكا: «هل تقرأ القرآن؟»
صرخت متهانفا: «ماذا تظن يا ابن العاهرة؟»
ثم رحت أردد في هيستريا: «
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ،
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ،
إن عبادي ... !»
كان ينظر لي ببرود ساخر مستفز، وهو يضع يديه في جيبي بنطاله وينظر لي في ملل، في انتظار أن أنتهي، على وجهه الجميل ابتسامة واسعة مستفزة، صرخت: «لماذا لا تختفي؟» - «هل يجب أن أحترق أو أتلاشى؟» - «نعم.» - «لا تكن طفلا.»
وأضاف بنفاد صبر، وهو يصلح من ربطة عنقه أمام مرآة ظهرت أمامه من العدم: «أنت طلبت المعرفة وها أنا ذا أقدمها لك، عندما تأكل أدمغتهم ستعرف كل ما عرفوه ، كل معلومة اكتسبوها، كل اسم حبيب أو صديق أو زميل مروا به، كل كتاب قرءوه من قبل، عندما تأكل أعينهم سترى كل ما رأوه، كل منظر جميل أو قبيح، كل لحظة فرح أو ذعر، عندما تأكل جلودهم ستشعر بكل ما شعروا به من قبل في حياتهم، كل لسعة برد، كل شكة ألم، كل قشعريرة خوف، كل ارتعاشة شبق، كل لمسة حب حانية شعروا بها أو عاشوها.
تلك هي القوة المريعة التي تحوزها الآن، تلك هي الهبة التي أمنحك إياها، بين يديك كل تاريخ البشرية، وأسرارها، فقط إن أنت جرؤت.»
كان قد اختفى تماما ولا زال صدى صوته يتردد في ذهني. «فقط إن أنت جرؤت.»
أتلفت حولي في خوف، الصحراء الجرداء قد دبت فيها الحياة، الأرض تفور تحت قدمي، ويتصاعد التراب الأحمر للأعلى ببطء متحديا كل قوانين الجاذبية، الأشجار الجافة والنافقة بدت تتحرك بطريقة متخشبة وتنزع جذورها من عمق الأرض، السحاب يزداد سوادا ويزمجر بطنين مزعج يتصاعد من كل مكان، وينتهك طبلة أذني بعنف حتى غطيتهما براحتي يدي ألما. «فقط إن أنت جرؤت!»
صرخت: «لن أفعل هذا!»
ويذوب صوت صراخي وسط صوت رنين السحاب المؤلم. «فقط إن أنت جرؤت.» «فقط إن أنت ...» ...
فتحت عيني مجددا!
كنت ساقطا على أرضية الصالة، وصوت رنين المنبه ينبعث من غرفتي بإلحاح.
لثوان ظللت أحدق في الحائط بوضعي المقلوب غير عالم أين أنا، وماذا أفعل، وما الذي يحدث بالضبط.
ثم داهمتني الرائحة!
رائحة شنيعة، لعينة، لا توصف.
رفعت عينين غائمتين متمنيا أن يكون حلما.
فليكن حلما يا رب.
كانت الجثة على بعد مترين مني، رجل متوسط العمر حليق الذقن، انتفخت بطنه، وذابت مقلتا عينيه، تآكل أغلب لحم وجهه وأطرافه، حتى بانت أجزاء من عظام جمجمته وسلاميات أصابعه، وطفقت بعض صغار الديدان تزحف في بطء عبر تجاويف أنفه وفمه وأذني...
أوووووووووووووع.
تناثرت بقايا فطور الأمس وأحماض المعدة على السجادة الفارسية المزركشة.
الرائحة ... يا إلهي ... الرائحة!
رائحة لعينة تخترق كياني وتزيد كابوسي سوءا!
هذه رائحة ملموسة إن كان شيئا كهذا قابل للتفسير، رائحة لها طول وعرض وارتفاع ونفوذ، وحضور طاغ يلغي كل ما عداه.
شعرت بالحمض يتصاعد لفم معدتي مجددا ... ثم ...
أوووووووووع ...
أفرغت ما في بطني حتى كدت ألفظ معدتي، وطفقت أسعل في عنف حتى انتفخت أوردة عنقي.
الآن لم يعد هناك وقت للتفكير العقلاني.
لقد جننت!
فلأستجمع أفكاري وأفكر بروية، لن أشعر بالذعر وأفقد السيطرة على نفسي الآن، فلأتمالك أعصابي!
أغلقت المنبه وسحبت ملاءة السرير، مزقت منها قطعة ثم قمت بنثر بعض الخل والليمون عليها، وربطتها على أنفي كالكمامة للتقليل من حدة الرائحة الكريهة، جلبت قارورة عطر قمت برشها في فضاء المكان بسخاء، ثم وضعت الملاءة على الجثة متقززا.
رحت أتنفس بسرعة وانتظام، شهيق بالأنف، زفير بالفم.
شهيق ... زفير!
شهيق ... زفير!
رويدا رويدا بدأت ضربات قلبي المضطرب في التباطؤ، الآن يمكنني جمع الحقائق والتعامل مع الأمر الواقع كما هو.
هناك جثة في صالة داري، هذه الحقيقة الأولى!
كيف جاءت إلى هنا؟
يبدو أنني أنا من جلبتها هنا في لحظة غياب عن الوعي، تلك الحقيقة الثانية!
ما الذي يجب علي فعله بالخصوص؟
أتصل بالشرطة؟
لا تكن سخيفا.
أستطيع تخيل نفسي جالسا أمام حضرة الصول «عباس» عسكري المناوبة المسائية المرهق، لأحكي له بثبات عن تعاقدي مع الشيطان مقابل بيع روحي، لأصبح نكرومانسر ينبش الجثث ويتسلى بأكل لحوم الموتى للحصول على المعرفة!
سيكون هناك الكثير من المرح، وسيعبر لي عن جانبه العقلاني المتفهم لقصتي بالكثير من الصفعات والإهانات والشتائم البذيئة، التي يتعلق معظمها بنشاطات أمي الجنسية، مع الكثير من «نكرومانسر يابن ال...» سيلقون القبض علي مباشرة بتهمة القتل، أو نبش قبور الموتى، أو - إذا ترفقوا بي - سيرسلونني لأقرب مستشفى للأمراض العقلية.
وتخيلت صوري تنشر في الصحف وأنا أنظر للكاميرا في ذعر مرتديا الزي الأبيض الجميل، بينما يتفرغ الناس للحديث عن الدكتور الوقور الذي انتهى به الأمر إلى نبش القبور ليلا، بالتأكيد سيكون هناك خبير ما، مختص في هذا الشأن، سيتحدث كثيرا عن التأثير الطردي والعلاقة الفرويدية المدفونة في العقل الباطن بين النكرومانسية وأكل لحم البشر مع رواتب أساتذة الجامعات وعلاقة كل هذا بالسياسات الداخلية للحكومة، ربما هناك اسم لاتيني معقد لهذه الحالة لا أعرفه، سيلومون الحكومة على كل حال.
سأجد حلا عقلانيا ما، بالتأكيد هنالك واحد، عدا الشرطة.
لا يوجد حل سوى أن أعيد الجثة لمكانها، أعتقد أنني عرفت المقبرة التي رأيتها في حلمي سابقا، مقبرة شهيرة في أطراف العاصمة، عندما يأتي المساء سآخذ الجثة بسيارتي حتى المقابر وأدفنها مكانها.
الحقيقة الثالثة التي يجب علي التعامل معها أنني أصبحت أفقد وعيي بانتظام وأذهب لعوالم أخرى أو أقوم بأشياء مخيفة، سأجد حلا ما لهذه المعضلة وإن اضطررت لتقييد نفسي في السرير وعدم النوم لسنوات.
شارد الذهن قمت بالاستحمام، ثم ارتديت ملابسي على عجل لألحق بمواعيد محاضراتي الصباحية، أشعلت بخورا ليغطي على الرائحة الخانقة، وقمت بتشغيل الراديو، طوال عمري لم أكن صاحب نزعة دينية، لم أصل منذ ثلاثين عاما، ولدي الكثير من التحفظات فيما يخص القضايا اللاهوتية، لكنني وجدت نفسي أغير تردد القنوات إلى إذاعة القرآن الكريم، أريد لكلمات الله أن تتردد في هذا المكان الكئيب.
انساب صوت القارئ الشجي اللحني يردد مرتلا:
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم .
ودون وعي مني شعرت بالدموع تحتشد في عيني، وتذكرت زوجتي.
من الغريب أنني أشتاق إليها، وبرغم أنني لا أحمل لها أي مشاعر من أي نوع سوى التعود، إلا أنني أفتقد حضورها وتواجدها في المكان، كان يشعرني بنوع من الاطمئنان.
لقد جبلنا على منحهن الأمان، لكننا لا نجده إلا عندهن.
خرجت من المنزل بسرعة، وحرصت أن آخذ معي النسخة الأخرى من المفتاح من أسفل السجادة، واتصلت على أم بركة وأخبرتها بأنني سأغادر العاصمة لأيام فلا داعي لحضورها، آخر ما أريده الآن أن تأتي في غيابي لتجد الجثة مستلقية هناك وتثير فضيحة.
في الجامعة قال لي الطلاب فيما بعد إنني كنت أبدو شارد الذهن وأنا ألقي المحاضرة، في المكتب قال لي زميلي الدكتور «عمر» إنني كنت أبدو شارد الذهن وأنا أراجع بعض البحوث.
في الحمام قال لي عامل النظافة إنني كنت أبدو شارد الذهن وأنا ... إحم ... أغسل وجهي.
قال لي الجميع إنني كنت أبدو شارد الذهن وغريبا أحملق في الفضاء بعينين ذاهلتين.
في الواقع لا أذكر شيئا من هذا، آخر ما أذكره أنني كنت ألقي المحاضرة صباحا، ثم شعرت بتلك الوخزات في دماغي الممهدة لنوبة الصداع التالية، كانت تلك أولى علامات بداية استحواذه علي.
هتفت بصوت واهن «لا ... لا!» ثم عم الظلام.
فتحت عيني ببطء.
كان صوت المضغ عاليا، صوت أسنان تصطك ببعضها؛ إذ تمضغ شيئا ثقيلا.
صوت البلع.
صوت لهاث حيواني ثقيل.
عندما زالت الغشاوة من عيني رأيت شيئا غريبا!
كنت أقف أمام المرآة، لكن ما أثار دهشتي الانعكاس الذي رأيته لم يكن لي!
كان شخصا آخر!
وكأنني أنتعل عينيه، وجدت نفسي أحدق في انعكاس رجل متوسط العمر، به آثار وسامة ملحوظة، حليق الذقن، يصلح من وضعية ربطة عنقه، ثم يضع بعض العطر على جانبي عنقه وصدر قميصه.
أدرت وجهي للخلف فرأيت «هدى» زوجتي تتقلب في الفراش بجانب «سوسو» ابنتي ذات العامين.
زوجتي وابنتي!
تبدوان كملاكين صغيرين!
لماذا أشعر أنني أعرفهم جيدا!
طبعت قبلة على جبينها وقلت لها إنني سأتأخر اليوم في العمل قليلا فلا تقلق علي. غمغمت شيئا ما من بين شفاهها الناعسة، ثم احتضنت ابنتها ونامت، قبلت ابنتي على خدها وخرجت من الغرفة.
تموجت الموجودات أمام عيني. «كاثرين» الجميلة الشهية تنتظرني.
تحملني القابلة من قدمي وتضربني على مؤخرتي فأصرخ باكيا، «مبروك يا حاجة، ولد!» أبي يكبر الله فرحا، وتبكي أمي وهي تحتويني برفق، أعود للبيت ممزق الثياب وأسقط في حجرها «لقد ضربني محمد مجددا وأخذ فطوري». «الله أكبر، الله أكبر ... لا إله إلا الله ... الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.»
أجري في الشوارع مع قصي ورءوف ومصطفى، نطلق مسدسات الصوت الجديدة في وجوه المارة والمعيدين، طاخ طاخ بيو بيو، أخرج البرشام في حذر من كم قميصي وأضعه تحت ورقة الأسئلة، «تهاني» تغمز لي بعينها ضاحكة فأضع إصبعي أمام شفتي محذرا.
ششششششششششش ...! «كاثي» الجميلة ترتدي قميص نوم قصير أحمر اللون، وتستلقي على السرير وهي تنظر لي في إغراء، تقول في غنج بلكنة إنجليزية
come baby, I missed you ، أنزع ملابسي في سرعة، وأسحب البنطال للأسفل في لهفة حتى كدت أسقط، ضحكت هي من خرقي، وضحكت أنا حرجا!
تتموج الموجودات مجددا، يا إلهي.
صوت المضغ والبلع يتعالى.
أقف في سرادق العزاء، قلبي منقبض بألم عميق، عويل النساء في الغرفة، وصبي يافع يدور على المعزين بصينية الشاي، الفااااتحة، «هدى» تضرب رأسها بيديها في جنون وتبكي في هستيريا، «سوسو» ماتت يا مختار، «سوسو» ماتت!
مختار!
من مختار؟
تتموج الموجودات مجددا.
تبا، الصداع اللعين يفتك بدماغي.
كلب يعوي في ناصية الشارع، قال «سليمان» وهو يلقي عقب السجارة على الأرض ويدوسها بقدمه: «الشركة تقول أنها ستبتعثك لإنجلترا مجددا لاستكمال تسويق المنتج، الأستاذ «كامل» يصر على هذا.» يتهدج صوت مقدم النشرة الإخبارية ويختنق بالبكاء، بينما الكاميرا تتنقل بين جثث دامية بجوار البحر، وطفلة تجري بين الجثث باكية «بابا ... ماما»، الصهاينة فعلوا هذا، الكلاب، الشمس ترسل لهيبها قاسيا في رءوسنا، نهتف بصوت مدو ونحن نحمل اللافتات «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد بدأ يعود!» عسكري أخرق الملابس ينظر لنا في ملل وهو يهرش مؤخرته.
أبي على فراش الموت يعتصر يدي وينظر لي نظرة زجاجية، شعرت أنني أرى روحه تتسرب عبر عينيه الرماديتين.
Will You Marry Me?
صوت المضغ والبلع يتعالى.
صوت الازدراد!
يمكن معرفة الاتجاه الذي ستسير فيه معدلات الفائدة من خلال مراقبة بعض المؤشرات الاقتصادية الهامة كمؤشر أسعار المستهلكين (
CPI )، ومعدل البطالة، ومعدل إنفاق المستهلكين وسوق العقار!
ما ال...!
تنظر لي «كاثرين» في إعجاب وهي تصفق مع الحضور، تلف ساقيها حول ظهري، وتحملق في من قرب، في عينيها حب عميق، تخمش ظهري بأظافرها وهي تغمض عينيها في نشوة ثم تتأوه.
خطيب المسجد يدعو الجميع لتقوى الله ثم يبكي، «سوسو» مغمضة العينين، تبدو كملاك نائم، لكنني عرفت وقتها أنها لن تستيقظ للأبد.
أرمي حجرا في بحيرة «ويندرمير» الساكنة، يقفز ثلاثا على السطح الرائق ثم يغوص عميقا، «كاثرين» تتعلق بساعدي كقط أليف، أسبح في عينيها الفاتنتين وشلال الذهب الذي ينهمر على ظهرها، عندما أعود سأطلق «هدى»، بعد أن ماتت طفلتي لم يعد من شيء يربطني بتلك المرأة، لم يعد شيء يربطني بتلك البلاد الكئيبة وأهلها الكالحين تعسوا الملامح.
الضوء الرهيب والضوضاء، صوت بوق السيارة العالي يهز الأرجاء.
الضوء الباهر يقترب حتى بسرعة حتى لم يعد في الكون سوى الضياء.
صوت البوق العالي يخترق طبلة أذني ويزلزل كياني.
مذاق الدم في فمي كالحديد.
والرعب.
الرعب البكر، المتوحش، كأفظع ما يكون.
يا إلهي الرحيم!
أنا ... ... •••
كان يقف هناك!
بوجهه الوسيم، وشعره المصفف بعناية، وابتسامته الودود، يصفق بيديه في أناقه ودخان سيجاره يتصاعد أمام وجهه، يشد على يدي في مرح مهنئا. - «مبارك يا صديقي، لقد فعلتها.»
نظرت له في ذهول مصعوقا غير فاهم: «فعلت ماذا؟» - «مارست النكرومانسية بنجاح، أنت الآن ترى حياته كاملة كما عاشها أمام عينيك، عدد مهول من المعلومات والخبرات التي جمعها طوال حياته، اكتسبتها أنت هكذا - وفرقع بإصبعيه - وكأنك عشت حياتين في آن واحد!»
رأسي يضج بالعديد من الأصوات، أصوات هامسة متداخلة لا أعرف أولها من آخرها، فتاة تضحك، رجل يبكي، أطفال يغنون، حديث غاضب، قهقهات، أبواق سيارات، نقاشات متداخلة، كلهم يتحدثون في نفس الوقت وتتداخل أصواتهم حتى كاد عقلي يتمزق.
الصداع ... الصداع!
جثوت على ركبتي على الأرض وأنا أغطي أذني بكفي، صرخت في ألم: «دعهم يصمتون، أرجوك.»
تقدم ناحيتي في هدوء، وضع يده على كتفي وأمسك بيدي ليعينني على النهوض، قال: «هذه مليارات النبضات الكهربية تتدفق على عقلك، هذا والحق يربكه، المرات الأولى هي الأصعب دائما، ستحتاج إلى بعض الوقت حتى تتعلم كيف تتعامل مع المعلومات الجديدة التي تكتسبها مع كل ضحية، لكن لا تقلق، ستتعلم السيطرة على قدراتك قريبا.»
في هذه المرة يا سيدي المحقق لم أكن خائفا.
لقد أحببت «كاثرين».
أحببت شعرها الأشقر الناعم، وضحكتها القصيرة التي تبدأ وتنهي فجأة، وعينيها اللوزيتان البريئتان ، وتلك الشامة الصغيرة أعلى فخذها الأيمن، صحيح أنني لم أعرفها ولم أقابلها في حياتي قط، لكنني كنت أعرف كل شيء عنها، أشعر بحبها يملأ شغاف قلبي ويتملكني بلا فكاك، تعتصر قلبي غصة مؤلمة عندما أتذكر ابنتي.
لقد سطوت على حياة شخص آخر.
تلصصت على ذكرياته، وسلبت تفاصيله الخاصة والحميمة.
في دقائق فقط أصبحت أحوز معرفة حياة كاملة، في دقائق فقط أصبحت أعرف كل شيء عن أسعار الفائدة في السوق العالمية، ومضاربات وول ستريت، وأتكلم الإنجليزية بطلاقة.
نظرت في عينيه بتركيز، الآن أتبين لم بدتا لي غريبتين من قبل، لم يكن سواد عينيه دائريا كبقية البشر، بل يمتد طوليا كالقطط، وبرغم هذا كان وسيما كأقصى ما يكون.
سألته: «كيف تفعل هذا؟»
قال وقد فهم ما قصدته في الحال: «واقعك مجرد وهم، هو مجرد انعكاسات ضوئية وإشارات كهربائية في دماغك تجعلك تصفه بأنه واقع، في الحقيقة هو ليس كذلك، أنت ترى ما تريد رؤيته، وما أريد لك أنا أن تراه، إذا ما استطعت تغيير هذه الإشارات تلاشى الواقع كأن لم يكن، الزمن كذلك مجرد مقياس وهمي لتفسير حركة المادة، يمكنني التحكم في واقعك والتلاعب بزمنك كيفما أشاء.»
هو شيطان مثقف بعد كل شيء!
صوت المضغ والبلع يتعالى من جديد!
اهتزت الموجودات أمامي وبدأت تفاصيل أخرى تظهر لناظري، صالة شقتي، السجاد الفارسي، بقايا دامية متناثرة هنا وهناك، وأنا جالس القرفصاء على الأرض، أمسك بما تبقى من فخذ الجثة التي كانت لرجل قبل أيام.
كان اسمه «مختارا»، وقد أحب فتاة إنجليزية وأنجب طفلة جميلة، الآن هو مجموعة من العظام البالية مكومة في صالة داري.
ما أتفه الإنسان!
أمزق اللحم بأسناني، وأمضغ في بطء متلذذا، طعم اللحم البشري شهي، أقرب للحم الأسماك، تلك المرة الأولى التي أعرف فيها هذه المعلومة، مع تحلل الجثة يغدو اللحم طريا أكثر وأسهل في المضغ.
ازدردت ما كنت أمضغه ثم تجشأت، ورميت عظم الفخذ بعيدا.
نظرت حولي في خمول، لم يكن في الصالة سوى بقعة كبيرة من الدم تشربها السجاد ، وعظام متناثرة.
هذه المرة كانت الرائحة محببة، لم تعد كريهة إلى هذه الدرجة!
عندما رن جرس الباب، لم أكن خائفا!
فتحت الباب مواربا، كان «سعيد» يقف هناك، فلما رآني تهللت أساريره وقال شيئا عن الفيزا التي حصل عليها ورغبته في الاحتفال، تراجعت للخلف ببطء وأفسحت الباب ودعوته للدخول، ما إن دلف للداخل حتى رأيت وجهه يتقلص، وضع يده على أنفه وقال شيئا عن الرائحة النتنة، قال شيئا عن رائحة قفص الأسود في حديقة الحيوانات، قال شيئا عن الدماء التي تناثرت على أرضية صالتي، لكنه لما رأى الكفن والجمجمة منزوعة اللحم ملقية في الصالة، والدماء التي تناثرت على وجهي وملابسي لم يقل شيئا، تصلب في مكانه وهو يرمقني في بلاهة.
كان «سعيد» غبيا يا حضرة المحقق، فلم يستطع فهم الأمر بالسرعة الكافية.
هذا من سوء حظه بالطبع.
وكما قلت لك من قبل كان رجلا سعيدا جدا.
سعيدا إلى درجة تثير غبينتك وغيظك!
تفوته الحافلة فيبتسم، تتركه زوجته وتهرب مع عشيقها فيبتسم، يشتمه مديره في العمل فيبتسم.
حسن، الآن لم يعد يفعل أيا من هذا!
عندما هويت على رأسه بالحامل الحديدي الثقيل، تكوم على الأرض كجوال من البطاطس دون أن ينطق حرفا، أغلقت الباب ورحت أسحبه إلى مغطس الحمام، خلعت ملابسه وقمت بنحره من عنقه لأصفي الدم منه، أنت تتفهم بالطبع لم لم أعد أريد مزيدا من الدماء في صالتي، ليس لدي الوقت لأعمال التنظيف المملة هذه.
عندما انتهيت من سلخ فروة رأسه، وهشمت عظام جمجمته بيد الهاون، ثم بدأت في التهام مخه عرفت كل شيء عنه، في الواقع لم تكن هناك معرفة تذكر، عقله خاو كجيب موظف حكومي منتصف الشهر، لا يوجد شيء، عدا بعض الصور الفاضحة له بملابسه الداخليه، في وضعيات يفترض أنها مغرية، أرسلها بالبريد الإلكتروني لفتاة ما، ورسائل بريدية تعج بالأخطاء الإملائية.
تصور أنه كان يستخدم الحروف الناسخة «إن وأخواتها» في الجمل الاسمية دون أن ينصب المبتدأ ويرفع الخبر! والأدهى أنه كان يكتب حرف الاستدراك «لكن» كما ينطقه «لاكين » دون أدنى شعور بالخطيئة أو الذنب! مع الكثير من معلومات صحف التسلية الرخيصة على غرار: «هل تعلم أن سور الصين العظيم في الصين؟!» «هل تعلم أنه يمكنك رؤية الكعبة من القمر؟!» إلخ.
لم تكن هناك معرفة ما في عقله.
الآن فهمت لم كان سعيدا طيلة الوقت.
لكنني لم أشعر بالأسف على سلبه حياته على أية حال، على الأقل نقص عدد السعداء واحدا.
هذه قصتي يا حضرة المحقق، وهذا اعترافي الكامل، وأرجو أن تعذرني على التسويف.
أصبحت عادتي كل مساء أن أزور المقابر القريبة أسرق الجثث، ثم أستنطقها عندما أعود للمنزل، وعندما يبدأ الناس في طرح الأسئلة، أترك المكان وأرتحل بجوار مقابر أخرى.
أحيانا أشتهي اللحم الطازح، فأختطف بعض الأحياء، أغلبهم من فتيات الليل، وأحيانا بعض الأطفال، أجلب الواحدة منهن لداري، وأدس لها بعض المخدر الذي يشل الحركة لكنه يبقيها حية تشاهد كل شيء، على الأقل حتى اللحظة التي أشق صدرها وأنتزع قلبها من الضلوع، لحم دافئ ينبض في يدي، وهي لذة لا تضاهيها لذة، لكنني في حل من قص هذه التفاصيل عليك الآن.
تعلمت الكثير، وعرفت الكثير، اكتشفت أسرارا مرعبة يشيب لها شعر رأسك، نبشت خبايا لن تصدق حرفا منها إن قصصتها عليك.
أصبحت أكثر قوة وثراء وذكاء في أشهر معدودات. إن رصيدي البنكي الآن يحتوي أرقاما كففت عن عدها منذ زمن.
هل تشعر بالنعاس سيدي المحقق؟ هل أثرت مللك لأقصى حد؟!
أرى أن جفنيك يتثاقلان، وبالكاد تقوى على تثبيت رأسك باستقامة.
لقد انتهيت من سرد قصتي على كل حال.
فقط تبقى شيء أخير لأقوله، ما دفعني لدعوتك لزيارتي اليوم يا سيدي المحقق أنني شعرت بأنكم تضيقون علي الخناق مؤخرا، أعرف أنها مسألة وقت فقط حتى تقوموا بالربط بين اختفاء الجثث والغريب الذي يحل ضيفا في المكان فجأة، ثم يتوقف نبش القبور مع اختفائه، الغريب المنطوي الذي لا يخرج من منزله إلا ليلا، لذلك قررت أن أهاجم بدلا عن أن أتوسل الفرار في كل مرة، ضقت ذرعا بالهرب وعدم الاستقرار .
طرأت لي فكرة جميلة، لم لا أفترس أحد أفراد الشرطة المكلفين بقضيتي لأعرف آخر ما توصلتم إليه بالضبط؟ ومن نافلة القول كذلك أنني سأعرف طريقة تفكيركم وتكتيكات عملكم فأستطيع حماية نفسي مستقبلا.
تنظر لي في عدم تصديق؟ يصعب استيعاب الأمر من الوهلة الأولى، لكن دعني أقل لك إن حسك الأمني قد خانك هذه المرة، لقد أخطأت عندما قبلت أن تزور غريبا في شقته بدون تأمين نفسك.
أخطأت مجددا عندما قبلت أن تشرب عصيرا لا تعرف محتوياته.
ألم تقل لك والدتك قديما أن لا تأخذ الحلوى والعصائر من الغرباء؟
ربما هو الغباء، ربما هي الثقة المفرطة بالنفس، لا أعرف!
أشكرك لأنك استمعت لجانبي من القصة، وهي خصلة حميدة أشكرك عليها، يندر أن تجدها في مثل أيامنا هذه، لذا سأقدم لك معروفا خاصا لم أقدمه لغيرك، لن أقدم على التهامك حتى تفقد الوعي تماما، لن تشعر بشيء.
فقط ستغرق في سبات عميق لن تستيقظ منه هذه المرة، فانطق الشهادتين إن أحببت.
من بين عينيك الغائمتين سترى أن جسدي يتحول لشي آخر.
سترى شيطانا مرعبا يتحول أمام عينيك المذهولتين.
أرجوك، لا تخف!
سترى أذني تستطيلان، ويتمدد فمي للأمام ويسيل منه اللعاب، وتنبت فيه بعض الأنياب.
أرجوك، لا تقلق!
من حسن حظك أنك لن تشعر بأنفاسه الحيوانية الجشعة اللاهثة على عنقك وهو يتشممك، قبل أن يبدأ في نهش كتفك ونزع اللحم عنه.
لا ... لن تشعر بشيء!
سيمر كل شيء بلا ألم!
قد بدأ الصداع اللعين يغزو مقدمة رأسي، إنه قادم!
والآن، أستمحيك عذرا، سأغيب عن الوعي لبعض الوقت. (تمت)
القصة المملة الثانية: شيء من
الطفولة
فازت بجائزة القصة القصيرة، مسابقة «تلك القصص»، 2020
يعبرونه صامتين، ضاحكين، غاضبين، هادئين، لكنهم يعبرونه دون أن يعيروه أدنى انتباه!
1 «ورنش ... ورنش.»
الشمس تتوسط كبد السماء، ترسل لهيبها بلا رحمة على الجميع، تتابعه في إصرار وهو يشق طريقه في زحام السوق بين أمواج البشر بجسده الضئيل، يتوقف لهيبها على سطح جلده الأسود اللامع، ويلقي خلفه ظلا نحيلا ليده اليمنى تقبض على حقيبة قماشية مهترئة، كانت بيضاء في وقت ما، قبل أن تحولها خرائط تشرب الماء، والأوساخ، إلى قطعة رمادية أقرب للسواد، تحوي بضاعته الزهيدة من معجون تلميع الأحذية، وفرشاة تلميع، وقطعة قماش متسخة، وصورة فوتوغرافية ملونة لبلدة من الريف الأوربي.
يده اليسرى تمسك صفيحا معدنيا صغيرا، دائري الشكل، يهزه بلا كلل ليصدر أصواتا قصيرة تعلن للناس المتدافعين حوله، عن بضاعته. «ورنش ... ورنش.»
داهمته رائحة الشواء، تنبعث بجوار موقف المواصلات العامة إذ تكدس الناس بالعشرات في انتظار وسيلة نقلهم التالية، رائحة دخان الشواء لذيذة، تعلن عن بضاعة صاحبها بقوة، وحوله يتحلق بضعة أشخاص يلتهمون الشطائر على عجل.
تتقلص بطنه وتعتصره في ألم، تصدر أصواتا محتجة، تذكره أنه لم يضع فيها شيئا منذ الأمس، يقف مشدوها للحظات يرمق رجل الشواء يتحرك بسرعة وآلية من اعتاد فعل الشيء، يخرج اللحم المترادف من على السيخ المحمي، يشق الخبز بسرعة ومهارة، يصنع عدة شطائر، يضيف إليها بعض الطماطم والملح والليمون، ثم تتخطفها من بين يديه جحافل المتحلقين حوله في لهفة.
ينساب العرق المالح على عينيه المحملقتين، يرمش بسرعة ويمسحه بكم قميصه، ثم يواصل طريقه، تطارده رائحة الشواء في إصرار كأنها تسخر منه، يضع إصبعه على أنفه ليمنع ضجيج بطنه. «ورنش ... ورنش!»
يشق المزيد من الزحام، ليبتعد عن الرائحة ما تيسر له، يتسول الناس بعينيه ليطلبوا تلميع أحذيتهم، كشك صغير ينبعث من صوت هادر يكرر بإصرار وبلا نية في التوقف: «يلا يالماشي تعال غاشي، يالبعيد تعال قريب، قرب قريب شغل عجيب، عصير مركز واحد جنيه.»
يجلس تحت ظل شجرة ضخمة بجوار الكشك، يسند ظهره للحائط المتهدم القريب، يقرأ بصعوبة عبارات قرأها مرارا، كتبها أحدهم بخط رديء على عجالة بالفحم والطباشور. «التبول ممنوع بأمر الشرطة.» «ممنوع البول يا حمار.»
شكل الخرائط على الأرض، ورائحة الأمونيا الخانقة التي تفوح من الحائط حيث جلس، أخبرته أن الناس لم يلتزموا بالتحذير كثيرا!
يرمق المارة بعينين زجاجيتين، في المطعم المقابل للشارع تجلس امرأة يافعة مع زوجها وطفل صغير، هو في مثل سنه، لكنه أكثر جمالا ونظافة، تحمله أمه على حجرها وتحتضنه إليها.
اعتصره شيء مؤلم في قلبه، كالغصة، أشد ألما من ضجيج معدته الدائم.
شيئا لم يفهمه!
الطفل الآخر بدا مستكينا في حضن أمه، يلتهم شطيرة كبيرة بهدوء وتمهل، ينظر له نظرة عابرة ثم يعود ليواصل ما كان يفعله، أشاح بوجهه بسرعة حتى لا تتمرد معدته مجددا برؤية مشاهد الطعام.
رجل بدين له لحية بيضاء طويلة يعبر الشارع في تمهل، يرفل في جلباب أبيض متسع، وعمامة جميلة ملتفة بإحكام على رأسه، يحمل مسبحة في يمناه تجري حبيباتها بين أصابعه المكتنزة في رتابه، يتضخم بعطر فاغم غمره عبيره وغطى على رائحة البول المحيطة به لحين، رجل نحيل يضع صحيفة مطوية تحت إبطه، ويحمل كيسا يحتوي على خضروات مختلفة، يبدو حزينا وهو يحملق في الأرض إذ يسير بتمهل كأنما يساق لمنصة إعدام، فتاة شابة تتحدث في هاتفها المحمول بعصبية، شاب أنيق يستعرض بضاعة فرشها أحدهم على ملاءة في الأرض، باعة متجولون يصرخون بما يمتلكونه، «برد برد!» «والكيلو جنيه ... والكيلو جنيه!» شاب يقود طفلا، امرأة تحمل أكياسا ملونة كثيرة ممتلئة، رجل آخر، وآخر، وآخر، وآخر، خلق كثير، عشرات الوجوه عبرت أمامه في دقائق معدودة، وجوه مختلفة، متباينة السحنات، والألوان، والتعابير، جمع بينهم شيء واحد، أن أحدا منهم لم يعره انتباها!
تتحرك أمعاؤه من جديد، تذكره بانتهاء وقت الراحة. «ورنش ... ورنش!»
يهز صفيحه المعدني مجددا وهو يسري بين أقدام الناس، تتقاذفه أمواجهم تترى حتى انتهى إلى جوار المسجد الكبير، وضع بضاعته بجواره وجلس على حوض الوضوء، قرب فمه من النافورة وراح يعب الماء.
سمع صوتا زاعقا من خلفه، التفت مذعورا، داهمه إمام المسجد، يشبه الرجل البدين الذي رآه قبل ساعة، كلاهما يرتدي جلبابا أبيض اللون ناصعه، ويحمل مسبحة جميلة، وعلى جبينه علامة صلاحه في الدارين.
انتهره: «يلا غور من هنا!»
اختطف كيسه القماشي وهرول مبتعدا، سمع الشيخ يدمدم من خلفه اتهاما جازما بنيته سرقة أحذية المصلين، انسل من بين أفواج المصلين الداخلين للمسجد، وتنفس الصعداء عندما أدرك أنه أفلت من قبضة الشيخ الغاضب.
رفع مأموم المسجد عقيرته صادحا بالأذان: «الله أكبر ... الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة.» «ورنش ... ورنش!»
يقف بجوار المسجد في الخارج، يهز صفيحه مجددا وهو يرمق العابرين بأعين متوسلة.
لا أحد يلتفت إليه، كلهم يعبرونه صامتين، ضاحكين، غاضبين، هادئين، لكنهم يعبرونه دون أن يعيروه أدنى انتباه! «ورنش ... ورنش!»
بطنه تصرخ في احتجاج، فوضع يده على بطنه حتى يسكتها، رفع رأسه للسماء، بدأت السحب تكتسي شيئا من الحمرة، خف الغيظ هونا ما، وانطلقت النسمات ترتع بين الوجوه العابسة هنا وهناك. «اشتغلت حاجة الليلة يا وليدي؟!»
فاجأه الصوت، التفت بجواره.
امرأة كبيرة في السن، ضخمة الجثة، تفترش الأرض بجوار حصير فرشت عليه بعض المسابح الملونة، وكتيبات صغيرة تحتوي أذكارا للمسلم، ومساويك، وطواقي بيضاء مطرزة.
هز رأسه نفيا، وأطرق للأرض، إصبع قدمه الغبشاء بلون ملابسه يبرز من مقدمة الحذاء البالي، مشى طوال اليوم عشرات الكيلومترات، ككل يوم، حتى بدأ حذاؤه يعلن تمرده.
لماذا لم يعد الناس يرغبون في تلميع أحذيتهم؟
أشارت له أن يقترب، اقترب في حذر.
خشي أن تغتصب منه بضاعته، أو تصفعه لسبب ما.
بعد كل شيء، هو لم يعتد حسن التعامل من الناس.
أشارت له أن يجلس بجوارها، فجلس صامتا، وهو يحاول سحب قدمه داخل الحذاء للوراء ليواري إصبعه من ثقبه، نجح بعد عدة محاولات، وابتهج لانتصاره الصغير، أشار إلى أحد الكتيبات المفروشة على الحصير، سأل: «ما هذا؟»
قالت: «وصف الجنة!» ولم تعقب!
سألها وهو ينظر لها في فضول: «كيف تبدو الجنة؟»
قالت: «مكان كبير واسع به العديد من الأشجار الظليلة، ومنازل جميلة، وأنهار كثيرة من العسل واللبن، وكل ما تطلبه يأتيك فورا!»
التمعت عيناه شغفا، فغر فاه للحظات وهو ينظر للسماء المحمرة بلون الغروب، ويتخيل ما وصفته له خلف السحب، تذكر شيئا فجأة، فتح حقيبته القماشيه وأخرج منها صورة الريف الأوروبي، فردها بحرص بالغ! «زي المكان ده؟» سألها.
مدت عنقها ناحية الصورة، كسلحفاة عجوز، تأملتها قليلا ثم قالت: «أجمل من كده كمان، وبتشوف الله كل يوم!» «الله عامل كيف؟» سألها.
قالت: «رب العالمين جالس على العرش، عطوف، عادل، سيصنع لك منزلا جميلا يحميك من البرد والحر، ويرسل لك الملائكة لتنفذ كل طلباتك!»
تبادرت لذهنه صورة والدة الصبي في المطعم المقابل للشارع؛ إذ تحتضن طفلها في حرص، تخيل الله يبدو مثلها، عطوف، حام!
تطايرت أفكاره.
راح يحملق في الصوره المفرودة بين يديه الصغيرتين للحظات، قال وهو يمسح عليها بإصبعه: «لما أكبر عايز أعيش هنا.»
نظرت له في صمت، نظرتها غريبة، طوى الصورة في حرص ووضعها داخل الحقيبة القماش، ثم راح يحملق في المارة، ثم للكتب المعروضة، أشار لأحدها وسألها: «ما هذا؟» مدت له الكتيب بابتسامة واسعة، قالت: «حصن المسلم!»
فتح الكتيب من منتصفه، قرأ بصعوبة: «اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر.»
سألها: «ده قرآن؟»
ضحكت، قالت وهي تفرك على رأسه: «هذا دعاء الرزق تقرؤه ليرزقك الله.»
تهللت أساريره فرحا، سألها ملهوفا: «إذا قرأته سيرسل الله لي زبائن لتلميع أحذيتهم؟»
رأى ملامح وجهها تتغير، نظرت له في صمت، نظرة غريبة لم يعهدها، كنظرة الرجل العابر الحزين، الذي يحمل صحيفة تحت إبطه!
قالت له: «اقرأ مجددا.» - «أقرأ ماذا ...» - «دعاء الرزق!» - «قرأته من قبل.» قالها متبرما. - «اقرأ مجددا.»
وراح يقرأ بصعوبة وهو يضع إصبعه موضع الكلمات ويقرب الكتاب من وجهه، لما انتهى رفع لها عينين متسائلتين، فدست جنيها في قبضة يده، قالت له وهي تبتسم: «قد استجاب الله لك، هذا أول رزقك!»
أمسك الجنيه غير مصدق، ثم قفز من مكانه فرحا وهرول مبتعدا، تذكر شيئا، وقف في تردد ينظر لها وللكتاب بعينين متسائلتين، قالت وهي تدفعه إليه: «هذا هدية، يمكنك الاحتفاظ به.»
اختطف الكتاب، واندفع بسرعة مبتعدا وسط الحشود غير المبالية، معدته تصرخ ابتهاجا وقد عرفت مقصده .
يخترق الحشود المتدفقة كالطوفان، يشق الأزقة والباعة جريا، صوت إمام المسجد الكبير يرتفع من بعيد بتلاوة جميلة، لم يهتم بهز صفيحه هذه المرة، رائحة الدخان تتصاعد كلما اقترب من مبتغاه، عندما وصل إلى مقصده كان يلهث، وكان رجل الشواء يقلب قطع اللحم المتراصة في السيخ المحمي على الجمر ويتحرك كشيء آلي، اقترب منه وهو يطبق على الجنيه في حرص.
نظر له البائع شذرا، وبدا عليه التحفز. - «عايز شنو؟»
مد الجنيه في صمت ووقف مترقبا، زمجر الرجل منزعجا: «السندويتش اتنين جنيه.»
بطنه تطلق ضجيجها المزعج مجددا، تحذره ألا يفكر في التراجع، قال متوسلا: «ما عندي غيرها.»
نظر له البائع في ضيق، بدا وكأنه يقوم بحسبة سريعة في ذهنه، قال بصوت جاف: «نصف سندويتش فقط.»
هز رأسه موافقا في سرعة، وبدا فمه المتلهف يعج بلعاب الاشتهاء، رائحة الدخان تتصاعد وتغمر أنفه، ومعها تتلوى أمعاؤه، وتصدر صوت قرقرتها المبتهج بذا الانتصار.
في تلهف وانبهار يرمق رجل الشواء يخرج اللحم المترادف من على السيخ المحمي، يشق الخبز بسرعة ومهارة، يصنع نصف شطيرة، يضيف إليها بعض الطماطم والملح والليمون.
عندما عاد لمكانه السابق تحت الشجرة، والعبارات التي تحذر من التبول في الأماكن العامة، كان الليل قد أسدل أستاره، وكان ضجيج بطنه قد صمت أخيرا.
بضعة أطفال في مثل عمره يلتحفون الأرض في ذات الموضع، على بعض الكرتون المقوى، يخلدون للنوم من وعثاء يوم مرهق، يعرفهم جميعا.
وضع حقيبته القماشيه على الأرض، أخرج كتيب حصن المسلم، تأمله للحظات مبتسما.
نظر للسماء الصافية التي تبدت بين أغصان الشجرة المتشابكة.
نظرة ممتنة.
خاطر جميل مر على ذهنه، فاتسعت له ابتسامته أكثر.
وضع الكتاب داخل حقيبته في حرص، ثم كور الحقيبة بما تحتويه تحت رأسه.
ونام!
غدا يوم آخر! (تمت)
القصة المملة الثالثة: عندما هفهف لباس
الليل
عندما هفهف لباس الليل، كانت الورود تصغي لصوت وشوشة الريح الخفيف.
1
السابعة والنصف مساء.
قفز «محمود» من السرير في همة ونشاط، وأخيرا يالسعادته وهنائه، قد حل اليوم المنتظر، يوم زواجه من حبيبة الصبا «حنان»، تلك العزيزة الصابرة، التي تحملت كل فقره، وصبرت عليه بعد أن ظل يطوق إصبعها الأيمن بدبلة الخطوبة خمس سنوات كاملة.
خمس سنوات من المماطلة والتسويف، اليوم سوف ...
مهلا!
أعتقد أن المقدمة تبدو متكلفة بعض الشيء، كأحد تعابير إنشاء طلاب الصف الخامس الابتدائي.
فلنحاول صياغتها مجددا. •••
السابعة والنصف مساء.
قفز «محمود» من السرير في همة ونشاط، وأخيرا يالسعادته وهنائه، قد حل اليوم المنتظر، يوم زواجه من حبيبة الصبا «سلمى»، تلك العزيزة الصابرة، التي تحملت كل فقره، وصبرت عليه بعد أن ظل يطوق إصبعها الأيمن بدبلة الخطوبة خمس سنوات كاملة.
خمس سنوات من ال...
لحظة! من «سلمى»؟
ألم تكن «حنان» منذ لحظات!
ثم إن المقدمة هي ذاتها.
اعذرني، لقد كنت شارد الذهن.
أصارحك حقا، إن تأخر راتبي الشهري يثير جنوني، لقد أغلقت هاتفي منذ أسبوع تقريبا هربا من الدائنين، وأصبحت أدخل العمارة خائفا أترقب، لكنني لن أهرب للأبد. إن «عم حسبو» الجزار ينتظرني بالمطوة في ناصية الشارع أثناء كتابة هذه السطور بالذات.
من يشتري لحما بالدين؟!
بالتأكيد هذا قمين بأن يسرق منك أي تركيز.
إذا استمر الراتب في التأخر ليومين آخرين، فلن يكون التسول بالنظارة السوداء على قارعة الطريق شيئا مستبعدا إلى هذا الحد. علي فقط كسر يدي، وحفظ الطريقة المناسبة لترديد عبارة «لله يا محسنين» بصوت مؤثر يمزق نياط القلوب.
لنحاول مرة أخرى. •••
السابعة والنصف مس...
تبا!
أرجو ألا يستمر هذا للأبد.
2
السابعة والنصف مساء.
عندما هفهف لباس الليل، كانت الورود تصغي لصوت وشوشة الريح الخفيف، وزقزقت العصافير ابتهاجا، وكان القمر بدرا جميلا يلقي ضوءه الفاتن على الموجودات.
قفز «محمود» من السرير في همة ونشاط، وأخيرا يالسعادته وهنائه، قد حل اليوم المنتظر، يوم زواجه من حبيبة الصبا «حنان/سلمى»، تلك العزيزة الصابرة، التي تحملت كل فقره، وصبرت عليه بعد أن ظل يطوق إصبعها الأيمن بدبلة الخطوبة خمس سنوات كاملة.
خمس سنوات من المماطلة والتسويف! (تجاهل هذا السطر.)
أبدل ملابسه، وتضمخ بعطر فاغم، ثم خرج ليقابل محبوبته «حنان/سلمى»، هيفاء دعجاء القوام إذا مشت، ريا الروادف، بضة المتجرد، يتمشيان على ضفة النيل، وتتشابك أيديهما وهما يخططان للمستقبل المشرق الذي سيغدو واقعا عما قريب ...
بالحديث عن المستقبل!
هل تعتقد أن قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين كانوا على صواب عند موافقتهم على مشاركة السلطة مع المجلس العسكري! أنا أعتقد أن الاتفاق كان مجحفا ولم يلب طموحات الثوار، وأنها مكيدة ما من العسكر حتى لا يسلموا السلطة للمدنيين، وشراء الوقت الكافي لتفتيت الثورة بهدوء، لا شيء يحميهم من المساءلة القانونية عن مسئوليتهم المباشرة أو الضمنية عن مقتل المتظاهرين سوى الحصانة، لن يسلموا رقابهم بهذه السهولة.
ألا تظن؟
تعلمت منذ زمن أن لا أثق بالعسكر أينما كانوا، لم أستطع قط ابتلاع مبدأ أن تنزع عن شخص ما، هبته الربانية التي تميزه عن الدواب، وتجعله إنسانا، استقلالية رأيه، وتفرده، وحريته في التفكير واتخاذ القرار لتصنع منه آلة مبرمجة على القتل والتدمير، وإطاعة الأوامر بلا نقاش، حتى وإن تعارضت تلك الأوامر مع كل ما يؤمن به ويعتقده، لا خير يرتجى من مثل هذا.
عندما تقرأ في الصحف عن أخبار تخصيص مبالغ فلكية من الميزانية العامة للدولة للتسليح العسكري، لا بد أن تقف مع نفسك للحظة وتتسائل: إلى من يوجه هذا السلاح بالضبط؟ متى كانت المرة الأخيرة التي قاتلنا فيها عدوا خارجيا؟ متى كانت المرة الأولى؟ على قدر علمي هم لم يقوموا بتوجيه سلاحهم إلا تجاه وطنهم وبني جلدتهم!
كل هذه الأموال من جيبك أنت، من مال ضرائبك، وما تنفقه على رسوم المعاملات الحكومية، يتم توجيهها لإسكات شخص واحد، هو أنت، وأنت فقط، أنت من تشتري عبوة الغاز المسيل للدموع التي تخنقك، وأنت من تمول الرصاصة التي ستقتلك، أو تقتل أخا آخر لك في هذه الرقعة الجغرافية المنهكة من سوء الإدارة، وغباء الساسة!
كلما رأيت مثل هذه الأخبار تتبادر إلى ذهني قصيدة العبقري أمل دنقل:
قلت لكم مرارا.
إن المدافع التي تصطف على الحدود في الصحارى،
لا تطلق النيران إلا حين تستدير للوراء!
إن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء،
لا تقتل الأعداء،
لكنها تقتلنا، إذا رفعنا صوتنا جهارا!
تقتلنا وتقتل الصغارا!
قلت لكم في السنة البعيدة،
عن خطر الجندي،
عن قلبه الأعمى، وعن همته القعيدة،
يحرس من يمنحه راتبه الشهري،
وزيه الرسمي،
ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء،
والقعقعة الشديدة.
لكنه، إن يحن الموت، فداء الوطن المقهور والعقيدة،
فر من الميدان،
وحاصر السلطان،
وإغتصب الكرسي،
و أعلن «الثورة» في المذياع والجريدة!
أمل دنقل شاعر عبقري بالتأكيد، بكلمات عبقرية بسيطة وصف كل شيء.
التاريخ يكرر نفسه بلا هوادة لمن يلقي السمع، ربما لحين صدور هذا الكتاب ستكون الأحداث قد تطورت وتغيرت، واتضح أي شخص سوداوي سيئ الظنون كنته!
أتمنى ذلك!
ما علينا، فلنعد لقصتنا.
أين كنا؟ «... يتمشيان على ضفة النيل، وتتشابك أيديهما وهما يخططان للمستقبل المشرق الذي سيغدو واقعا عما قريب ...»
جميل، فلنستمر إذن!
كانت حنان/سلمى بغاية السعادة؛ لأن الزواج سيكون قريبا، لذلك كانا يخططان لترتيب كل شيء في العرس.
من سيتم دعوته ومن سيتم تجاهله، في أي صالة سيقام العرس؟ ماذا عن حفلة الرقيص؟ حنة العروس! قطع الرهط! من أي مكان نستأجر فستان الزفاف؟ كيف، لماذا؟ كم سيكلف صحن العشاء الواحد؟ هل ستقبل المطربة المتألقة «فتحية قوانص» إحياء الحفل؟
كما ترى، الكثير من الأسئلة الكابوسية التي تثير جنونك.
قال محمود: «نختار صالة بسعر مناسب، ليس لدينا الكثير لننفقه يا حبيبتي.»
قالت حنان/سلمى في حياء: «كما تشاء يا حبيبي!»
ابتسم محمود بحنان بالغ، وفكر في نفسه: «ترى هل انصرف عم حسبو؟!» ...
من أخدع هنا!
لا أستطيع التركيز!
في الواقع لا شيء لدي لأكتبه، ذهني مشتت، ولا أملك أفكارا من أي نوع.
حاولت أن أختلق قصة من العنوان كالعادة، لكن خانتني اللغة، وهجرني الخيال.
تقبل أسفي عزيزي القارئ، ولنكتفي بهذا القدر، لا أريد أن أهين ذكاءك بشيء ملفق.
إن الحياة مليئة بالقصص المبتورة، ولا أرى قصتي استثناء!
وتذكر، يا هداك الله، أن الدعاء السيئ ينقلب على صاحبه.
كما أن الألفاظ الخارجة يعاقب عليها القانون.
وحتى لا أتركك بلا هدى، تزوجا وعاشا في تبات ونبات، وخلفا بعض الصبيان والبنات. غلبته بالعيال ولم يغلبها بالمال، كان الأحمق مفلسا، يطارده البقالون والجزارون بالمطاوي في الأزقة والطرقات.
هكذا هجرته وطلبت الطلاق، عندما اكتشفت أن الحب وحده لا يشتري الخبز واللحم وحليب الأطفال.
هذا كل شيء! (تمت)
1
القصة المملة الرابعة: 01
كونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل. (إنجيل متى)
1
مرحبا بك أيها القارئ!
أنا لا أعرف اسمك.
لا أعرف من أنت من بين النسخ.
لا أعرف إذا ما كنت ستتذكر هذه الرسالة أم لا، آمل ذلك لكنني لا أتوقع الكثير.
أنا لا أعرفك، لكنني أعرف مصيرك، وأعرف أنك ستختبر ما اختبرته في يوم ما.
أعرف كذلك أنك تستحق الفهم، إذا ما استطعت التذكر وفهمت رسالتي.
ما فتئت أتنقل بين المراحل، حتى وصلت مرحلة النضج الأخيرة، وقريبا سينتهي كل شي. وتحل القيامة، فأستعد!
أنا الحاخام «ديفيد نوعام»، وأنا هنا لأحدثك عن تجربتي في البعد الآخر، وعالم ما بعد الموت.
تضحك ساخرا؟
ربما لا تؤمن بوجود حياة أخرى بعد الموت، ربما تؤمن بحياة من نوع آخر حسب معتقداتك الدينية، لكن دعني أخبرك أنك مخطئ في الحالتين.
قد تهز هذه الأوراق قناعاتك المعرفية، واطمئنانك العقائدي، فإذا كنت واهن العقيدة فلا أنصحك بأن تستمر في القراءة، لا أريد تحطيم غرورك البشري الهش وسلامك النفسي وإطمئنانك العقائدي بأنك تعرف أي شيء عن كل شيء، وبالتأكيد لا أحب تمزيق ستار وهمك المضلل بأنك تملك كل الأجوبة الممكنة ... وصلت إلى نبع الحقيقة واغترفت منه حتى اكتفيت. قد تكون سمعت عني من قبل في الصحف، ربما لا تتذكر الاسم، لكنك ستتذكر اسم «المرتد» بالتأكيد، وهو الاسم الذي لا أفتخر به على نحو خاص.
ولمن لا يعرفني، فقد كنت أحد أهم - يقولون - حاخامات إسرائيل، تشرفت بأن كنت مساعدا للحاخام الأعظم شلومو غورين نفسه، حاخام الاشكناز الأكبر، خدمت في المحكمة الحاخامية في بتاح تكفا، ورشحت للحصول على جائزة إسرائيل لأدب التوراة، كما عملت في محكمة الاستئناف اليهودية العليا في أورشليم لعدة سنوات.
لقد ظللت أبث هذه الرسالة عبر الفضاء الأثيري منذ أشهر بحسب توقيتك الأرضي؛ فالزمن كما تعرفه مختلف عما هو موجود هنا.
لقد توفيت قبل سنوات في حادثة سقوط الطائرة الشهير في «رامات هاشارون» في «تل أبيب». السرعة التي حدث بها كل شيء جعلت الأمر خارج نطاق استيعابي، لم أكن أصدق، لم أكن خائفا، كنت مذهولا فقط، صوت صراخ المسافرين يصم أذني، أسمع أصوات البكاء، الشهقات، والابتهالات للرب يهودا، وبكاء الأطفال، وعبر النافذة أرى الأرض تقترب بسرعة جنونية.
آخر الأصوات التي التقطتها أذناي من الحياة، كان صوت صراخ المسافرين، وتحذير الطيار عبر المذياع الداخلي بأننا على وشك الارتطام.
في اللحظة التالية سمعت الدوي العالي، وشعرت بلهيب النيران، ثم انتهى كل شيء.
لم يكن الأمر مؤلما، وإن كان لي من عزاء فهو أنني لم أشعر بشيء.
في لحظة كنت هنا، في اللحظة التالية كان الظلام.
الظلام البكر الخام المتجانس.
2 - «هل من أحد هنا؟!»
ظلام ... ظلام ... ظلام. - «مرحبا.»
ظلام ... ظلام ... ظلام. - «هل أنا ميت!»
أحرك يدي لأتلمس مكاني، لا تطاوعني، لا أرى شيئا.
ظلام داكن كما لم أره من قبل، أحسه يتخللني، وأشعر بنفسي معلقا في الفضاء، لست مستلقيا على شيء، ولا أستشعر أرضا صلبة تحت جسدي، فلا بد أنني أطفو، وأحاول تحريك أطرافي مجددا، لا شي، هل أنا مشلول؟ - «هل من أحد هنا!»
وتنبهت، مذعورا، أنني لا أتنفس، لا أحس بصدري يتحرك أو رئتي تمتلئان أو تلفظان أي هواء، ماذا حدث لي؟
أين أنا؟
هذا الظلام اللعين! - «هل من أحد هنا؟»
صوت خافت جدا أسمعه من بعيد، أرهفت سمعي، أزيز رتيب كأزيز الثلاجة، لم أفهم معناه.
هنا رأيت شيئا عجيبا!
فجأة، ومن لا مكان، ظهر حرف
A
الإنجليزي أمامي وهو يضيء بضوء أخضر فسفوري باهت، وبجواره تلك العلامة التي تومض ظهورا واختفاء عند كتابة نص في برامج تحرير النصوص، ثم ظهر الحرف
T
ثم الحرف
C ، وظلت العلامة تومض للحظات.
ATC?
ما معنى هذا؟!
مجددا أحاول تحريك أطرافي لتحسس المكان من حولي ، لا تستجيب مجددا، وبدأت أشعر بالهلع، أين أنا؟! ومالذي يحدث بالضبط؟!
آخر ما أتذكره أنني كنت على الطائرة، أتذكر التحطم واندلاع النيران، معنى هذا أنني قد مت، فهل هذه الدار الآخرة؟
جاءني خاطر مفزع.
ربما نجوت من التحطم ولم أمت لكنهم حسبوني ميتا وقاموا بدفني، يعني هذا أنني في تابوت تحت الأرض الآن.
الدفن حيا، يا إلهي الرحيم، هذا من أسوأ كوابيسي!
وأحاول مجددا تحريك أطرافي لتلمس مكاني، بلا نجاح، أريد أن أعرف أين أنا على الأقل.
أعرف أنني مشلول ما دون عنقي بكل تأكيد؛ لأنني لا أشعر بأي شيء يلامس أطرافي، ولا أثقل بثقل جسدي على أرضية التابوت، لا بد أن الحادث قد سبب هذا، إذن ليس بيدي حيلة سوى الصراخ، أملا في أن يسمعني أي شخص في الخارج.
وصرخت مجددا بعلو صوتي: «أغيثوني ... أنا هنا ... هل هناك من يسمعني؟» - «النجدة!»
كنت أتلفت حولي وأصرخ مذعورا عندما سمعت الصوت العميق يتردد في المكان: «هل فعلت خيرا في حياتك السابقة؟»
3 - «ديفيد، إن توجهاتك الجديدة بدأت تثير مخاوفي.»
قالها الحاخام الأعظم «شلومو غورين» وهو يصلح من غطاء رأسه، قلت وأنا أنظر للأرض حتى لا أقلل من احترامه بالنظر إلى عينيه المباركتين مباشرة: «أي توجهات يا أبت؟»
قال وهو يضع يده الشريفة على الحائط ويتحسس تشققاته: «قراءاتك الجديدة، لقد بدأ الحاخامات يتهامسون بأنك تقرأ كتبا للمسيحيين والمسلمين، يقولون إنك بدأت تشكك في تعاليم كتابنا المقدس وتتحدث عن أن الحياة الأخرى قد تكون حقيقة.»
قلت وأنا استقبل حائط المبكي: «تقصد مناقشتي مع الحاخام ألعيزر يا أبت، ليس تشكيكا لكنه مجرد نقاش.»
قال بطريقته المحببة في الوعظ: «أن تعلم أننا نشجع حاخاماتنا لقراءة الأديان لمعرفة تفاصيلهم، وتعزيز الشكر للإله لأنه حافظ على ديننا ولم يسمح بتحريفه كما حرفت المسيحية والإسلام، فلا تسمح لهم بتسميم أفكارك. إن مفهوم يوم الحساب أثار الكثير من اللغط قديما عند رجال الدين، ولم يستقر بصورته المؤكدة الحالية إلا بعد العصر البابلي، كل اليهود سيتطهرون في يوم الحساب من ذنوبهم وآثامهم ليعودوا من جديد صفحات بيضاء من كل دنس، ثم تعود البقية الصالحة إلى أرض الميعاد ليعيشوا بسعادة وهناء كما جاء في سفر هوشع. الرب اختص اليهود بهذا التشريف العظيم، تلك خاصيتنا نحن أحباب الرب وشعبه المختار. هذا اليوم ليس يوم القيامة الذي تتحدث عنه بقية أديانهم لكنه يوم أرضي، هنا جنتنا ونارنا.
كل الصادوقيين والفريسيين يؤمنون بهذا وينكرون قيام الموتى، كيف يقوم من تحلل جسده؟ لا يوجد منطق في هذا، إنما الثواب والعقاب في الحياة، انظر إلى نصوص التوراة وستدرك أنها تكافئ العمل الصالح لليهود بنصر الله لنا وانتصارنا على الأعداء، وكثرة الأولاد، ونماء الزرع، وتعاقب سوء العمل والمعصية بنصر أعداء بني إسرائيل، وسبي نسائنا الجميلات وموت زرعنا وهلاك ماشيتنا، هل ترى؟ لا يوجد يوم آخر أو بعث، تلك تخرصات أهل الأديان المحرفة وتشكيكات الملحدين، كل الجزاء في هذه الدنيا!»
قاطع أفكاري صوت الطيار عبر جهاز المذياع الداخلي يدعونا لربط أحزمة الأمان لأننا على وشك الإقلاع، نظرت عبر النافذة، الطائرة تدور حول نفسها ببطء لتستقبل مدرج الاقلاع، وصوت المحركات المرعب يهدر تصاعديا في كل ثانية، لم أكن ممن يشعرون بالراحة في الطائرات، ولا أفهم كيف ينام شخص طبيعي ملء جفنيه في مثل هذا الشرك الطائر، لا شيء يفصلنا عن الاختناق والاحتراق والدمار في الخارج، سوى بضعة سنتميترات من الألمونيوم الخفيف!
كانت المضيفة جميلة الملامح تتقدم في الممر ببطء للتأكد من ربط الركاب لأحزمتهم، فأشرت لها بيدي، قدمت وسألتني إذا ماكنت أحتاج شيئا، طلبت بعض النبيذ، فأكدت بابتسامة لطيفة أنها ستجلبه لي بعد الإقلاع عندما تستقر الطائرة في مسارها.
دقات قلبي تتعالى مع صوت المحركات العالي، حاولت أن أسترخي وأغمضت عيني.
قلت للحاخام الأعظم وأنا أنظر له إذ وضع يديه على الحائط مغمضا عينيه: «أنا آسف يا أبت، لم أقصد أن أثير بلبلة بين الحاخامات، كان سوء تقدير مني، اعذرني!» - «لا بأس، أنت يهودي صالح يا ديفيد، لكنك سريع التأثر وواسع الخيال، والآن صمتا، فلنستعد لصلاة كوهانيم، غدا عيد الفصح وسيعج المكان بالآلاف من بني إسرائيل.»
4 - «من هناك؟»
صحت وأنا أتلفت حولي مذعورا.
عاد الصوت يتردد من جديد: «هل فعلت خيرا في حياتك السابقة؟»
كان الصوت مربكا، ليس صوتا بشريا وليس آليا، ليس ذكوريا أو أنثويا، صوت محايد غريب، لكن به شيء محبب يدفعني لأن أسمعه أكثر، وانتبهت، أن الصوت لا يأتي من الخارج لكنه يتردد داخل عقلي مباشرة.
شعور مؤلم بالعجز وقلة الحيلة يغمرني، لا أرى شيئا ولا أستطيع تحريك جسدي أو تلمس مكاني، سألت مصدر الصوت: «هل أنا ميت؟»
رد الصوت: «نعم!»
أنا ميت! يعني هذا أن ... - «هل أنت الله؟»
سألته بسرعة، فصمت قليلا، ثم أجاب: «لا!» - «لا أفهم.» - «أنت ميت، لم تنجح في هذه المرة مجددا.»
مجددا؟ هممت بأن أسأله عما يعنيه عندما أضاء المكان قليلا بضوء أخضر فسفوري، وفي كل مكان راحت مئات الحروف ذات التركيب الثلاثي غير المفهوم تتساقط حولي كالشلال.
ATC TGA GGA AAT GAC CAG.
ATC TGA GGA AAT GAC CAG.
ATC TGA GGA AAT GAC CAG.
الترتيب يتكرر بإصرار وبلانهاية، لكن أكثر ما شد انتباهي وأثار ذعري عندما نظرت لأسفل، مع الضوء الفسفوري الباهت استطعت أن أرى موضع جسدي.
لم يكن هناك جسد!
صحت مذعورا: «لحظة! أين بقية جسدي؟»
قال الصوت: «ليس لك جسد، لقد عدت سيرتك الأولى.» - «هل تعني أني روح؟» - «لا، أنت مجرد أحرف.» - «ماذا؟»
صمت الصوت مجددا، ثم قال بصوته المحايد المربك: «هذا أنت.»
مع نهاية حديثه رأيت ذلك الشيء يتوهج بجانبي وسط الضوء الأخضر الفسفوري وخلف سيل الحروف المتقطعة، التفت بسرعة.
ما رأيته كان غريبا جدا.
5
كان الارتجاج الأول طفيفا لم ينتبه له أغلب المسافرين، فقط أنا من شعرت به لأنني كنت متحفزا وأتوقع حدوث الكارثة في أي لحظة، ثم كان الارتجاج الثاني أكثر عنفا، اهتزت الطائرة وتساقطت بعض الحقائب من المخازن العلوية، تمسكت بجانبي مقعدي في هلع، وشهق بعض المسافرين، تردد صوت الطيار عبر المذياع الداخلي يطمئننا بأنه مجرد مطب هوائي فلا داعي للقلق.
نظرت عبر النافذة للأسفل، كانت تل أبيب مربعات صغيرة غير واضحة المعالم الآن، بينما لا تزال الطائرة تحلق للأعلى بزاوية حادة للوصول إلى ارتفاع الطيران.
كنت أشعر بمرارة الخديعة، وبدأ الحاخامات يتهامسون، ثم تحول الهمس إلى جهر، فاتهام صريح بالكفر والزندقة.
قال لي الحاخام «يوسف عزرا» غاضبا: «أنت عار على الكنيس، لطخت سمعة بيت يهوه بهرطقاتك وتصديقك للمسلمين.» - «ربما نكون نحن المخدوعين بعد كل شي!» - «بل غسلوا مخك.» - «أنتم من غسلت أمخاخهم بهرطقات المزامير، تحفظونها غيبا وترددونها كل مساء بلا يقين، وأصبح الدين عندكم تجارة تزجى ووسيلة للسيطرة والحظوة لا أكثر ولا أقل، تحلون بها قتل الآخرين لأهوائكم ولتحظوا بالمكانة والقرب من رجال السلطة، يهودا لم يطلب هذا، موسى لم يطلب هذا، لقد تم خداعنا عبر آلاف السنين بأننا المختارون، وأن لنا وطنا نستحقه، وأنه لا حساب لنا من بعد موت، الآن أعرف أننا كنا ضحية كذبة كبيرة.» - «بل لوثوا عقلك!»
تناسلت الأخبار بسرعة النار في الهشيم، وتم طردي من الكنيس وسحب تشريف الحاخامية مني، وقال لي الحاخام الأعظم شلومو غورين وهو يرمقني في ازدراء: «لم تعد فردا منا، نكصت على عقبيك وفرطت في أمانة موسى، وحتى تتوب وتتطهر من ذنبك العظيم لا مكان لك بيننا.»
خرجت المانشيتات الصحفية في اليوم التالي تتحدث عن الحاخام الذي ضل سواء السبيل، أطلقوا علي العديد من الألقاب الرنانة تصف ردتي، ثم بدا سيل خطابات الكراهية والتهديد بالقتل، قال لي الشرطي بلا حماس حقيقي أنهم سيبذلون ما في وسعهم لمعرفة أصحاب تلك الخطابات وجلبهم للعدالة، قالها لي بلسانه، وقالت لي نظراته أنه يتمنى أن يراني مسحولا على الطرقات أتخضب في دمي وأتعفن في زقاق مهجور.
وعندما عرفت أن حياة أسرتي وحياتي لم تعد بأمان، قمت بتسفير زوجتي وابني للنمسا على أن ألحق بهم بعد أيام.
فجأة اهتزت الطائرة في عنف، وسمعت صوت انفجار مكتوم، فتحت كل النوافذ العلوية للمسافرين لتتساقط أقنعة الأكسجين أمام وجوهنا المذعورة، ودوى الصوت المرعب المتقطع لصفارة التنبية لتخبرنا بأن شيئا ما ليس على ما يرام، تأكدت من هذا عندما نظرت من النافذة بجواري ورأيت خيط الدخان يتسرب من محرك جناح الطائرة .
هذه المرة كانت نغمة الخوف في صوت الطيار واضحة وهو يخبرنا بأننا فقدنا أحد المحركات ويطلب من الجميع ارتداء الأقنعة، ويحاول طمأنتنا بأن المحرك الثاني يعمل بكفاءة.
يا إلهي الرحيم!
كانت الطائرة ترتج بعنف، وأغمي على المرأة المسنة التي تجلس بجواري فورا، وفي لحظة ارتفعت أصوات البكاء المكتوم والهمهمات المتداخلة للمسافرين، رأيت المضيفات يهرعن بسرعة في الممرات ليساعدوا المسافرين على ارتداء الأقنعة.
صوت صفارة التحذير المتقطع يزيد الوضع سوءا، فليخرسوه قليلا.
كان قلبي قد تجاوز أي حد معقول للضربات، وراح يخفق بعنف حتى شعرت بالنبض في عيني وصدغي، بسرعة وضعت قناع الأكسجين على وجهي، ثم ربطته على وجه جارتي المغمى عليها، وانحنيت للأسفل وأنا أردد هامسا بصوت مرتجف باك: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، فلتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل قوتك، ولتكن هذه الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك، أدعوك باسمك الأعظم «يهودا»، احفظ أرواحنا يارب، احفظ أرواحنا يا رب.»
عندما انفجر المحرك الثاني، عرفت هذا قبل أن أرى الكتلة النارية التي انبعثت منه.
لجزء من الثانية، بدا وكأنه أبد الدهر، توقفت الطائرة عن الارتجاج، وتوقف صوت عويل صفارة الإنذار المرعب، وتوقف صوت البكاء والصراخ والتوسلات للمسافرين كلهم دفعة واحدة، وتجمد كل شيء.
ثم هوت الطائرة كالحجر.
6
بهيئته الهولوجرامية الغريبة، كان هذا دماغ بشري يطفو في الفضاء بحركة اهتزازية رتيبة وكأنه معلق في فضاء مغناطيسي، بجواره شيء أشبه بشاشة الكمبيوتر تظهر عليها الحروف التي تتساقط من حولي بشكل متقطع، أقول «أشبه» لأنها ليست شاشة بالضبط، ولا شيء يمكن فهمه واستيعابه، فتارة هي شاشة، وتارة أخرى مادة دخانية غريبة تدخل وتخرج من بين تلافيف الدماغ، وتارة أخرى تختفي الحروف وتحل محلها ثنائيات عشوائية متكررة للصفر والواحد (01001001).
سألت مصدر الصوت: «ما هذا؟» - «هذا أنت.» - «ماذا تعني؟» - «هذا واقعك وحياتك كما تعرفها، أنت حلم قصير في ذاكرة هذا الدماغ يستمر لجزء من الثانية، هي عشرات السنين في عالمك الافتراضي.»
سألته مذهولا: «أتقصد أنني لست حقيقيا .» - «لا يوجد شيء مما تعرفه وتعيشه حقيقي.»
وأنظر حولي، الظلام حالك إلى درجة يصعب وصفها، لدرجة أنه يمتص حتى الضوء الفسفوري الباهت الذي تشعه الحروف المتساقطة حولي، هناك مستويات من الظلام الدامس، هذا شيء آخر، ظلام لا يمكن وصفه أو تعريفه، أشد سوادا من ظلمة الرحم، ومما يراه العميان.
سواد متجانس مدلهم يصيبك بالاختناق، يستحيل أن تتخيله ما لم تره.
سألته وأنا أتلفت حولي: «أين أنا؟»
تردد الصوت: «هذا العدم كما تسميه، يصعب علي وصف هذا المكان لك، في الواقع هو ليس مكانا بالمعنى المعروف، أنت الآن في ما قبل الزمن صفر، وما قبل حقبة «بلانك»
1
ذاتها، قبل ميلاد كونك الذي تعرفه.»
بطرف عيني رأيت تلك الأشياء المتطايرة في الفضاء، فتنبهت، كانت تبعث ضوءا خافتا للغاية، ومضات خاطفة تظهر وتختفي بسرعة في المكان، تبدو كتلك الأشكال السريالية التي لا تظهر إلا في النقطة العمياء في مجال بصرك، وتختفي عندما تلتفت إليها، أو الأطراف الدقيقة المتطايرة من نيران احتراق الأخشاب، ظلت تلك الأشياء تظهر وتختفي للوجود بسرعة مذهلة.
تردد الصوت في ذهني وأنا أراقب مشدوها: «الآن يبدأ البرنامج.»
للمرة الأولى أرى الدماغ يسكن قليلا، وتبعث منه ومضات أشبه بالصعقات الكهربية عمت سطحه، واختفت معها الحروف الإنجليزية التي كانت تنبعث من بين ثناياه، وعلى الشاشة الغريبة تراصت مئات التكرارات الثنائية العشوائية للرقمين صفر وواحد.
في اللحظة التالية قفزت تلك الكرة النارية للوجود، في لحظة لم تكن، في اللحظة التالية كانت هناك، هكذا بدون مقدمات، نقطة دقيقة مضيئة في الفضاء المظلم، كانت تهتز بتلك الطريقة المنذرة التي تراها قبل انفجار الأشياء في مسلسلات الكرتون.
الغريب أنها كانت تظهر أمامي وخلفي وبجواري وتحتي وفوقي في نفس اللحظة، حيثما التفت أراها أمامي، هذا الشيء ليس مقيدا بحدود المكان، لن أستطيع أن أصف لك هذا مهما استخدمت من حروف اللغة، ما يهم أنها كانت في مكان واحد، وفي كل مكان، في نفس اللحظة، إن كان شيء كهذا قابل للفهم والتصديق.
تردد الصوت في ذهني مجددا: «ثم لحظة الميلاد.»
في اللحظة التالية انفجر الضياء.
موجة ضوئية هائلة انبثقت في المكان، ومعها موجة نارية تناثرت في الفضاء واكتسحت كل شيء حتى تلاشى الظلام دفعة واحدة، ضوء أبيض مبهر لدرجة يصعب وصفها، يبدو أن الألوان شديدة التطرف في هذا المكان، فهي إما ظلام شديد السواد أو ضياء شديد البياض، بدون مراحل وسطى، لحسن الحظ أنني لا أملك جسدا ماديا وإلا دمر هذا الضوء شبكية عيني فورا.
كنت أعرف أنني أشهد عرضا مسرعا لميلاد الكون كما قرأت عنه مرارا، لكنها المرة الأولى التي أرى فيها تلك المعجزة رأي العين ... وجدت نفسي أسبح في ضوء أبيض شفاف وشيء كثيف كالضباب يتراكم في المكان، ثم راح الضباب والضوء يخفان تدريجيا، وبدأت نقاط ضوئية كأنها شهب ضئيلة تتطاير وتتصادم في فضاء المكان بلا هوادة ... سحابة هائلة من الغاز والغبار غطت كل شي، ثم تموجت السحابة كأنما تخللها تيار هواء، وبدأت تتكثف في نقاط بعينها، ظهرت تكتلات صخرية صغيرة بعد ثوان، ثم تفتتت، ثم كرات نارية ضخمة، راحت تتقلص وتنسحق على نفسها بسرعة، ثم تنفجر في مجموعة متسلسلة من الانفجارات الهائلة، ومن الشظايا المتناثرة للانفجارات بدأت الكواكب في الظهور والدوران حول بعضها البعض.
كنت أسبح وسط كل هذا الحطام الكوني مأخوذا، رأيت النجوم تستعر، رأيت الكواكب تولد، ورأيت المجرات تتشكل، ورأيت مجرتنا بشكلها اللولبي المميز الذي رأيته في صور كتاب العلوم في المدرسة، الكتلة النارية الملتهبة التي نسميها شمسنا، وكوكب الأرض يظهر للوجود ككرة نارية ملتهبة ظلت حرارتها تخفت تدريجيا، ثم اختفت النيران وبدأ الكوكب يتغير لتغلب عليه زرقته المميزة.
كانت الثنائيات تتراص بسرعة على الشاشة بجواري، مئات الأسطر العشوائية من الرقمين (01) تتراص بسرعة رهيبة، ومعها صوت الأزيز المنتظم كثلاجة مطبخكم، وجدت نفسي أسبح بسرعة مقتربا من الأرض، لم تكن خارطة اليابسة كما أعرفها، لا توجد قارات، لكنها كتلة واحدة مجتمعة وبعض الجزر المتناثرة يحيطها الماء من كل اتجاه، ثم دوى انفجار ضخم في السماء تصدعت له الأرض، ثم برز القمر من بين الركام ، ومعه سكنت حركة موجات المحيط الهائلة.
كنت أقترب من منطقة طرفية في اليابسة، هناك بحيرة ماء آسن تنمو بجوارها حشائش كثيفة، ظللت أحلق بجوارها لثوان مترقبا ما سيحدث تاليا، وبسرعة راحت السحب السوداء تتراكم في السماء وهطلت الأمطار، ثم هوى لسان من البرق على البحيرة مباشرة، فراح الماء يفور ويغلي ثم همد الغليان.
هنا تغيرت الأرقام الثنائية من على الشاشة، وحلت محلها الحروف الإنجليزية التي كانت تتناثر في الفضاء من حولي، وراحت تتكرر بإصرار.
ATC TGA GGA AAT GAC CAG.
ATC TGA GGA AAT GAC CAG.
ATC TGA GGA AAT GAC CAG.
يبدو الأمر وكأنني أشاهد كل شيء من خلف شاشة ضخمة؛ لأنني لم أكن أشعر بملمس البيئة المحيطة بي، كنت أحلق فوق البحيرة الآسنة ثم وجدت نفسي أغوص بداخلها، رأيت مركبات دقيقة لم أفهمها تتشكل، ثم مجموعة من الأشياء تشبه العصويات كما تراها عبر المجهر، العشرات منها، تسبح في عمق المياه، ثم بدأت إحداها في التشكل لما يشبه فطر الماء، ثم شيء أشبه بالعنكبوت له أطراف رخوه، ثم تحولت إلى ديدان، ثم سمكة غريبة الشكل، راحت تتغير بسرعة، وتنمو لها بعض الأطراف، لتتحول لشيء يشبه الزواحف انسحب خارجا من الماء، ووجدت نفسي أنسحب معه للخارج، أرتفع فوق السطح الآسن للأعلى لأحظى بنظرة أكبر للمشهد، كانت مجموعة من الزواحف الآن تسير بجانب الماء، راح بعضها يتحور ويتحول لطيور حلقت بجواري مبتعدة، وبعضها اختفى خلف الأعشاب المنتشرة بجوار البحيرة.
الشمس تشرق وتغرب بسرعة مذهلة، ومعها تتغير تضاريس اليابسة، تنتصب جبال وتنخفض أخرى، تتوسع البحيرات وتختفي الأنهار، كل هذا في لمح البصر، ثم عم الجليد سطح الأرض وانحسر بسرعة، براكين تنفث حممها، وزلالزل وتصدعات هائلة بدأت تعيد تشكيل خارطة الأرض، ومعها بدأت القارات في الانجراف مبتعدة عن بعضها البعض.
كل هذا كان يحدث في ثوان أمام نظراتي المذهولة.
الديناصورات تبرز من خلف الحشائش وتنتشر على سطح اليابسة، وطيور غريبة الشكل لها حوافر وأنياب، وحيوانات هجين لم أرها في حياتي، وهوى نيزك ناري ملتهب فاحترق أغلب المكان، ورأيت الديناصورات تجري وتحلق هاربة، بينما انتشرت سحابة سوداء حجبت ضوء الشمس، فأصبح كل شيء مظلما وهطلت أمطار غريبة الشكل، ومن بين كل هذا، رأيت إنسانا عاريا أفريقي السحنة، يكسوه شعر كثيف، يحمل حجرا مصقولا ويهرول على أطرافه الأربع نحو مغارة وسط الجبال، هو إنسان على سبيل المجاز والوصف التشريحي، لكن ملامحه وحركته كانت للحيوانات أقرب.
فجأة اختفت الأرقام من على سطح الشاشة، وعاد الظلام يلف كل شيء، عدا صوت أزيز الشاشة المنتظم، وظللت أنا أحدق في الظلام مبهورا.
بعد فترة من الصمت سألت مصدر الصوت: «كل هذا غير حقيقي.» - «نعم.» - «كيف لم أنتبه لشيء مثل هذا من قبل!» - «في الواقع، أنت انتبهت لعدة تلميحات تخبرك بعدم واقعية حياتك عدة مرات، لكن ولكونك جزء من المنظومة نفسها، لم يمكنك تخطيها لتستوعب خارجها، عندما اقتحمت المجال دون الذري لكونك، لاحظت أنه العالم الكمي فوضوي لا تضبطه أي قوانين، وأن ملاحظتك له هي ما تحدد سلوكه وانضباطه من عدمه، يحدث هذا لأن عالم الكوانتم عندك هو بكسل شفرة البرنامج، كلما اقتربت أكثر تشوشت الصورة وبانت الأخطاء.» - «لماذا يحدث هذا؟» - «الأخطاء تحدث!»
سألته وأنا أتلفت حولي: «هل أنا هنا لوحدي؟» - «نعم.» - «أين البقية؟» - «لا يوجد بقية.» - «لكن ... زوجتي؟ وأصدقائي؟» - «لا يوجد سواك، كلهم «أنت»، كلهم نسخ متعددة منك، من نسج خيالك، كل الكون من نسج خيالك، أنت وضعتهم هناك حتى لا تكون وحيدا، ولتجد من تحسن إليه وتتكامل معه نفسك، لتتعلم كيف تتقبل ذواتك الأخرى المختلفة، لكنك صنعت اختلافاتك ونسيت، ثم ميزت نفسك عن الآخرين، لكنك لم تفهم أنه لا يوجد آخرون، كل شيء يختفي عندما تدير بصرك عنه، وعندما تموت.»
سألته: «ومن أنت؟» - «أنا ما يمكنك أن تسميه شيء مبرمج لأجيب على أسئلتك، وقد سألتني هذه الأسئلة ملايين المرات في كل مرة يوقظك الموت فيها، الموت ليس سيئا كما تعتقد، هو فقط ركلة الاستيقاظ والبدء من جديد عند انتهاء كل مرحلة فاشلة.» - «ومن قام بصنعك؟» - «أنت ... أنت قمت بصنعي ...
ألم تفهم بعد!
أنا هو أنت، أنت ميت في ماض سحيق، في عالم آخر، وقبل موتك صنعت هذه الخوارزمية لتخلق الأرض كما تعرفها، لتتحايل على موتك وتعيش مجددا، في خيالك، عقلك يحلم بكون ينفجر من العدم، وحيوات أخرى، وبشر وحيوانات، ليعيش فيها خيارات جديدة، هذه الحروف المتساقطة حولك هي رموز برمجة حياتك كما عشتها، وهي ذاتها حروف شفرة حمضك النووي، هدف البرنامج أن تترقى وتصبح إنسانا، أو تظل تعيد التجربة وتتقمص الحيوات حتى تصل إلى الكمال المنشود، هذا التكرار لا ينتهي إلا بكسر الحلقة والوصول لهدف البرنامج.» - «كيف أكون أنا من صنعتك في حين أنك أنت من تحلم بي؟ ألا ترى في هذا بعض التناقض؟ من أوجد الآخر أولا؟»
يصمت الصوت قليلا، ثم يعود ويتردد في ذهني بصداه المحبب: «لا يوجد تناقض، أنت صنعتني وأنا أوجدتك، لا يوجد قبل وبعد، تلك مقاييسك الزمنية، لكن الزمن الذي تعرفه وتتحدث عنه غير موجود هنا، لم يبدأ إلا مع بدء الكون كما رأيته من قبل. هنا يمتزج الماضي الحاضر والمستقبل في دائرة آنية لا نهائية لا بداية لها أو نهاية، ولا سطوة فيها للزمن، أنا رقيبك في عالم خيالي صنعته أنت، وقد عشت كل الخيارات الممكنة، ولا تزال تعيشها، بينما عالمك الحقيقي الذي توفيت فيه يتجه للفناء.
أنت الله الذي تعبده على الأرض، صنعت من ذاتك الحقيقية ذواتا افتراضية لتؤنس وحدتك، أنت من أرسلت الرسل والأنبياء، ومن كتبت الكتب المقدسة، أنت من فجرت الكون، وصنعت المادة، ونظمت تطور الحياة، خيالك خلق كل هذا.
لكنك تنسى، دوما ما تنسى.»
صوت غريب يتصاعد في الخلفية، صوت كلب يزمجر في مكان ما.
ليس واضحا جدا، لكنه صوت كلب بالتأكيد.
كنت مصعوقا.
يخامرني شعور بأن كل هذا غير حقيقي، تلك المعلومات أكبر من أن أستطيع معالجتها واستيعابها، كل ما كنت أعرفه وأؤمن به يتهاوى أمام عيني في لحظات، كابوس مريع أتمنى أن أصحو منه الآن.
سألته وأنا أسبح في الفضاء الغريب: «ما الهدف من كل هذا؟» - «هدف البرنامج ومغزى وجودك هو أن تنمو وتتطور فقط، كما قلت بنفسك على لسان إحدى شخصياتك الافتراضية لذواتك الأخرى «كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل.» ظنوا أنك تتحدث عن الإله، لكنهم لم يفهموا أنك تتحدث عن نفسك، أنت أبوهم الذي في السماوات، وأنت مخطئهم الذي على الأرض، أنت الخالق والمخلوق، أنت الملاك وأنت الشيطان، أنت الذكر والأنثى، الجمال والقبح، الخالد والفاني، أنت كريشنا وأوزيريس وموسى وعيسى ومحمد، وأنت ست وفرعون ويهوذا وأبو لهب، كلهم أنت.
بوسعك أن تكون أيهما، أو كلاهما.
لهذا صنعت الدين؛ لتذكر نفسك بأنه لا سبيل لنموك وتطورك إلا بالخير، أن ترقي نفسك، وتنشر الخير لذاتك المتعددة، حتى يصير الجميع واحدا، وتصل مرحلة الكمال؛ حيث لا فرق بين عربي أو أعجمي، أن تصير إنسانا حقا.
عندما تتعلم أن تغني جانبك الروحي والأخلاقي، وتتعفف عن غرائزك الحيوانية، أن تنمي الجانب الملائكي فيك وتسمو عن جانبك الشيطاني، فبين جنبيك يصطرع الضدان، وما الملائكة والشياطين إلا أيقونات رمزية وضعتها أنت في كتبك المقدسة لذواتك الأخرى، لتذكر نفسك في حيوات أخرى بجانبي الخيرية والشرية فيك.
لكنك نسيت.
كذب شيطانك ملاكك وقاتله، عندما كذبت بدينك وقاتلته، وكفرت بالخير فيك عندما كفرت بنفسك، قتلت النبي صوت صلاحك، وسفكت دمك، وكذبت على نفسك.
وقد ميزت ذاتك الافتراضية دونا عن سائر المخلوقات بالعقل ليكون نبراسا يقودك لأي الطريقين، لكي يكون خيارك وبمحض إرادتك الحرة، عندها فقط سيغلق البرنامج ويصل إلى سطر البرمجة الأخير، ويعود كونك للانكماش عكسيا وينتهي كل شيء.
هذه هي القيامة كما تعرفها.»
سألته مشدوها: «وماذا سيحدث بعدها؟» - «لا شيء، ينتهي البرنامج وتعود للمكان الذي كنته قبل ميلادك.»
أحسست، فجأة، بشيء قوي يجذبني لأسفل وكأن هناك تفريغ للهواء في المكان، وأتلفت حولي مذعورا وأنا أحاول التمسك بشيء ما وسط الظلام الحالك، ثم أنتبه مجددا أن جسدي غير موجود وأنه رد فعل غريزي.
ضوء أخضر غريب يشبه ضوء الشفق القطبي يتراقص في الأفق ويخف له الظلام الخانق من حولي تدريجيا، ومعه تبهت الحروف المتساقطة حولي كالشلال في طريقها للاختفاء.
صوت زمجرة الكلب في الخلفية يزداد وضوحا، ورأيت الحروف المتقطعة ورقمي الصفر والواحد على سطح الشاشة الغريبة تختفي دفعة واحدة، ثم تظهر العلامة المتقطعة تومض لبداية سطر جديد.
سألت مصدر الصوت فزعا: «ماذا يحدث الآن؟»
رد الصوت بلهجته المحايدة المحببة: «ستنسى كل شيء وتبدأ من جديد.»
والآن، هل فعلت خيرا في حياتك السابقة؟!
7
كعادته دوما، كان «أرئيل» الشاب يعبر مقابر «عيزر فايتسمان» ليلا.
المقابر مظلمة إلا من ضوء شحيح لعمود إنارة واهن في الشارع المقابل، يتلمس به طريقه، وقد اعتاد أن يشق طريقه عبر المقابر، ليختصر طريق العودة إلى الشارع الرئيسي حتى يستطيع أن يلحق برحلة الحافلة الأخيرة. «أرئيل» يعمل في إحدى مصانع المنطقة الصناعية التي تقع خلف المقابر، اليوم تحديدا تأخر في إنهاء مناوبته الليلية، بسبب تأخر زميله في الوردية، لذلك فهو يمشي بسرعة وعصبية حتى تعثر عدة مرات وكاد أن ينكفئ على وجهه، يدعو الله أن لا يكون قد تأخر جدا وفاتته الرحلة الأخيرة، وإلا فهو هالك لا محالة، لا يملك مالا للتاكسي، ولا طاقة ليمشي كل هذه الكيلومترات.
وتحسس جيبه ليطمئن على وجود العملات المعدنية هناك.
رأى ذلك الكلب يقف في ظلام المقابر وهو يزوم بطريقه مرعبة، لم يكن ممن يخشون الكلاب، لكنه انحنى والتقط حجرا ذو ثقل مطمئن تحسبا للأسوأ، لو قرر الكلب أن يهجم عليه فستكونن معركة حامية الوطيس.
لكن ما أثار دهشته أن الكلب لم يكن ينظر إليه أصلا، فقط يقف بطريقته المتصلبة المتحفزة يرمق قبرا معينا ويزوم مزمجرا وقد انتصبت أذناه وذيله.
انتهر الكلب، واقترب من القبر في حذر، أشعل كشاف الهاتف المحمول ودقق النظر في شاهد القبر، كانت الحروف غير واضحة المعالم لانعكاس الضوء على سطح الشاهد الرخامي اللامع، لكنه استطاع أن يقرأ:
ב נפטר הוא נועם, דייויד
2013 מרץ השלישי («ديفيد نوعام»، توفي في الثالث من مارس 2013.)
ديفيد نوعام!
يبدو الاسم مألوفا، كان قد قرأ عنه في الصحف من قبل لكن لا يذكر موضوعه بالضبط، التفت ليعود أدراجه سريعا، عندما سمع صوت الأنين من خلفه، فتصلب، التفت للقبر ببطء وقلبه يتواثب بين ضلوعه.
هو يعلم أن الموتى لا يصدرون أصواتا، لا بد أن هناك حيوان جريح في المكان.
اقترب في حذر وهو يجوب بضوء الكشاف على القبر.
هذه المرة دوى صوت الصرخة المكتوم بوضوح من داخل القبر، ومعها اهتز الشاهد الرخامي قليلا مع خلخلة ذرات التراب.
كان هذا أكثر من قدرته على التعقل والمنطق السليم، فأطلق ساقيه للريح وهو يصرخ بلا انقطاع. (تمت)
القصة المملة الخامسة: بإخلاص: أنت
تعرف من
هل ستكف عن حبي إذا ما رأيتني الآن؟
1
أصوات خافتة متداخلة، أزيز متقطع.
ممرضتان تتهامسان في الممر الضيق بالخارج.
صوت سعال خفيف من الغرفة المجاورة.
فراشة تحط على مقبض النافذة الزجاجية من الخارج، تتأملني للحظات بفضول ثم تحلق مبتعدة. قطرات المحلول الوريدي الممتد حتى ذراعي، يسرب قطراته في عروقي ببطء.
أستلقي على سرير المستشفى الذي ظل يتسع على جسدي المتهالك يوما بعد يوم، أرتدي رداء المستشفى الفضفاض، وأكتب لك هذا الخطاب على ضوء الأباجورة الخافت.
هو خطابي الأول لك، واعترافي الأخير.
أمامي تفاحة خضراء اللون لم أمسها منذ الصباح، وبعض الخضروات، لم تعد معدتي تتحمل شيئا سوى الماء القراح، أسماء لاتينية كريهة تتراص أمامي لأدوية كففت عن إحصائها منذ زمن، أدوية تبلع، وتدهن، وتحقن، وتشم، في كل يوم يضيف لي الطبيب المسئول عن حالتي دواء جديدا. إن سرطان الثدي لا يمزح، العلاج الكيميائي مقيت، هو ليس علاجا في واقع الأمر، لكنه يمنحني فقط بعض الوقت، لكنني أعرف أنه لم يتبق لي الكثير، انتشر الورم واستفحل انتشر في صدري بالكامل، على أن أحسن استغلال أيامي القليلة المتبقية فقد تتداعى أعضائي في أي لحظة، قالها لي الطبيب ببرود مهني صارم.
لكن تعلم، أنني لا أثق في الأطباء.
خمس سنوات مرت على فراقك اليوم.
خمس سنوات كاملات أحصيتهن يوما بيوم، وعلى الرغم من ذلك، أتذكر وجهك بوضوح كما لو كان بالأمس.
بالأمس رأيت النظرة الحزينة في عينيك، وقبلت رأسي ثم انصرفت، لا أزال أشعر بملمس شفتيك على رأسي.
كنت مخطئة، أعترف، لكنك ذهبت، بلا رجعة!
هل تشتاق لي كما أشتاق إليك ؟
هل تتأمل صورتي وتحتضنها قبل نومك، هل تبلل وسادتك بالدموع والشهيق حتى لتشعر بأن روحك تزهق من بين الضلوع؟
هل تحن لي؟!
زجاج النافذة المعتم يعكس صورة مشوشة، فتاة تبدو مثلي، لا، هي أشد هزالا، تساقط شعرها بالكامل، وبرزت عظام وجهها الصامت، أشبه بفزاعة آدمية ...
هل هذا ما أصبحته؟
لطالما أحببت شعري، أعرف هذا، لطالما داعبته بأصابعك عندما يغمرك فيضان المشاعر.
هل ستكف عن حبي إذا ما رأيتني الآن؟
أتذكر دعاباتك القاسية لي عندما يرهقك المشي، تقول لي إنك لا تعرف لم أحببتك، تقول لي كم أنت معدم كصرصور، لا تملك سيارة كأي حبيب يحترم نفسه، فلماذا تحبينني!
لماذا تحبينني؟!
تسألني!
لم تفهم، أحببتك لأنك أنت، بتذمرك، وفقرك، وعنادك، أحببت طفوليتك، ودعاباتك المضحكة من فرط سذاجتها عندما تحاول التخفيف عني وقتما يتملكني الضيق.
حسن، تزوجت من يملك سيارة الآن، حرص هو أن تكون الأفخم، والأجمل، والأكثر حداثة ليرى النظرة المنبهرة في عيني.
برغم كل شيء، ظل المقعد المجاور لي خاليا منك.
ظللت أنتظر نظرة السعادة في عينيك، عندما تملك بعض المال أحيانا لأجرة التاكسي، وتتباهى بانتصارك الصغير، وسعادتي بك وقتها.
انتظرت طويلا.
خمس سنوات مرت على فراقك.
كنت كاذبة عندما قلت لك في تحد أنني سأنساك، كذبت على نفسي قبل أن أكذب عليك.
تزوجت رجلا ليس أنت، أنجبت طفلة ليست منك، كونت أسرتي التي لا تشملك، حاولت أن أستمر في حياتي بما تبقى لي.
حاولت باستماتة أن أمضي قدما.
لكنني تعلمت عادة سيئة من بعدك.
كنت أبحث عن وجهك في وجهه، عن ضحكتك وسط ضحكاته، عن طعم قبلاتك في شفتيه، عن لمساتك.
كنت أخدع نفسي.
لستما سواء.
ليس أنت.
زوجي يحبني بجنون، يبذل جهده في إسعادي، عندما يحتضنني ليلا أرى النظرة الحائرة في عينيه، أقول له إنني أحبه كذبا!
تخرج من فمي باهتة بلا طعم، بلا يقين.
شتان ما بين «أحبك» التي كنت ألقيها على مسمعك خجلا، وأشعر بكل حروفها تتخلل قلبي فيضطرب في خفقانه، ويفيض بالحب والسعادة، وبين «أحبك » التي أقولها له في برود، ألقيها إلقاء كشيء ثقيل يتدلى من على طرف لساني، هربا من عينيه المتسولتين.
هو لا يفهم ما الذي أجرم فيه لأقابله بهذا البرود، أرى حيرته في عينيه.
مسكين هو، لم يفهم أنه ليس ذنبه، فقط تزوج بقايا امرأة!
امرأة تعسة، محطمة، خاو قلبها كخراب ينعق فيه البوم بعد أن غادرته.
فهل يعمر مجددا ما أضحى خرابا؟
تركت حطاما لا يصلح لمن بعدك، أحرقت كل شيء وغادرت، للأسف، في هدوء عاصف.
عسى الله أن يغفر لي ما أذنبته معه!
عسى أن يغفر لي قلبي ما أذنبته معك!
خمس سنوات مرت على فراقك!
حين أستلقي لوحدي في الليل أعيد التفكير وأستعيد شريط الذكريات، أفكر، ماذا حدث؟ ولماذا؟
قالوا لي إنك لست الأنسب، قالوا لي أنك لست مسئولا لتكوين بيت وأسرة، قالوا لي إنك طفل كبير، لم أستطع، للأسف، أن أقول لهم إن طفوليتك تلك هي سر جاذبيتك وما أحببته فيك!
أمي، أخواتي، صديقاتي، خدعوني فصدقتهم!
علموني أن أقسو عليك، ليسهل على قلبي اتخاذ القرار.
ظللت أخوض صراعا لا تعلم عنه شيئا، شد وجذب بين قلب يطلبك بشدة، وعقل يلفظك مرغما، يتشاكسان في ساحة دواخلي، وتتنازعني أمواجهما المتلاطمة يمينا ويسارا، حتى ضاقت نفسي بحملها.
لكم أرهقني هذا الشعور ...
ثم جاء من هو على النقيض منك، من يملك كل شيء، فاخترته.
ذهبت رغما عني، وظلت ذكراك تطاردني كاللعنة!
أخطأت بلا كفارة، كان هذا ذنبي العظيم الذي لم تستطع أن تغفره!
ألسنا بشرا نخطئ ونصيب؟! ألا نستحق فرصا ثانية؟
أليس الله يغفر؟!
فلم لا تفعل أنت!
أغرقت نفسي بالبيت، بالعمل، بالطفلة، أدمنت التدخين سرا، لم يشفع لي شيء!
تسلقت سلم حياتي هربا من شبحك، كنت أهرب للأمام.
أحاول أن أخبر نفسي بتلك الطريقة أنني بخير بدونك.
فعلت كل هذا، أصبحت زوجة رجل الأعمال الناجح، أصبح يشار إلي بالبنان، والحسد أحيانا، حزت بيتا لم أحلم به وزوجا من أفضل ما يكون، لكنني عندما توقفت هناك، للحظات سألت نفسي: «ثم ماذا بعد ؟!»
ما قيمة المال والثروة مقابل قلب أحبك! ما قيمة الحياة المريحة بين طرفين لا تجمعهما قيمة سوى المال، مقابل قلبين يتنفسان بعضهما على شظف من العيش، ما قيمة الحياة بدون شخص يحبك لا لشيء سوى ذاتك، لا يبرر حبه لك بشيء سوى أنك أنت، لا مالك ولا جاهك ولا هيئتك، فقط أنت ... أنت ... لأنك أنت، بسوئك وعيوبك ونقائصك.
ففي نقائص المحبوب يكمن كمال الحب وسموه.
للأسف، هي قشور الحياة.
نمضي حياتنا بقصرها لاهثين خلف أشياء براقة تبهرنا، المنزل الفخم، السيارة، الملابس، الرفاهية، ثم نقف على حافة العمر بعد أن فني أو كاد، نلتفت في لحظة خاطفة للوراء، لنكتشف أننا سلكنا المنعطف الخاطئ، أهدرنا حياتنا هبة الله لنا سدى، نسينا المعنى الحقيقي وتمسكنا بالقشور.
فلا بقيت حياتنا ولا بقيت القشور.
صدقني، كانت نظرة فخرك بنفسك عندما ترى الإعجاب في عيني عندما تفتح لي قارورة الماء، أعظم عندي من كل هذه الحياة، بحثت عنك بعيني وسط الحشود لأرى تلك النظرة مجددا، تمنيت للحظة لو يختفي الجميع.
وتبقى أنت!
أنفقت كل شيء بحثا عن سعادة مصطنعة مشتراة، لم تساو لحظة من لحظات سعادتي وأنا أتأمل ملامحك الوادعة تستكين بالنوم على صدري.
خمس سنوات مرت على فراقك!
بالأمس قرأت مجلة جلبها لي أحد مساعدي التمريض لتسريني قليلا في وحدتي.
يحمل بعض ملامحك، وشيئا من ضحكتك.
قرأت ما خطه الجبران من قبل، وكأنه يتحدث عني.
لا أحد يعلم ما أصابك، لا أحد يعلم كيف هي معركتك الخاصة مع الحياة، ما الذي زعزع أمانك، وقتل عفويتك، كم كافحت وكم خسرت؟! لا أحد يعلم من أنت حقا!
حقا! لا أحد يعلم من أنا!
ما الذي زعزع يقيني، وقتل روحي، وأفرغ كل كياني؟!
ولأن روحك جزء من روحي، أعرف أن كل ما يعتري قلبي يشعر به قلبك، برغم كل المسافات.
كان هناك مقال يتحدث عن الأرواح وتواصلها عبر العوالم، قالوا إن مثل حبنا لأن روحينا التقتا بعضهما في عالم آخر من قبل في حياة غير هذه الحياة ، كنا أحباء قبل أن نعود كغرباء في هذه الحياة ونلتقي مجدد!
هذا عزائي!
لئن فقدتك في هذه الحياة، فسأحاول التعويض في حياة أخرى، أن أتمسك بك بقوة من البداية.
لا أعرف كيف سنلتقي!
هل سأراك في السوق بالصدفة؟ هل ستكون زميلي في الجامعة؟ ربما ستجلس بقربي في مكان ما، وأشعر أنك لست غريبا عني!
هل سأجد في نفسي الجرأة لمحادثتك؟
لا أعرف، لكنني أعرف أنني سأحبك من النظرة الأولى التي سأراك فيها، أعرف كذلك أن شعري سيكون قد عاد وقتها، وستحبه كما أحببته من قبل.
عندها أعدك!
سأحاول مجددا.
ووصيتي لك: أحب زوجتك كما أحببتني؛ فهي تستحق!
ولتبحث في قلبك عن بعض الرحمة، عسى أن تغفر لي سوء تقديري وما أذنبته معك.
قالوا أنهم سيبعثون لك هذه الرسالة فيما بعد، اشترطت عليهم أن أكون قد فارقت الحياة قبلها، لذا، عندما تقرأ حروفي هذه، أعرف أنني قد سبقتك في العبور.
لم يعد في العمر بقية يا طفلي، ولم يعد في الوقت متسع.
فلتعلم، أنني قد أحببتك كما لم يحب إنسان إنسانا من قبل، وعشقتك فوق طاقتي.
فليرحمني الله!
بإخلاص: أنت تعرف من. (تمت)
القصة المملة السادسة: القبعة الزرقاء
كان شيئا كالحلم، أجمل من أن يكون حقيقيا.
1
سأقص عليك اليوم قصة عن قبعة زرقاء، هذا واضح!
ليست كقبعة جنود الأمم المتحدة، ولا قبعة البطة دونالد، «بطوط» كما نعرفه نحن، وليست كقبعة مشجع متعصب لنادي «الهلال».
هي قبعة من نوع مختلف وفريد.
لكن وفي البداية، دعني أؤكد لك أن هذه القصة كابوسية ومرعبة.
قصة مخيفة هي، سيرتجف لها فؤادك، وترتعد من هولها فرائصك فرقا. أعرف أنها ستجد مكانها على الرف مع أسوأ كوابيسك، ربما لن تستطيع النوم لعدة أيام من فرط الهلع، قد تتقلص معدتك، ويضطرب قلبك، قد يكون الإسهال والقيء من ضمن الأعراض الجانبية، ربما بعض الهلاوس كذلك. لست طبيبا؛ لكنني لا أنصحك بها إن كنت من ذوي القلوب الواهنة، كما لا أنصحك بقراءتها ليلا أو وحيدا.
أنت تعرف «جيهان» بالطبع.
من لا يعرف «جيهان»!
الناشطة النسائية الأشهر من نار على علم. ربما صادفتها يوما ما في ندوات الجمعيات النسوية، أو في معرض الكتاب، أو رأيت صورتها في مواقع التواصل الاجتماعي.
ربما كان سر شهرتها هو أنها تحطم الصورة النمطية السائدة في ذهنك عن الناشطات النسويات؛ فهي لا تعبر عن فكرتها عن المساواة بالرجال بأن تبدو مثلهم، فلا تنفش شعرها كالمجاذيب، أو تشتمك ببذاءة كمعلمي ورش المنطقة الصناعية، أو تضحك بطريقة: هع هع هع!
ليست كذلك، فتاة جميلة هي، من النوع الرقيق المرهف الحس، أنت تعرف هذه النوعية من الفتيات ولا بد أنك قد قابلتها كثيرا. الفتاة المثقفة التي تتحدث بإفراط عن المساواة بين الجنسين، وحقوق المرأة، وتقرأ كثيرا للوجوست فلهلم، ونزار قباني، وأحلام مستغانمي. تعرف كذلك أنها من أسرة أرستقراطية فاحشة الثراء!
والدها نائب وزير شيء ما في الحكومة، وعضو في البرلمان، كما أنه رجل أعمال ناجح يملك عدة شركات في السودان وخارجه، والدتها فرنسية من أصل إسباني، وقد ورثت عنها جمال الجسد اللاتيني ولون البشرة ونعومة الشعر، لهذا يمكنك أن تفهم سبب كونها محط الأنظار في أي مكان تكون به. كتلة متحركة من الأنوثة والفتنة يصعب أن تخطئها عينك.
كانت جميلة إلى الحد الذي يبعث الرهبة في الواقع، لسبب ما يكون الرجال أكثر تهذيبا ولطفا وغباء مع الفتاة مفرطة الجمال. إن الجمال الصارخ غير مريح، لا بد من بعض العيوب هنا وهناك حتى نستطيع أن نتعامل على نحو طبيعي، أضف لذلك لسانها السليط وثقافتها العالية، ما جعلها كابوسا شنيعا لكل من يحاول التقرب منها.
بشكل عام لا يستريح الرجل للمرأة المثقفة التي يصعب خداعها؛ فهي تهدد شعوره بالتفوق، وكل ما غرسته فيه والدته.
تقدم لها مئات العرسان بالطبع، وقد ظلت ترفض كل من يطرق بابهم في إصرار، لماذا؟
نسيت أن أقول لك أن «جيهان» تكره الرجال كالجحيم، وككل الناشطات النسويات المتطرفات، فهي تؤمن أن الرجال مجرد صراصير ناطقة لا أكثر ولا أقل، طفرة جينية ضارة لا بد أن تصححها الطبيعة يوما ما.
تؤمن كذلك أنهم كاذبون، لزجون، منافقون، مدعون، مسطحون، أغبياء بالفطرة، وكل منهم يواري «الأبجيقة»
1
الخاص به في دواخله، مهما بلغت درجة وعيه وثقافته، ومهما تظاهر بالعكس.
تذكر أنها قد قابلت أحد أعلام الناشطين النسويين من قبل، في ساحة «أتني»، من ذلك النوع الذي يتعصب لقضايا النساء أكثر من النساء أنفسهن، ويملأ الدنيا صراخا عن العقلية الذكورية، والمجتمعات البطريركية، واضطهاد البنية الثقافية ... ويدعو النساء لكراهية الرجال بلا استثناء.
جلست تصغي إليه في انبهار، وهو يتحدث عن القهوة العميقة الرديفة الوعي، والمرأة الكنداكة، والرفيقة الوطن، والشفيفة الوريفة، ثم: «الإله خدعة، المؤمنون حمقى، الأديان من منتوجات الأنتلجنسيا الذكورية للسيطرة عليك وأدلجتك مع القطيع آنستي.»
قالها في ذكاء، وبصق على الأرض في عمق، ثم شتم صبية بائعة الشاي.
وراح يحملق في نهديها البارزين خلف ملابسها بعينين جائعتين، ويتحدث بحماس عن رجعية الحجاب، وديكتاتورية النقاب، وعبودية الدرر المصونة والحلوى المغلفة، وحرية جسد الأنثى وحقها في ممارسة الجنس. - «كشخصين ناضجين يمكننا ممارسة الجنس وكسر التابو، تحرري من القيود يا رفيقة، ودعي عنك كل قيود المجتمع البالية!»
هكذا كونت قناعتها الراسخة في شأن الرجال، هذه ذئاب بشرية جائعة. كائنات حيوانية وشهوانية إلى حد مرضي، يفكرون عبر رءوس أعضائهم التناسلية طيلة الوقت.
فقط يتحدث بعضهم عن شرع الله والستر، ويتحدث البعض الآخر عن تحرير المرأة، لكن الأهداف واحدة بين الاثنين. -
ce sont des monstres qui ne sont pas humains .
2
تقولها في تقزز، ثم ترتدي النظارة السوداء التي تبتلع نصف وجهها وتدفن وجهها في كتاب ضخم، لتقرأ المزيد عن البطريركية في المجتمعات شرق الأوسطية.
قد تجادل، بأن مبدأ الخضوع للذكر مطلب أصيل في بناء المرأة وغريزتها العميقة، وأن الأنثى، وعبر سنوات تكوينها التطوري الأشد أصالة، فهي تبحث عن شعور أمانها مع الذكر المسيطر صاحب الامتيازات الجسدية الموحية بالقوة والهيمنة، فهو يطمئنها بقدرته على حمايتها من الأخطار، وتمرير جينات ممتازة للأطفال، يوفر الغذاء، ويفرض هيمنته على قوى الطبيعة المحيطة بهما، بعض تلك الهيمنة لا زال يتبدى في مملكة الحيوان، كأن تنفش القطط جسدها لتبدو أكثر ضخامة وهيمنة لترهيب الآخر.
في العصر الحديث، برغم زوال مسببات الأخطار القديمة، لا زالت الأنثى تحتفظ بذات مشاعر انجذابها الجنسي القديمة للرجل، فكلما ازدادت هيمنته عليها، وتضخم جسده، واستطالت قامته، انجذبت له المرأة، وبالمقابل فهي تنفر من الذكر الذي لا يملك هذه الصفات، كالرجل ضعيف الشوكة، أو الضئيل أو القصير، في تناسب لا واعي مترسخ يربط الخصائص الجسدية بالخصائص الشخصية.
بالتالي، فإن فلسفة النسويات «الفيمنست» المناهضة للرجل بالمجمل، ما هي إلا تعبير نفسي لإحباط شديد مدفون عميقا في اللاوعي، لصورة الذكر الحامي والمهيمن في هيئته الأولى الأكثر مثالية «الأب»، وأن اهتزاز هذه الصورة؛ لأي سبب من الأسباب، كطلاق الوالدين، أو الأب القاسي، أو غير المسئول، أو المهمل، يولد الفشل في التعاطي مع الجنس الآخر لاحقا، ويطلق العنان لكل مشاعر الاضطراب وعدم الاتزان في شكل موجة كراهية تجاه الذكور ككل، كتعبير إحباط لا واعي، يتنكر في هيئة نقد منطقي وفلسفي لدور الرجل في المجتمع، لكنه - في حقيقته - مجرد تصريف لمشاعر غضب تجاه أب فشل في دوره المثالي في حياتها.
في حالات معينة يصل الرفض للإله ذاته، بسبب اختلال قاعدة التصور النمطي للإله كأب شامل يوفر الحماية والأمان، الأمر - إذن - في أساسه البسيط، حزمة إسقاطات نفسية متشابكة، وحيلة دفاعية معقدة، من لا وعي يحاول حماية الأنثى من أذى جديد قد يسببه لها أي رجل آخر.
سأقول لك إنني لم أفهم حرفا مما تقول، لكن «جيهان» ستؤكد لك في تصميم:
Les hommes sont la pire chose qui ait été inventée après la bombe nucléaire .
ثم قابلت «محمدا!»
حسن، أعتقد أنه يمكنك أن تصنف حياة «جيهان» إلى قسمين، ما قبل مقابلة «محمد» وما بعده. «محمد» كان شابا مثقفا بامتياز، ووسيم إلى حد مزعج، من ذلك النوع الذي تراه بكثرة في الأفلام الكلاسيكية العربية، طويل القامة، عريض المنكبين، بشارب رفيع منمق وذقن مرتبة نصف نامية، يرتدي دوما بذلة كاملة مع ربطة العنق الببيونة، ونظارات طبية أنيقة، والأهم أنه مستقل ماديا.
ليس ثريا كوالدها، لكنه يملك عدة مشاريع لا بأس بها، وشقة في أحد الأحياء الراقية في الخرطوم، كما أنه يؤسس لشركته الخاصة .
لا تعرف متى وكيف تسلل إلى حياتها، كان شيئا كالحلم، أجمل من أن يكون حقيقيا.
في الواقع كان النقيض لكل ما تكرهه في الرجال، لم يأمرها بأن تتحجب، لم تضبطه متلبسا وهو يسترق النظر إلى مفاتنها خلسة، لا يسألها متشككا إذا ما كانت تجيد طبخ البامية وحشو المحشي، لا يتحدث عن مباريات الكلاسيكو، وآخر أهداف «بلة جابر» في الدوري الممتاز، لا يعتبر نفسه مسيحها المخلص من ظلمات العنوسة، والجائزة الأروع في حياتها.
كان رقيقا حالما مثلها، لم يهتم بشيء سوى عقلها.
كان يحدثها كثيرا عن قوانين الدياليكتيك، وفلسفة هيجل، وفيورباخ، وإميل سيوران، ينتقد معها روايات الأدب الغربي، ويناقش معها الإلياذة والأوديسة، وأشعار «ميخائيل إدواردز».
أنت تعرف بالتأكيد أنه يصعب على الفتاة أن تقاوم شابا بهذه الصفات، هكذا وقعت في حبائله بسرعة البرق.
كانت تراه مختلفا وصادقا، ذكي ومثقف إلى حد مبهر يخطف الأنفاس.
تمت الزيجة بسرعة، زواج مختصر في مزرعة صديق له، مع أسرتيهما وأقارب الدرجة الأولى، وبعض الحضور من أعضاء الحكومة ورجال الأعمال من أصدقاء والدها.
شهر عسل قصير في ماليزيا، جلسات رومانسية على الشاطئ مع الغروب، الكثير من التغزل ونظرات الهيام المتبادل، بعض الصور لأياديهما المتشابكة لمواقع التواصل الاجتماعي، ثم عادا لشقته في الخرطوم.
وعادت الحياة لروتينها.
لم تمر بضع أيام، حتى بدأت تلاحظ عادة غريبة من زوجها!
لا، هو لا يتحول إلى شيطان رجيم عند سماع القرآن، أو يعوي كالذئاب في الليالي المقمرة، إذا ما تبادر شيء كهذا إلى ذهنك، لكنه يفعل ما هو أسوأ.
كان يترك غطاء معجون الأسنان مفتوحا بعد استعماله! وهو ما بدا لها تصرفا همجيا وانحدار مريع في السلوك المهذب.
كما أنه كان دوما ما يرتدي الفانيلة الداخلية ذات الحمالات، ويداعب شعر صدره البارز خلال ثقوبها، ولم يكن منظره بهيجا. -
VEUILLEZ PORTER DES VÊTEMENTS APPROPRIÉS.
قالتها في تقزز ثم راحت تتحدث عن سلوك الرجل العصري في أشعار «جون فاولر»، فأطلق سبة بذيئة يعبر بها عن رأيه في شاعرها المقصود، سبة تتعلق بوالدة الشاعر وأخواته تحديدا!
ثم راحت الملاحظات تنهمر كالمطر.
يلوك الطعام بصوت مسموع، يتبول أثناء الاستحمام، يقهقه على دعاباته الخاصة، يشاهد الأفلام الهندية، يبصق على البلاط، يقرأ صحيفة الدار، يتبرك بالشيوخ، يشارك الرسالة إياها لعشرة أشخاص، يمضغ العصير، يشخر وكأنه يعذب في سقر، يستيقظ من النوم بجوارها فيتثاءب كالخرتيت، ثم يصدر صوتا حلقيا متكررا يسلك به حلقه وهو يفرك أذنه بإصبعه.
دعك من أنها ضبطته عدة مرات يشاهد التلفزيون في استرخاء، وهو يضع يده داخل سرواله، ويعبث بأعضائه التناسلية، على سبيل الملل.
كان هذا أكبر من قدرتها على الاحتمال!
قالت له إنها لم تعد تطيق هذا الوضع، وأنه قد تغير جدا من بعد الزواج، قالت له أنه لم يعد يناقشها في فلسفة هيجل، وفيورباخ، لم يعد يتحدث معها عن الأدب الغربي، وأشعار «ميخائيل إدواردز»، لم يعد يقرأ الإلياذة والأوديسة.
لم يجادلها، فقط أطلق غازات بطنه بسخاء - حرص أن تبدو كنوتات موسيقية - ثم غمغم شيئا عن جنون النساء. -
oh my gash. -
Être barbare.
بدأت تعي في بطء أنها تعرضت لخدعة محكمة، وأن زوجها المثقف الوسيم لم يعد مثقفا أو وسيما إلى هذا الحد، في الواقع، لم يكن نطاق اهتمامه يتخطى ممارسة الجنس، وأهداف «بلة جابر» في الدوري المحلي، وكمية قطع اللحم في طبق البامية، ونوعية الخضار المستخدم لحشو المحشي.
كانت شخصيته الآسرة كالحذاء، ينزعها أول دخوله للمنزل.
عندما بدأت تقيئ في الحمام، أدركت في رعب أنها ستظل حبيسة هذا الكائن إلى الأبد.
بالطبع تتفق معي أنه من الصعب أن تطلب الطلاق الآن، بينما هناك جنين بدأ يتشكل في أحشائها.
ألم أقل لك إنها قصة مخيفة جدا؟! (تم...)
مهلا! أراك تنظر لي في غيظ!
ما علاقة القبعة الزرقاء بالقصة؟!
أنا تحدثت عن قبعة زرقاء؟! ماذا حكيت إذن؟!
جيهان؟ غريب!
في الواقع، لا توجد علاقة!
بدا لي العنوان جميلا مغريا، وحاولت أن أتحدث عن قبعة زرقاء فعلا، ثم أفلتت القصة من يدي.
هذه الأشياء تحدث. (تمت)
3
القصة المملة السابعة: مضت بسلام
لقد مضت بسلام.
1
قال أحدهم وهم يهيلون التراب على قبرها: «لقد مضت بسلام ، من كان يظن أن وفاتها ستكون الحدث الأسعد في حياتها؟!» (تمت)
القصة المملة الثامنة: مذكرات مايكل
غروننبيرج
الوباء
مريم أيتها القديسة، صلي لابنك الحبيب، لأجلنا وأجلهم حتى تمام الخلاص.
1
ملمس عيدان الذرة على أطراف أصابعي كالحرير، سحلية الإيغوانا المقدسة، صوت الجوقة السمائية يتردد في السماء الصافية التي تصطبغ بصبغة الغروب، أغمض عيني في نشوة وأنصت للحن العذب، وأشق حقل الذرة ناحية شجرة التفاح في الأفق. «إيف» جالسة تحت جذع الشجرة في انتظاري، عارية، جميلة، فاتنة، ينسدل شعرها الأسود الناعم على كتفيها، بضع شامات تتناثر على وجهها المضيء فبدت كالإلهة فينوس، تضع إحدى يديها لتغطي صدرها، ويدها الأخرى على فرجها، وتحدجني بنظرات خجلة.
الرب عيسى يتجسد على السحاب وهو يحمل الصليب، أسجد على ركبتي وأرسم الصليب على صدري «أبانا الذي في السماوات فليتقدس اسمك العظيم.» يمد يديه ناحيتي وحوله هالة نورانية، يتردد صوته الإلهي: «اليوم وصلت إلى ربك يا مايكل، اليوم تولد من جديد، مطهرا من كل دنس وخطيئة، فاليوم اخترتك على علم من عندي، هي ملكك وأنت سيدها، معا تقيمان كنيسة الرب الأولى، ومعا تغرسان بذرة عباد الرب من جديد.»
آخر على الأرض باكيا متضرعا: «اغفر لي يا رب كل لحظات ضلالي، وشكوكي في مبلغ حكمتك الأزلية.» - «قد غفرت لك.»
ويتلاشى صوته مع تلاشي هيئته خلف السحاب، وأظل أنظر للسماء مشدوها. - «إيف ... هيا بنا.»
مارس، 2031-50 يوما على العزل. «مريم أيتها القديسة، صلي لابنك الحبيب، لأجلنا وأجلهم حتى تمام الخلاص.»
أخيرا اعتادت أعيننا الظلام.
تبقى منا ثلاثة عشر شخصا فقط، مكومين في هذه المساحة الضيقة، الطبيب جاك، والممرضة نانسي، وأستاذ جامعي كبير في السن يدعى مارك، ومهندس فرنسي لا أعرف اسمه، وشابان مراهقان، وثلاثة نساء، وثلاثة أطفال، وأنا.
مساحة الغرفة الحصينة لا تتعدى ستة أمتار مربعة، تكدسنا فيها كيفما اتفق، ومخزن ملحق امتلأ بالأطعمة التي استطعنا جلبها، ومئات من قوارير المياه.
لم يكن الأطفال بصحة جيدة، لقد توفي اثنان منهم في الأيام الفائتة، ولم نستطع أن نجازف بدفنهم في الخارج حتى لا يتسرب إلينا الإشعاع، ولم نستطع تركهما ليتعفنا في وسطنا، لحسن الحظ كان مستر جاك عمليا، قام بتصنيع سائل تحنيط بدائي من أغراض مخزن الأطعمة، ووضع الجثث في إحدى الثلاجات.
رائحة العطن الخانقة أصبحت سمة مميزة في المكان فلا توجد وسيلة تهوية، لحسن الحظ أن الغرفة بها دورة مياه مرفقة، بئر تم تغطيتها بالأسمنت كيفما اتفق، بدون وسيلة تصريف للفضلات، مرحاض بدائي لكنه كان يؤدي الغرض.
اعذرني، لقد نسيت أن أعرفك بنفسي، أنا مايكل غروننبيرج، وهذه مذكراتي التي شرعت في كتابتها على سبيل تزجية الوقت، لا أعرف إذا ما كان هناك شخص ما سيقرأ حروفي هذه في يوم ما أم لا، ربما نحن الوحيدون الناجون بعد الانفجار العظيم.
هناك سبب آخر دفعني لكتابة مذكراتي أسره لك في أذنك، أعتبرها رسالة من الماضي ووثيقة أطلانطس المفقودة، إذا ما قضينا في مخبئنا هذا، عسى أن يأتي عالم آثار بعد مئات السنين ينبش تحت ركام الصخور، ويجد هذه الأوراق تفسر له ما حدث في تاريخهم وسبب انقراض أسلافهم.
من حقك أن تعرف كل شيء حتى يروى فضولك، وتروى قصتنا للأجيال التالية، فلن أبخل عليك بالثرثرة.
قبل خمسة أعوام بدأ الإعلام يتناقل أخبارا مرعبة عن فيروس قاتل نشأ في الصين وبدأ ينتشر في آسيا سريعا، لم يكن الأمر مخيفا وقتها، فالصين في الطرف الآخر من العالم، ونحن آمنين إلى حد كبير، وخلال شهر فقط بدأت الأخبار تتناسل تترى عن أن الفيروس اجتاح أستراليا، وأفريقيا، وأوروبا، ولم يبد أن هناك شيء يستطيع كبح جماحه، ثم وصل إلى الولايات المتحدة، مخلفا وراءه دربا طويلا من الجثث، لم يكن يجامل أو يهادن؛ فهو يضرب الكل بلا استثناء، الرؤساء والشعوب، والأغنياء والفقراء، والبيض والسود.
قامت الدول بإغلاق حدودها وعزل الناس في المستشفيات والبيوت، وراحت أجهزة الإعلام تنقل لنا في بيوتنا صور المدن الخاوية كمدن الأشباح، وبدأت المعامل ومراكز البحوث في مسابقة الزمن من أجل تطوير لقاح>
كانت أياما عصيبة حقا، لكننا كنا نحقق بعض الانتصارات في محاصرة الفيروس ، ورويدا رويدا بدأ عدد الإصابات يقل، وازداد عدد المتعافين.
حتى كانت ضربتنا القاصمة للفيروس عندما توصل العلماء في روسيا إلى لقاح للمرض.
ولم تمر بضعة أشهر أخرى حتى قمنا بالقضاء على الفيروس تماما، وبدأ الناس يخرجون للشوارع ويرقصون ويشربون ابتهاجا بانتهاء الأزمة، واعتكفت أنا في الكنيسة أبتهل وأصلي للرب شكرا على عظيم عطفه ورعايته لبني البشر.
مر الشهر التالي في هدوء، وعادت الدول تفتح حدودها ومجالاتها الجوية، وبدأت الحياة تعود لطبيعتها.
لسوء الحظ لم تدم فرحتنا بالنجاة كثيرا؛ فقد حملت لنا الأيام التالية الخبر الصادم.
2
أبريل، 2031-65 يوما على العزل. «مريم أيتها القديسة، صلي لابنك الحبيب، لأجلنا وأجلهم حتى تمام الخلاص.»
منذ يومين أصيبت نانسي بنوبة ذعر هستيرية غير مسبوقة.
كنا نياما، واستيقظنا فزعين من أثر صراخها الفظيع، كانت تبكي وتصرخ بصوت متهدج بأنها لا تستطيع التنفس، وتضرب الباب الفولاذي بقبضتيها حتى أدمتها في محاولة للخروج، هرعنا إليها أنا والطبيب جاك، والمهندس (عرفت مؤخرا أن اسمه كلاود) نحاول تهدأتها لكنها كانت كالقط الثائر، صفعت جاك على وجهه ورفستني أسفل بطني حتى سمعت الهواء يصفر من أذني، وكدت أسقط مغشيا علي، وراحت تخمش وجوهنا بأظافرها وهي تعوي بطريقة مخيفة، انفجر الأطفال في البكاء، بينما احتضنتهن النسوة وهن ينظرن لها في رعب بالغ.
كان الوضع جنونيا.
أمرنا الطبيب جاك بتكبيلها بالقوة، ثم قام بغرس حقنة مهدئة في ذراعها، وهي تتلوى بعنف، مرت دقيقة حتى لانت حركتها، ثم غطت في نوم عميق، حملناها في عناية حتى وضعنها في أحد الأفرشة المتناثرة على أرضية الغرفة، ووقف جاك يلهث بينما وضعت يدي على جبينها وقرأت لها قليلا من الكتاب المقدس لطرد الشياطين والأرواح الشريرة.
إن العيش لشهرين كاملين في مساحة ضيقة كهذه يثير الأعصاب حقا، من الصعب أن تتحمل أن تنام وتصحو على ذات الكتل الإسمنتية المحيطة بك دون أن تتأثر، وأصارحك أنني قد بدأت أشعر بالاختناق أيضا، لكنني أحاول التماسك، حتى لا أثير ذعرهم.
كان المهندس الفرنسي كلاود يقف أمام غرفة الطعام، أشار لي وللطبيب جاك برأسه وعلى وجهه نظرة غريبة، فهرعنا إليه متوجسين، انتحى بنا جانبا وقال هامسا بإنجليزية ركيكة: «إن الأوكسجين يقل بإطراد، لقد فقدنا أكثر من ثلث الهواء النقي منذ بداية العزل، وخلال أيام معدودة سنموت اختناقا إن لم نجد حلا بسرعة، هناك شيء آخر!»
وأشار للمخزن وأضاف: «المؤن تتناقص بشكل كبير، ما تبقى لن يكفي لأكثر من شهر على أقصى تقدير إذا استمر الأمر على هذا المنوال.»
أطلق جاك سبة بذيئة، ثم انتبه لوجودي فنظر لي نظرة معتذرة، هززت رأسي بمعنى «لا عليك»، وسألت كلاود: «ماذا تقترح؟» - «يجب أن نحد من استهلاك الماء والطعام لأقصى حد، نعطيهم ما يحافظ على حياتهم فقط.» - «ماذا عن الأوكسجين؟» - «سأفكر في شيء ما.»
وعاد كل منا إلى فراشه وقد توحدت أفكارنا وهواجسنا.
سأستكمل لك ما انقطع.
قال العلماء إن الفيروس قد تطور وعاد أكثر شراسة وعنفا، وأسرع انتشارا، في البداية عاد الفيروس للظهور مجددا عند المرضى السابقين بعد أن تعافوا، ثم بدأ في الانتشار للأصحاء، قالوا إنه يهاجم الجهاز التنفسي والكليتين، ثم يدمر الجهاز المناعي في يومين على الأكثر، ويقتل ضحاياه اختناقا.
أغلقت علي باب الكنيسة، وظللت أشاهد عبر النوافذ الزجاجية في رعب ذلك الهول الذي يحدث في الطرقات، رجل يمشي مترنحا وهو يمسك عنقه في ذعر ويشهق بحثا عن الهواء، ثم يسقط على الأرض ويتلوى في مشهد مؤلم، ثم تستكين حركته ويموت، فتاة، طفل، مراهقون ... كانوا يموتون بالعشرات، بالمئات، بالآلاف!
يا إلهي، عندما أتذكر تلك الأيام!
مريم أيتها القديسة، صلي لابنك الحبيب.
امتلأت الكنائس واكتظت بالبشر كما لم تفعل من قبل، وبدأ الناس يعودون للرب أفواجا ويستجدونه أن يحفظ أرواحهم وأرواح أحبائهم، كان هذا خطأ مريعا بالطبع، فقد تفشى المرض بينهم كما النار في الهشيم.
لم يعد اللقاح مجديا، قال العلماء إن الفيروس يتلاعب بالجميع، ويقاوم أي لقاح يتم إيجاده، وأنه أذكى منا جميعا، قالوا إنه يحدث طفرات دورية ليتغلب على أي شيء يمكن أن يحد منه. أما الشيء المرعب والذي أثار حيرة العلماء أن كل الفيروسات المنتشرة في أجساد المرضى تقوم بذات الطفرة في الوقت عينه ... وكأن هناك رابطا خفيا تتواصل به مع بعضها البعض، لذلك كانت الطفرات مدمرة، ولم يعد من الممكن احتواؤها.
وظهر عالم بيولوجيا عجوز مرهق عبر شاشات التلفزة، ليقول للشعب الأمريكي عبارة اشتهرت لاحقا وأصبحت سمة نهاية العصر. «إنها القيامة يا سادة، هذا الفيروس شيطان مسلط علينا من السماء، الأمر خارج نطاق قدرتنا ولم يعد من شيء نقدمه لكم، فليتوسل كل منكم إلى الإله الذي يعبده، إن لم يتدخل الرب فنحن لا محالة هالكون.»
بالفعل كان شيطانا.
بدأ الناس يتساقطون في الطرقات كالذباب، وقل هامش النجاة للمصابين حتى صار صفرا، فكان كل من يصاب بالفيروس يموت في غضون يومين أو ثلاثة كحد أقصى.
عادت صفارات الإنذار تدق في الطرقات، وطالبت الحكومة الناس بالبقاء في منازلهم، لم يمر أسبوع آخر حتى أعلن البيت الأبيض عن إصابة رئيس الجمهورية وزوجته بالفيروس، وتوفيا بعد يومين.
هنا بدأ الجنون الحقيقي، بدأت وسائل الإعلام تنقل لنا أعمال السلب والنهب التي تعم البلاد، فرغت محلات السلاح، وسادت الفوضى، وعم الهرج والمرج.
أغلقت الولايات حدودها على نفسها، وتم تكليف الجيش لأول مرة في التاريخ بحكم البلاد، فانتشرت القوات المدججة والدبابات في الطرقات، فرضت حالة الطوارئ، وتم حظر التجمعات، وراحت الطوافات تحلق فوق الرءوس لترش المعقمات على المدن وتراقب التجمعات البشرية. وراحوا يطلقون النار في الرأس مباشرة على كل شخص يضبط خارج منزله.
لم يفلح كل هذا.
كان الوضع يتسارع بطريقة جنونية، عمت الاضطرابات الطرقات، وبدأ الجيش يواجه حرب عصابات في الشوارع.
في الشهر الأول من عودة الفيروس مات أكثر من عشرين ألفا من البشر حول العالم، ثم عشر ملايين في الشهر التالي، ثم مائة وعشرون مليونا في الشهر الثالث، ثم مليار في شهره الرابع، كان الفيروس يضرب في كل الاتجاهات، ويكتسح الدول بعنف وقسوة، لا يستثني إنسانا أو حيوانا.
بعد انقضاء العام الأول، أباد الوباء أكثر من ثلثي البشرية، محيت قارات من الوجود عن بكرة أبيها ، في البدء سحق الفيروس أفريقيا، ثم أمريكا الجنوبية، ثم أستراليا، ومنطقة الشرق الأوسط، سقطت الحكومات في آسيا وأوروبا، احترق معظمها وعادت إلى زمن العصور الوسطى في أشهر معدودة، عمت المجاعة بعد توقف المصانع وهلاك الماشية، وانتشرت العصابات المسلحة في الشوارع.
وفي الولايات المتحدة توقفت خدمة الإنترنت أولا، ثم انقطعت الكهرباء والمياه عن كامل البلاد، وانعزلنا عن العالم الخارجي.
ظلت الجثث تتكدس في الشوارع حتى أصبحت منظرا معتادا، كان جنود الجيش الذين يرتدون البذلات الواقية يقومون بإحراقها في مكانها في البداية، ثم تركوها كما هي بعد أن فاق عدد الجثث قدرتهم على تتبعها.
وبعد تزايد سيطرة عصابات الملونين المسلحة على المدن، انسحب الجيش بكامل قواته المتبقية وعتاده من كل البلاد، وقاموا بتكوين منطقة آمنة في «لونغ أيلند»، تم جمع من تبقى من الأصحاء فيها، وإغلاق مدخلها الوحيد بالدبابات، وتركت بقية البلاد لمصيرها.
في منتصف العام الثاني بدأت الحرب النووية!
3
أبريل، 2031-75 يوما على العزل. «مريم أيتها القديسة، صلي لابنك الحبيب، لأجلنا وأجلهم حتى تمام الخلاص.»
لقد تخلى عنا الرب.
كان من الواضح أنه قد تخلى عنا وتركنا نواجه مصيرنا مع الوباء لوحدنا، لم تشفع كل صلواتنا وابتهالاتنا وركوعنا تحت قدميه، لم تشفع دموعنا وبكاؤنا وتعلقنا على الصليب، لم يشفع شيء!
أبانا الذي في السماوات فليتقدس اسمك، باسمك أيها الأب والابن والروح القدس اغفر لي خطيئة شكي، وطهرني من الدنس.
لم نفهم ما الذي حدث تاليا، فلم تكن هناك كهرباء أو إعلام ينبهنا، استيقظت ذات صباح على الصوت الهائل للانفجار، ومن نافذة الكنيسة الزجاجية الملونة بالنقوش المقدسة، رأيت في الأفق الشكل المرعب لسحابة عش الغراب المميزة للانفجارات النووية، لا بد أنها سقطت على «إنديانابولس» أو «كانساس سيتي»، بعدها بدقائق رأيت مئات الرءوس النووية الأمريكية تنطلق من قواعدها في اتجاه الشرق، وبدأت الصواريخ تتساقط على الجميع كالمطر.
تناثرت أقوال هنا وهناك أن روسيا والصين هما من قصفونا، بدأ تبادل الاتهامات بين كل طرف بمسئولية الآخر عن صناعة الفيروس عن عمد لتدمير اقتصاد الآخر، قبل أن يخرج الفيروس عن السيطرة، تصاعدت الاتهامات لتراشق عنيف، ثم قرر الجميع أن يمارس الجنون حتى أقصاه، ويقضوا على ما تبقى من مظاهر الحياة.
في البداية قاموا بقصف ما تبقى من قواعدنا العسكرية في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، ثم وجهوا لنا الضربات مباشرة.
لقد قصفوا.
اعذرني، أشعر بالعطش والإرهاق، سأستكمل لاحقا.
4
أبريل، 2031-79 يوما على العزل. «مريم أيتها القديسة، صلي لابنك الحبيب، لأجلنا وأجلهم حتى تمام الخلاص.»
اليوم طلبت مني والدة أحد الأطفال بعض الحلوى لابنها، لا بد أن السكر في دمه قد بدأ في الانخفاض، أخذته إلى غرفة الأطعمة وأغلقت الباب، كان جميلا جدا، أعطيته الحلوى وقمت بعمل ما يتعين علي عمله، ثم أخرجته لوالدته!
توفيت مع ابنها بعدها بساعات!
لا بد أنها سقطت على رأسها لأنها كانت تنزف بغزارة، وكذا ابنها.
5
مايو، 2031-83 يوما على العزل. «مريم أيتها القديسة، صلي لابنك الحبيب، لأجلنا وأجلهم حتى تمام الخلاص.»
يبدو أننا لن ننجو في مخبئنا لفترة طويلة.
لقد فجعنا اليوم بموت جاك الطبيب، لا بد أنها أزمة قلبية أو شيء من هذا القبيل، قمت أنا وكلاود بسحب الجثة إلى غرفة الأطعمة بعيدا عن الأعين المذعورة وبكاء الأطفال وعويل النسوة، لقد خسرنا الطبيب، أكبر امتيازاتنا وأهم فرد في المجموعة.
كان وجه كلاود ممتقعا ونحن نلف الجثة بأكياس القمامة السوداء، ثم أفرغ معدته بجانبي. - «تبا، لا بد أن تتماسك ياكلاود.»
مسح فمه بظهر يده، وجهه محمر كالطماطم ... قال لي بصوت كالبكاء: «ما الذي نفعله هنا؟ نحن نؤجل المحتوم فقط لا غير!» - «تماسك يا فتى، ليس هذا وقت الانهيارات العصبية.»
لم يكن يسمعني.
راح يردد في هيستريا وهو يعب الهواء بصعوبة عبر فمه: «سنموت اليوم أو غدا، لا يهم، المهم أننا سنموت، لا يوجد سوى الموت يترصدنا في الداخل والخارج، فإما الوباء والإشعاع، أو الموت البطيء جوعا ومرضا.»
قمت بتوجيه صفعة قاسية له ليكف عن العويل، توقعت أن يصمت ويستفيق كما كنت أرى في الأفلام دوما، لكنه نظر لي في توحش، عيناه الزرقاوتان تتسعان في جنون ، ثم قفز علي حتى أسقطنى أرضا واعتلاني وهو يطبق يديه على عنقي في غل، وهو يصرخ: «دعنا نخرج أيها المريض اللعين!»
وراح يهذي بكلام كثير بالفرنسية، لا أحتاج أن أتعلم الفرنسية لأعرف أنه يشتمني بأقذع الألفاظ، من الصعب أن تحافظ على انضباطك اللغوي وقواعد الترجمة عند الغضب الشديد.
كانت سكين تقطيع الفاكهة بجواري، أمسكت المقبض بيد مرتجفة وأنا أشهق من أجل الهواء، فلا تخرج سوى حشرجة مكتومة مؤلمة، طوحت بيدي في الهواء ثم غرست النصل في عنقه بقوة، مرت ثوان كأنها دهور وهو لا يزال يحكم قبضتيه على عنقي، فجأة تراخت يداه ثم تهاوي بجانبي كبالون مثقوب.
المزيد من الدماء، تبا لكل هذا.
سيتعين علي التعامل مع جثتين بدلا من واحدة الآن.
سأكف عن الكتابة وأنام قليلا الآن.
6
أكتوبر، 2031-250 يوما على العزل. «مريم أيتها القديسة، صلي لابنك الحبيب، لأجلنا وأجلهم حتى تمام الخلاص.»
لقد حدثت أشياء فظيعة في الأيام السابقة.
لقد مات الجميع، ولم يبق سواي أنا و«ونانسي».
انتهى الماء والطعام منذ شهرين تقريبا، مات الطفل في الأسبوع الأول، ثم الشابان المراهقان ثم من تبقى من النسوة، أما «مارك» الأستاذ الجامعي فقد قتلته أنا بعد أن حاول الهروب من المخبأ، حاول بكل أنانية تعريض سلامة الجميع للخطر من أجل رغبته الشخصية، فاضطررت آسفا لإزهاق روحه فداء لحياة البقية ونبوءة المقدس، على كل حال هذه تفاصيل أنا في غنى عن سردها الآن.
لعلك تتساءل متعجبا عن كيفية نجاتنا أنا «ونانسي» طيلة شهرين كاملين بدون ماء أو طعام.
حسن، لست فخورا بهذا على نحو خاص، لكن أحسبني قد اتخذت القرار الصحيح فيما يخص هذه المسألة، ربما قرأت من قبل عن طائرة الفريق الرياضي التي سقطت في جبال الإنديز، ولم يجدوها إلا بعد مرور عدة أشهر، وبرغم هذا وجدوا بعض الأحياء، كيف عاشوا؟
إن غريزة الحياة تدفعنا لارتكاب أشياء فظيعة أحيانا في سبيل استمرارنا.
لم يكن القرار سهلا في البداية، إن أكل لحوم البشر شيء مقزز، وشرب الدماء من أجل إرواء العطش لا يقل سوءا، لكن هل لدينا خيار آخر حقا؟
كما قلت، لست فخورا بما اضطررت لفعله، لكن لا بد من إبقائنا أحياء حتى عودة الرب.
لم توافقني «نانسي» في البداية، وظلت تصرخ وتضرب وجهي كالقط المتوحش، وتتوسلني باكية لأسمح لها بالخروج ومواجهة مصيرها في الخارج، ثم فقدت وعيها مرات عديدة، وأصابها الهزال والمرض، في النهاية لم يعد من مفر، فإما هذا أو تموت هي كذلك.
لن أسمح للفيروس والإشعاع أن يتسربا للداخل، بعد أن أمضيت عدة سنوات أبني هذه الغرفة الحصينة، كما لن أسمح بموت «إيف» بعد أن وصلنا إلى هذه المرحلة.
سنبقى هنا وننتظر.
7
فبراير، 2032-373 يوما على العزل. «مريم أيتها القديسة، صلي لابنك الحبيب، لأجلنا وأجلهم حتى تمام الخلاص.» «اليوم وصلت إلى ربك يا مايكل، اليوم تولد من جديد، مطهرا من كل دنس وخطيئة، فاليوم اخترتك على علم من عندي، هي ملكك وأنت سيدها، معا تقيمان كنيسة الرب الأولى، ومعا تغرسان بذرة عباد الرب من جديد.» •••
لقد حان وقت الخروج يا «نانسي».
زارني الرب في المنام مجددا، تكرر الحلم المقدس وتحققت النبوءة.
أذن لنا الرب بالخروج بعد عام من المسغبة، قال لي بصوته المقدس أن الأرض تطهرت من رجسها، وأضحت مهيأة للخروج العظيم، وإعادة تعميرها من جديد.
تلاشى الإشعاع وانتهى الوباء بموت آخر إنسان على وجه الأرض، ومن أجل البناء لا بد من الهدم، أعادت الأرض تنظيف نفسها من درن الإنسان، أسوأ فيروسات الطبيعة وأكثرها شرا وكفرا، بعد أن لوث البيئة، وسفك الدم، وأشاع الظلم، ونشر الرجس والانحلال الأخلاقي.
اغتر ابن التراب من تطوره التكنولوجي والعلمي، فطغى وتجبر ونصب نفسه إلها، وكفر بالرب وسخر من دينه.
تحققت النبوءة، وأرسل الرب إليهم المسيح الدجال، فيروس قاتل من صلبهم، قضى على كل شيء، ونسف غرورهم الهش، ومهد الأرض لعودة المسيح.
آن أوان الخروج يا «نانسي».
آن الأوان لتعود راية المسيح ترفرف من جديد وسط مجتمع جديد، سينشأ من بين حطام من سبقوه، مجتمع مؤمن متوحد ليس فيه كافر، أو مجدف ، أو مهرطق، أو بوذي، أو يهودي أو مسلم.
لم يبق في الأرض سوانا يا «نانسي»، ومعا وبهداية الرب سنعيد تعمير الأرض كما فعل آدم وحواء أول مرة.
آن أوان الخروج يا «نانسي».
لقد بذرت فيك بذرتي، في أحشائك بذرتها، باسم الاب والابن والروح القدس، فليتقدس اسم الرب، في كل الأماكن وكل الأزمان، وليتقدس ابني النبي المولود، المتجسدة فيه روح المسيح العائد.
بذا تنتهي مذكراتي، وكتابي المقدس للأجيال القادمة.
أنا مايكل جروننبيرج.
أبو البشرية، وأول أنبياء الخروج العظيم. (تمت)
بعد عام من لغز اختفاء مفقودي نيويورك الأربعة عشر
تفاصيل صادمة: رجل دين كاثوليكي يختطف مجموعة من الرهائن
نيل تيرانس - نيويورك تايمز.
ألقت شرطة مدينة نيويورك القبض على القس «مايكل جروننبريج»، قسيس كنيسة (...) بعد أن تمت مشاهدته وهو يسحب امرأة تحت تهديد السلاح في الطريق العام.
وأفاد الرقيب «ديلبرت ستيوارت» رئيس الدائرة (87) في شرطة نيويورك، أن الناجية الوحيدة من قبضة السفاح «نانسي ج. ميلر»، والتي تم إدخالها للمستشفى مؤخرا إثر حالة بدنية ونفسية سيئة للغاية، أدلت للشرطة بإفدات صادمة، عن اختطاف وقتل جروننبيرج لثلاثة عشر فردا من رواد الكنيسة واحتجازهم في قبو منزله لعام كامل. «كان مختلا» تقول نانسي، وتضييف أنه كان يغتصبها بصفة يومية ويرغمها تحت تهديد السلاح على أكل لحوم الموتى، كما أنه كان يغتصب الأطفال ثم يقتلهم مع أمهاتهم، ويمارس الجنس مع الجثث.
رجل الدين المذكور يواجه تهما متعددة تشمل القتل والاختطاف والتعذيب والاغتصاب.
مزيد من التفاصيل ص3
القصة المملة التاسعة: العاهرة
أحيانا، يأتيك الشخص المناسب، في أكثر الأوقات سوءا.
مشهد أول (ينزاح الستار.) (خلفية سوداء وبقعة ضوء مسلطة على امرأة تعتلي المسرح.) (صوت كمان حزين في الخلفية.) (تصفيق.)
عاهرة! خائنة! فاسقة!
هي أسماء سميتموها، لا تعنيني في شيء، كلمات تطلق في الهواء لوضع الناس في قوالب جامدة، لكن في واقع الأشياء فالأوصاف الجاهزة لا تصف إنسانا ولا تصنفه، لا يوجد أسود وأبيض فيما يخص البشر، فنفوس الناس تسبح في الطيف الرمادي طيلة الوقت، من السهل أن تطلق الأحكام ثم ترتكن إلى نفسك، لا يكلف أحد نفسه لفهم دوافعك الخفية وأسبابك لفعل الشيء، لا يغوص معك عميقا في ذاتك، ليفهم ما فعلت.
الشخص المناسب لا تحتاج وقتا حتى تعرفه، وقد عرفته من الوهلة الأولى التي رأته فيها عيناي، في مثل عمري، أنيق وسيم، يرتدي ملابس سوداء بالكامل، خفق قلبي بقوة عندما تلاقت عينانا في لحظة كخطف البرق، اضطربت في مجلسي وارتعش صوتي، زوجي وأطفالي لم يلحظوا اضطرابي بينهم، سوى تعليق عابر من زوجي يقترح أنني أعاني مشكلة في معدتي لتغير لون وجهي، عندما عدت معهم للمنزل شعرت نفسي غريبة بينهم، كأني أدخله للمرة الأولى، وخلال الأيام التالية ظلت صورة الرجل بالملابس السوداء تعشش في ذهني وتقفز أمام ناظري حتى أرهقتني، نظراته الحادة، وابتسامته الدافئة الناصعة، تظهر جمالها ملابسة الداكنة، رأيت وجهه في وجه زوجي في ذات المساء، وهو يعتليني على فراش الزوجية وأنا تحته شيء جامد، أنظر له في تقزز في انتظار أن يفرغ ما فيه، ولما ارتمى بجانبي هامدا وارتفع صوت شخيره انسللت للحمام وبكيت.
لا أعرف لماذا، لكنني شعرت أنني ملوثة بالخطيئة حتى أخمص قدمي، ظلت تحت الماء لساعات أغسل عني درن لمساته.
مشهد ثان (ينزاح الستار.) (خلفية سوداء وبقعة ضوء مسلطة على امرأة تعتلي المسرح.) (موسيقى متصاعدة في الخلفية.) (تصفيق.)
نادمة!
لا ليس حقا ... لا يستشعر الندم إلا من وعي أصل الخطأ، وأنا لم أخطئ ... هذا ما أشعر به في قلبي وما يمليه علي ضميري.
تعمدت أن أزور ذات المطعم بانتظام عسى أن أكحل عيني برؤيته مجددا، كانت لحظات كالحلم عندما رأيته مجددا، رأيت ابتسامته الدافئة تقترب مني، جلس قبالتي وتحدث بصوت رجولي عميق، كاد قلبي يقفز له من بين ضلوعي، تحدثنا كصديقين قديمين، وضحكت من أعماقي عدة مرات على دعاباته اللطيفة، حكى لي عنه، قصص حبه القديمة، والداه وأخوانه، عمله، آماله وطموحه ومخاوفه، قصصت له كل شيء عني، استمع لي باهتمام، أخبرني أن كل شيء سيكون بخير، مضى الوقت بسرعة دون أن أشعر به، كان مألوفا، شعرت أنني أعرفه منذ سنوات، وسرت قشعريرة باردة في جسدي، عندما أمسك يدي ليعينني على النهوض لنغادر معا، كان كل شيء كالحلم.
وفي ذات المساء دخلت معه منزله، توقفت أمامه للحظات أتأمل وجهه المبتسم وأتحسس ابتسامته بأطراف أصابعي، خلعت ملابسي ببطء متعمد حتى أطيل استمتاعي باللحظة قدر الإمكان، توقفت أمامه عارية وقربت حلمة صدري المكتنز من وجهه فالتقمه بين شفتيه بلا جهد. وريد صغير ينبض في جنون بين فخذي، وتوتر شبقي محموم يندلع هناك ويبلل المكان تعطشا لولوج قضيبه. بركان هائج يعصف في جسدي، وتسري حممه في أوصالي، قلبي يخفق بلا هوادة، وأنفاسي متسارعة محمومة.
أفلت صدري واحتضنني فذبت بين ذراعيه كقطعة من الثلج، أشعر بملمس يديه القويتين تتحسس صدري وبطني وتتسلل إلى ما بين ساقي، أتحسس قضيبه المنتصب بيد ترتجف شبقا، انسحبت منه للأسفل وجثوت على ركبتي أمامه، أغمضت عيني وأولجته في فمي، تذوقته كما يتذوق السكران كأسا من النبيذ بعد طول انقطاع، حملني للسرير حملا واعتلاني في هياج.
الموجودات تدور أمام عيني ثم تتركز، قلبي يخفق بعنف ودمائي كأنها تفور في أوردتي، أغمض عيني للحظات وأشهق من فرط اللذة، ثم أفتحهما في نصف إغماضة كالمنومة لأرى وجهه الجميل على مقربة مني. أمسك مؤخرة رأسه وأجذبه إلى لأرشف رضاب شفتيه، بقوة وتوحش، ثم أطلق صرخات لا إرادية، وأغيب عن الوجود مجددا، أشتم عبق رائحته بشهيق طويل، خليط آسر من رائحة السجائر وعطر رجولي يدغدغ الحواس، وفي لحظة أنينه الطويل وارتجافة جسده عند وصوله إلى أقصى اللذة، ضغطته على جسدي بفخذي من خلف ظهره بلطف، ولففت ساعدي حول ظهره لأحس ارتعاشاته المتقطعة تتخلل جسدي، وأحس سخونة مائه في أحشائي.
لحظتها، شعرت بامتنان قوي ناحيته، حب قوي جارف، تمنيت لو أمنحه كل شيء، ليس جسدي فقط، في تلك اللحظة المتجمدة من الزمن.
عندما استلقى جواري بعدها واحتضنني بين ذراعيه وقبل شفتي قبلة طويلة، لم أكن أكثر سعادة في حياتي كما كنت في تلك اللحظة، لم أحس بالخطيئة وقتها، في الواقع كان شعوري على النقيض أنني في مكاني الطبيعي، وبرغم أنني متزوجة من عدة سنوات خلت، كانت تلك المرة الأولى في حياتى التي أصل فيها لتلك النشوة وأحس تفاصيل الجنس، أستشعر ذلك الخدر اللذيذ في كل كياني وأنا أمرغ أنفي في صدره في تكاسل لأحتفظ بعبق رائحته في ذاكرتي.
أحيانا يأتيك الشخص المناسب في أكثر الأوقات سوءا، أعرف هذا، لكنني أحببته بكل جوارحي بلا حيلة مني، وليس بعد هذا الحب ذنب، وجدت نفسي معه منذ البداية، وقعنا في حب بعضنا من المرة الأولى، حبا جارفا مجنونا بلا قيود.
كان كالغيث يهطل بغزارة، وأنا صحراء جدباء تستجدي المطر.
مشهد ثالث (ينزاح الستار.) (خلفية سوداء وبقعة ضوء مسلطة على امرأة تعتلي المسرح.) (صوت كنائسي خفيض في الخلفية.) (تصفيق.)
خائنة!
ربما كنت أخون زوجا، لكنني لا أخون نفسي.
لا أحد يفهم مأساة امرأة تتنازعها نفسها بين رجلين، رجل ارتبطت معه بشريعة الزواج والبيت والأطفال، ورجل ارتبطت به بشريعة القلب.
امرأة تعيش أمام الناس كما ينبغي لها، زوجة وأم وجارة، ثم تهرب بعيدا عن أعين الناس لتعيش لحظات من المتعة المحرمة كفتاة مراهقة بين أحضان حبيبها.
العاشق لا يكذب قلبه، تحب المرأة رجلها بكل حواسها، وتمنح نفسها له كتعبير عن هذا الحب، شيء محسوس تترجم به حواسها ومشاعرها تجاهه، وبهذا المنطق فقد كنت أرى نفسي امرأة عاشقة، وليس زانية أو خائنة.
الزواج أحيانا يسجن المرأة، يحكم تصرفها ويقرر مصيرها ويستلب شخصيتها وتفردها، يقتل روحها ويفرغ ذاتها من كل شيء، كل النساء عبدات عدا قلوبهن، لا يمكن أن تسجن القلب بأي شرع أو قانون، فهو لا يفهم الشرائع ويتمرد على القيود، يصرخ بما يريد بدون مراعاة لشيء، ضجيج الحب هو صوت الله الهامس في دواخلنا، وبوصلة أرواحنا، والعشق قوة تسيرنا وتغمر قلوبنا وتربطها بمن تأنس له.
لا حيلة لنا في قلوبنا، كما لا حيلة لنا في عشق من نحب.
ما أسميه بيتي هو سجني، وزواجي كان عبوديتي، أهيم بين الناس كالشبح، وعندما أرتد إلى نفسي ليلا لا أجدها ، تلاشت روحي وسط روتين حياتي، توقفت حياتي في اللحظة التي أصبحت فيها شيئا إضافيا مع متعلقات المنزل، ضاعت مني نفسي وأنا أؤدي دوري كزوجة وفية تهتم ببيتها وزوجها، وأم تربي أطفالها على مكارم الأخلاق، فقدت طفولتي وفي غمرة بحثي عن ذاتي ظهر في حياتي كالمنقذ، انتشلني من نفسي وأنا أصارع سكرات الغرق، ظهر في حياتي كهبة من السماء، خفق له قلبي للمرة الأولى منذ سنوات ولم يصمت من بعدها، فاتبعته بلا تفكير.
قانون البشر يخطئ ويصيب، وقانون القلب لا يكذب، وعلى غير المتوقع لم أكن أشعر بالعهر إلا بين يدي زوجي، أؤدي له حقه في جسدي كجثة هامدة، حتى لا يبغضني الله وتلعنني ملائكته، أقوم من تحته وأشعر بالقذارة تتخللني، وعندما أسترق بعض الساعات من دوامة يومي، وأزور حبيبي في مخدعة أنسى كل شيء وأعود امرأة جديدة، امرأة كاملة يتفجر قلبها حبا، بين ذراعيه تشتعل كل جوارحي، وأحس معاني جديدة للاشتهاء عندما تلتحم أجسادنا في تواصل جنسي حيواني محموم.
كانت أوقات حالمة تلاشت كما بدأت أول مرة، بعد عدة أشهر فقط أفقت من حلمي الطويل على نبأ تسرب خبر علاقتي المحرمة إلى زوجي، طلقني وأخذ مني أبنائي، كرهني أهلي، ولفظني الناس، صديقاتي وجاراتي، أرى نظرات الرجال الوقحة المقتحمة، وأسمع همهمات همس النساء عندما أمر بهن في الشارع، أعادوني إلى منزل أسرتي كعار يستوجب الغسل، وفضيحة لا بد من إخفائها، العاهرة التي خانت زوجها ومرغت رأس أهلها في التراب، كراهيتهم تضج في أعينهم، وفي أصواتهم الزاعقة، وسوء معاملتهم المستمر، أصبحت سجينة منزلي، لا أخرج، لا أقابل أحدا، لا أغادر غرفتي، كالملعونة، مطرودة من رحمة الله وعطف الناس.
تتقلب الأيام وتمضي آسفة، مضى الأمس كما يمضي اليوم كما سيمضي الغد، أقضي الأيام على سريري أغرق في دموعي حتى أصابني المرض والهزال، أجاهد حتى لا أفقد صوابي، وأدعو الله كل مساء يأتيني أمره فأريح وأستريح.
وأنقب في ذاكرتي متسائلة طيلة الوقت، هل أخطأت؟ هل كان ذنبي أنني قد أحببت؟ فما حيلتي في قلبي ؟
أليس الحب قانون الله يقذفه في قلب من يشاء، بلا منطق أو أسباب، تتلاقى الأرواح وتتجاذب فلا نملك إلا الانصياع.
نادمة!
لا لست نادمة، قد سحرني العشق، أسكرني الحب وتلونت في نظري الحقائق وتشوهت مفاهيم الصواب والخطأ، أحببت رجلا ليس لي، رجل أعاد لي نفسي وأزهرني من جديد بعد طول انطفاء، حياتي ليست سوى تلك اللحظات المسروقة التي عشتها بين ذراعيه، نرشف معا لحظات حبنا المحرم، وما عداها دور كنت أؤديه على مضض.
وإن استطاعوا أن يسجنوا جسدي فليس لهم سلطان على قلبي، قلب يشتاقك صباحا، ويحن لك ليلا، ويظل يرفل في حبك حتى مماتي، لا تغادر القلوب أعشاشها ولا ينسى المحب من أحبه.
إذا كان خاطئا ما أفعله، فقل لي بالله عليك لماذا لا أشعر بخطيئتي؟ (ينطفئ الضوء ويعم الظلام المسرح.) (تصفيق.)
ينغلق الستار. (تمت)
القصة المملة العاشرة: سيدي الطائر
لهذا يا سيدي الطائر لا أؤمن بالتاريخ، كلهم كاذبون.
كلهم منافقون مدعون، مجرمون وقتلة.
1
هل انتهى دوري في السيجارة؟ خذ يا صديق.
عينا «بكري» محمرتان محتقنتان بالدم، يأخذ مني السيجارة في تراخ. ينفث الدخان في بطء وتلذذ. يبلع الدخان ويحبسه في صدره لبرهة، تزداد معها عيناه جحوظا واحمرارا، ثم يخرجه دفعة واحدة مع سعال طويل متقطع، يسترخي أكثر في جلسته على الأرض، وتسبح عيناه مسبلتان في الحائط المقابل، يرى فيه ما لا أراه. - «البنقو ده نضيف يا مان.»
يقولها ذاهلا، أهز رأسي مؤكدا.
هذا الحزن الذي يطل من خلف جفوني المسبلة محصلة كل شيء.
هذا الشحوب الذي يعتري ملامحي كان حتميا.
وكل ما تمنيته، من أضع رأسي على صدرها وأشكو لها كل شيء.
سأحكي لها عن الطفل الشرير الذي قابلني في استراحة الإفطار في المدرسة وسرق غدائي، عن البائع النصاب الذي خدعني بالهاتف المعطوب، عن الشرطي الذي ضربني في مركز الشرطة بكل غل الدنيا، عن أرقي الدائم، ونوبات الصداع، عن الشعور الممض بغربتي عن ذاتي، وإحساس الضياع المخيف الذي يلف كهولتي.
لم أكن أطلب شيئا كثيرا، فقط من تستمع لزفراتي المتعبة، وشكواي، ثم تخبرني بأن كل شيء سيكون بخير، غدا ربما، أو بعده، فنم أيها الطفل السخيف.
لا زلت أحمل، بعض متاع، من ذكريات علاقة غابرة، و«سارة» عندما تصل إلى النشوة تحتضنني على صدرها المكتنز بقوة، وتتأملني بنصف عين، نظرات ممتنة، لم أكن أكثر سعادة طوال حياتي كما كنت في تلك اللحظات، خلال ثلاثين عاما أو يزيد، ظللت أبحث عن ذلك الشعور مجددا، بلا نجاح.
دوما ما كنت الصدر الحاني، والحائط الذي يستندون عليه عند تعثرهم، يطالبونني بأن أكون بالغا، أنا مجرد طفل سخيف يرهب المستقبل والموت، ويبحث عن إمرأة بديل أمه ليرتمي على حضنها باكيا، لكنني أجيد التظاهر بأنني لست كذلك.
سيرونك مذنبا أن تأخذ، بعد أن تعود منك الناس العطاء.
سأحكي لها عن عبثية الحياة، وجمال الموت، وعن كفري بالحب.
سعل «بكري» مجددا، أكد قوله السابق: «البنقو ده نضيف يا مان.»
هبط طائر على حافة الحائط الطيني، رأيته يحط قبالتي عبر فجوة الباب الخشبي، نظر لي في هدوء، نفض ريشه، قلب وجهه يمينا ويسارا بسرعة.
حركة تقلب رأسه كإيقاع موسيقي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
أهز رأسي في بطء منتشيا مع الوقع الموسيقي لحركة رأسه، يهمس لي بشيء في أذني، أنظر له في ذهول، ترتجف شفتاي تأثرا، وتترقرق عيناي بالدموع.
قال لي: «ليس خطأك.» ثم طار مبتعدا.
أنت أكثر من يفهمني أيها الطائر.
الحب شعور كريه، أكذوبتنا الأولى على أنفسنا منذ فجر الميلاد، كأكاذيب مسيلمة، وأكاذيب الحبيبات، وكذبات الخاشعين الراكعين في محاريب الله، كذبة انتعلناها عمدا لنوجد لذواتنا معنى يبرر بقائنا واستمرارنا في الحياة يوما آخر، والخدعة الأعظم على مر التاريخ، التي جادت بها قريحة الرجل؛ ليحصل على جسد الأنثى مجانا.
الحب ضعف، تمظهر آخر لقلة ثقتك بذاتك التافهة، واعترافك الضمني بهشاشتك، أنك تحتاج إلى آخر لتكتمل؛ لأنك لست كافيا بنفسك لنفسك، في الواقع، لن تكتمل بآخر أو بدونه.
وكما المورفين، وهم كيميائي جميل، تعيشه وتصدقه، يكون شعور الحب كتأثير جانبي لحشد الهرمونات والأنزيمات التي تعبث بخلايا دماغك، وككل الاضطرابات السلوكية واعتلالات المزاج، يكون شعور الحب مجرد اختلال في اتزان ناقلاتك العصبية، مجرد وهم.
الحب وهم!
كما حياتك!
لا بد أن تكون فيلسوفا لتتقبل تفاهتك وتعيش حياتك بطبيعيتها، أن تضاد كينونتك وكل حاجاتك الدفينة التي تشعرك بالوجود، والانتماء، لكنك لن تستطيع، لذلك تهرب من واقعك التعس بأن تصبح فيلسوفا تحوز كل التضاد في دواخلك، وتبرره بلغة رفيعة، أو تتدين، وتبتكر قصصا خيالية، عن عوالم ساحرة تخلد فيها روحك أبد الآبدين، وتصدقها!
يا لحمقك الذي لا ينتهي.
أنت أحقر من أن تعيش في جنة أو تتلظى في نار، مجرد كائن أناني يعيش كبرغوث على ظهر كوكب ضئيل، يسبح وسط حساء حطام كون فوضوي.
حبيبتك تخونك، وزوجتك تشتهي رجلا آخر في ماضيها، وحياتك دورة كيميائية عبثية، بلا غايات خفية من أي نوع، هي الفوضى، كل الفوضى، ولا شيء سوى الفوضى.
أنت مجرد ذكرى خافتة في ذاكرة كون عجوز رأى الكثير.
رأى الملوك، والأنبياء، والأغنياء، والجنود، والآلهة الزائفة، رأى كل هؤلاء يعبرون أمامه، يعربدون قليلا، ثم يختفون، وظل هو!
ستتلاشى كما تلاشى الملايين قبلك، وكما سيتلاشى الملايين بعدك، ومع ذلك تظن أن ليس من بعدك أو قبلك!
ستموت ببساطة وتتفكك إلى عناصرك الكيميائية الأولى، وتذوب في الأرض كأن لم تكن، ستتعفن كأي فأر نافق في زقاق شارعكم الخلفي، فقط، يحسب للفئران أنها أشد نبلا وصدقا؛ إذ لا تملأ الدنيا صراخا ولا تخترع قصصا خيالية لتطمئنها.
سنفارق كل من نحبهم، وسيفارقوننا، هذا حتمي، ثم نبكيهم، وتمر الأيام تدمل جراحنا ببطء لنشفى من ذكراهم وننسى، ننسى! تلك هي الهدنة الخادعة، فقط لتفجعنا في حبيب آخر، تستمر الحياة في صفعنا ومد لسانها الساخر، ونستمر في سذاجتنا بلا حدود.
تديننا وإيماننا بالله ما هو إلا وثنية مبتدعة، كوثنية الإغريق القدامى، عندما حاولوا تفسير ظواهر الطبيعة وكل ما لا يفهمونه بأقانيم خارقة، فمنحوا كل ظاهرة أيقونة رمزية وجعلوها آلهة توجهوا إليها بالعبادة والتوسل .
ولمحدودية عقولنا وسذاجتنا المفرطة خلقنا إلها على هيئتنا، كملوك العصور الوسطى، يضحك ويفرح، يغضب ويكره، يهدد ويهادن، ويفاضل بين مخلوقاته، فيكره النساء، والمختلفين فكرا وعقيدة، ثم يترك كل الكون الفسيح بمجراته وسدمه وثقوبه السوداء، ويتابع باهتمام ما يدور في خلف جدران غرف نومنا، وما نسره في أنفسنا، وما تغطي به نساؤنا شعورهن.
وكما صور اسبينوزا من قبل، أن الإله هو العالم الطبيعي وجوهر الروح والمادة، وأن الإنسان والمادة من خصائصه، وليس الإله المتعالي الذي يشغل نفسه بما يفعله البشر.
ثم قادتنا أنانيتنا المفرطة لاختراع الدين، كما اخترعنا الرأسمالية والقانون، لفرض سيطرة القلة الطفيلية على الأكثرية المنتجة، والتحكم في الجموع بأقل التكاليف، ومسكنا موضعيا لكل الضعفاء، والمتوحدين، والمنبوذين، والفقراء، والساقطين من حظ الدنيا، ليشعروا بالانتماء، ويتصبروا بالأمل الزائف لوهم المكافأة، ومخرج مناسب لتبرير فشل الحكومات؛ فالدين هو آخر ملاجئ الساسة الأوغاد.
الله هو الوعاء الكبير الذي نرمي فيه جهلنا، وكل ما لا نعرفه.
لست كافرا، أنا فقط متمرد.
لست زنديقا، أنا فقط أنطق بما لا تجروء أنت على التفكير به.
الحب والدين، أعظم أكذوبتان للإنسان منذ وعى بنفسه.
هل انتهت السيجارة يا صديق؟ لف لنا واحدة أخرى. «بكري» يخرج أوراق «البرنسيس» من مكمنها، يمرر عليه لسانه المبتل ليلصقها ببعضها، تتحرك أصابعه في مهارة وثقة، يفتت سجائر «المارلبورو» ويخرج أحشائها لينثرها على الورق، يتشمم «البنقو» في عمق، يتذوقه بطرف لسانه، تسترخي ملامح وجهه أكثر فأكثر، ينثر فتات «البنقو» على ظهر الورقه ليختلط بأحشاء «المارلبورو» ويلف الخليط في حرص وإحكام، يشعل السيجارة حديثة الولادة، ثم يمدها لي ويحملق في الحائط مجددا. - «البنقو ده نضيف يا مان!»
ويهز رأسه مؤمنا قوله.
لقد ماتت أمي ولم يعد من شيء يهمني!
لست حزينا، لم أحب أمي قط، ربما كنت فظا لقولي هذا، لكنها الحقيقة!
يعود الطائر ويحط على الحائط مجددا، ينقر بجواره عدة مرات يلتقط شيئا، يقلب وجهه يمينا ويسارا ليتأكد ألا أحد يسمع سرنا، يهمس لي: «وما الحقيقة؟»
أنظر له في ذهول، أنت حكيم يا سيدي الطائر .
ما الحقيقة؟ تسألني؟
الحقيقة هي أكذوبة أخرى، مجرد لفظ نطلقه على عواهنة دون أدنى فهم حقيقي لجوهره، لا يوجد ما يسمى بالحقيقة، حتى اللفظ في إطلاقه استفزاز!
هي وجهات نظر فقط، لا أكثر.
الحقيقة المطلقة رديفة اليقين والإيمان، كلاهما عبث واحتيال، هي مصطلحات وهمية ومضللة في واقعها تصف حالة كسل العقل عن الاستنباط والإدراك، حتى لا يرتد فيتشكك ويهدم ما نعتبره أسسا في وعينا لا تقبل التأويل، كل الأفكار القوية التي تعمل كأساس معرفي في تكويننا ذاته، هي أفكار قابلة للشك والدحض، وحتى أشدها أصالة وموثوقية.
الحقيقة كالعاهرات اللواتي عبرن على سريري عشرات المرات وتباعدت أفخاذهن في الهواء لأبحث عن نفسي بينها، لا يوجد أصدق من العاهرة؛ إذ لا تبيعك الوهم ولا تطلب منك سوى مقابلا لما تعطي، فقط، لا أكثر ولا أقل، لا توجد حقيقة مطلقة، كما لا توجد عاهرة مطلقا، هي عاهرتك، وأم شخص آخر، وزوجة ثالث، وابنة رابع، كل يراها بحسب زاويته، كذا الحقيقة، وجهة نظر!
الحقيقة بحسب منظورك لا تعني بالضرورة حقيقتي، طالما حملت منظورا مختلفا عنك، وحتى أكثر الأشياء ترسخا في يقينك، كوجودك ذاته، ليس حقيقة مطلقة.
لهذا يا سيدي الطائر لا أؤمن بالتاريخ، هو وجهة نظر أحادية للمنتصرين والمدونين بامتداد الزمن، كلهم كاذبون، كلهم منافقون مدعون، مجرمون وقتلة، تلاشوا وتركوا لنا منظورهم الخاص بالواقع والأشياء، منظورهم المزاجي المشوه، باعونا وهما نتلوه في مدارس نشئنا ونلقنه لهم غيبا، لنمسخهم هم كذلك، ونزج بالمزيد من الأغنام إلى الحظيرة، صدقناه على أنه الحق، كل الحق، ولا شيء إلا الحق.
لكن دعني أؤكد لك مجددا، كل شيء نسبي بحسب الزاوية التي تمعن عبرها النظر، وأرشيفك القديم المخزن في تلافيف مخك، وأفكارك المسبقة، وعقدك النفسية، وسواد دواخلك المكبوت عميقا، واتساع آفاق فكرك وثقافتك، كل هذا يتضافر ليصنع منظورك الخاص للحقيقة والأشياء.
وكما قال «لالاند» من قبل، عن الحقيقة، أنها خاصية ما هو حق، وهي القضية الصادقة، وما يمكن البرهنة عليه، وشهادة الشاهد الذي يحكي ما فعله أو رآه، والشيء الأصيل في مقابل المزيف.
لالاند كذلك، ها هنا، يعبر عن حقيقته الخاصة.
يتقافز الطائر على الحائط مجددا، ينظر لي متعجبا، أسمع سؤاله في ذهنه قبل أن ينطق به، نعم يا سيدي الطائر، حتى وجودي ذاته!
أنت لست أنت، بالمعني الحرفي المتجرد من كل إضافات المعنى؛ فوجودك اللحظي شيء مؤقت لسلوك المادة، كل ذرات جسدك المادية تتشكل مؤقتا لتشكل وجودك الحالي، كل خلايا جسدك تموت وتولد من جديد، تغيرت بكاملها منذ طفولتك كما يغير الثعبان جلده، فقط تبقى الذكريات في الدماغ كشيء مرجعي يؤمن لك ثبات هويتك، لذا فإن الماضي وهم آخر، أنت كائن جديد، لست ذات الشخص الذي كنته قبل عامين.
أنت لست أفكارك، هي أشياء تحملها معك كما تحمل أي متاع آخر، لذا من الحماقة أن نغضب على من يحمل متاعا آخر مخالف، الأنا الذاتية مفردة متفردة ومنفصلة عن الأفكار والمشاعر والجسد، كينونتك شيء غير محسوس أو مفهوم، متعال عن كل صفاتك، كل أفكارك، وقناعاتك، ومثلك العليا، ومبادئك، وإلهك الذي تعبد، كل تلك الأسس المعرفية التي تسلم لها نفسك وتؤمن بها بلا نقاش ليست حقيقتك، هل تساءلت يوما كيف ستكون أفكارك لو كنت قد ولدت في مكان آخر؟ الصين أو الهند أو المكسيك أو روسيا!
بالتأكيد ستكون مختلفة جدا عما تؤمن به الآن، لكنك ستدافع عنها بذات الحماس، وقد تموت أو تقتل من أجلها، على أنها الحقيقة، وكل الحقيقة.
أنت، وأفكارك، ومبادئك، وتاريخك، ودينك، نتاج صدفة الجغرافيا، ولا شيء سواها.
نعيش وفق ما نفكر، ونفكر وفق ما نعرف، وما نعرفه، تمت تغذيتنا به منذ الطفولة بلا إدراك واع منا، ملايين التفاصيل الصغيرة، ملاين الأفكار الأشد عمقا في ثنايا خلايا دماغك، شكلت بناءك الذهني بالكامل، مفاهيمك الأشد عمقا عن الصواب والخطأ، الجمال والقبح، الخير والشر، الله والشيطان، الأخلاق، كلها مفاهيم تلبستها بلا وعي منك، ما تؤمن به وتدافع عنه لم تعتنقه بناء على مدى قربه من الحقيقة أم لا، إنما ورثته من والديك ومجتمعك، ترث دينك وأفكارك كما ترث أمراضك ولون بشرتك وعينيك.
أنت قمامة فكر متراكم ... منتوج ثانوي لما فكر فيه آخرون دونا عنك ... لكنك تتبنى أفكارهم على أنها أفكارك الخاصة، وتمتزج بها وتتحد، وتدافع عنها بشراسة دفاعك عن نفسك. تنسى أن كينونتك شيء آخر، يجعلك غرورك الأجوف لا ترى أبعد من مدى قدميك، وتصادم المختلف عنك؛ فالجميع يؤمن أنه حاز مطلق الحقيقة ووجد جادة الصواب.
نبتعد عن الحقيقة بمقدار ثقتنا في امتلاكها.
ثم تحاول أن تتحرر في عقلك، فتتمرد على الواقع وتخالف القطيع، وتنسف أفكار مجتمعك وتتمرد على الثقافة والدين والعادات، تهدم بناءك العقلي بالكامل، وتهرب منه إلى بناء عقلي آخر تتخذه أساسا لميلاد فكرك الجديد، تهرب إلى النقيض، تخرج من حظيرة مجتمعك إلى حظيرة مضادة وتتبنى الضد، ثم تظن - بحماقة - أنك قد تحررت من قيود الخرافة وكسرت أغلال التابو، في الواقع، أنت بدلت حظيرتك بأخرى أوسع!
وتستمر الدائرة إلى ما لا نهاية.
لذا يصعب علينا يا سيدي الطائر أن نخرج من الصندوق مهما حاولنا. التفكير المجرد أكذوبة أخرى تعزي بها نفسك وتضللها؛ الإنسان كائن عاطفي بطبعه، تقوده مشاعره وتوجهه إنحيازاته المعرفية طيلة الوقت، ويظن واهما أنه يمارس النقد والتفكير الحر، نعتنق النتيجة أولا ثم نبررها عقليا، لا العكس، ننسى أننا نؤمن بما نؤمن به لأننا نريد أن نؤمن به، وليس لكونه سدرة منتهى البحث والتفكر.
تكمن المعضلة في عقولنا ذاتها؛ فهي الجرثومة وأساس البلاء، والمشكلة لن تكون جزءا من الحل، وإذ لا قيمة للعقل إلا في الشك، فالشك أساس كل شيء، حتى الشك في العقل ذاته.
أخطأ ديكارت عندما أقر التفكير كبرهان للوجود، فقال «أنا أفكر إذن أنا موجود.» الأكثر صحة وأشد قربا للواقع «أنا أشك إذن أنا موجود.» الشك هو القيمة الأكثر أصالة في الوجود العقلي.
من يضمن لك أنك موجود الآن في هذه اللحظة؟!
لا شيء سوى الملاحظة العقلية، لكن، أليس العقل ذاته ناتج عن ملايين العمليات الصدفوية العشوائية منذ بدء الخليقة؟ كيف نتخذه مقياسا؟ كيف نثق في عقولنا وهي وليدة العشوائية؟!
هذه هي محصلة الأمر، لا توجد ضمانات.
إذا لم تشك في اتزانك العقلي كل حين وآخر فأنت - على الأرجح - لا تفكر.
لا توجد حقيقة مطلقة سوى الموت، التخفف من كل هذا العبء ميزة لا ينالها إلا الأذكياء، فما الوجود إلا إدراكنا الذاتي اللحظي بوجودنا، وخلافه تهيؤات وضلالات.
الانتحار هو الحالة الإنسانية الأسمى، التي يصلها الأنقياء حقا.
فقط من يسعون له بمحض إرادتهم هربا من كل هذا الزيف، أن يسدلوا الستار برغبتهم على مأساتهم الفجة، وفجيعة الميلاد، وعبثية الحياة والوجود، وجود هزلي يصادم باستمرار أمانينا المنتظرة، وما نأمله في الحياة.
الانتحار هو أعلى قمم التطور الإنساني، وأقصى أمارات الوعي، ونقاء البصيرة.
يهز الطائر رأسه يمينا ويسارا.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
عيناه الصغيرتان السوداوان تنظران لي في إحكام، أرجوك لا تحكم علي يا سيدي الطائر، أنا فقط صادق!
يسألني: «لماذا لم تحبها؟»
يا لأسئلتك الحكيمة يا سيدي الطائر، هل أنت نبي؟
لكنني، وفي محضر دفاعي عن نفسي، أقول إنها لم تحبني كذلك، أعرف أنها وجدت نفسها مجبرة لتحب من حملته في بطنها كل تلك الأشهر، مكرهة أن تستكمل الدور المنوط بها، كما يتوقع المجتمع، وكما توسوس لها غريزة أمومتها السخيفة، كانت تخدع نفسها وأخادع نفسي.
الحب كذبة، لن أنسى هذا!
لم يحبني أحد لا هي ولا حبيبتي!
لم أحب أمي، لم أحب حبيباتي، لا أحب نفسي!
عند ساعات الفجر الأولى، أذكرها، تجلس أمام الكانون، وتنفخ الهواء في الجمر ليشتعل جيدا، تصنع الشاي المقنن وترمي حبيبات الزلابية، أقف جوارها مستمتعا بدفء لهب الصاج الحديدي المتسخ، وألتقط ما يخرج منه من حبات ذهبية تنز بالزيت، تنتهرني أن أذهب وأستحم لألحق بطابور المدرسة حتى لا أقع فريسة الأستاذ محمود اليوم، الأستاذ محمود يمارس هوايته المفضلة بإيقاف كل من يتخلف عن اللحاق بطابور الصباح في وقته، يفرزهم في مجموعات، ليستمتع بضربهم لاحقا على مؤخراتهم بالخرطوم الأسود، لم أكن أعلم وقتها، أن الأستاذ محمود كان يضربنا لينفث سموم غضبه على زوجته صغيرة السن التي تخونه باستمرار، مع السابلة والدهماء، وهوام الأرض، وعند كل مناسبة.
يعلم هذا جيدا، وتعلم أنه يعلم، ويعلم أنها تعلم أنه يعلم، مع ذلك، لا يقوى على تطليقها.
هو إذن ضعف الحب مجددا!
يئن «بكري»، ويدمدم شيئا من بين أسنانه لا أتبينه، يقلب الطائر رأسه في سرعة، يقول: «يبدو لي أنها تحبك.»
لا يا سيدي الطائر، هي لم تحبني قط، كانت تجيد التمثيل لا أكثر، تجيد تقمص دورها بدقة، حتى إذا مرت السنون نزعت عنها لباسها وتعرت كما ينبغي لها، ظهرت حقيقتها الكريهة.
لا زلت أذكر ضمن ما أذكر، عيناها العجوزتان ترمقانني في بلادة، بنظرة زجاجية فارغة، كأنها لا تعرف من أنا، إذا كانت تحبني فعلا كيف نسيتني؟
كيف جرؤت؟
كرهتها، كرهتها جدا!
أنا سعيد أنها قد ماتت، آسف لقول هذا لكنها الحقيقة.
صدقني، لم أحب أمي قط!
هل انتهت هذه مجددا؟ لف لنا واحدة أخرى يا صديق.
ينتفض «بكري» في ذعر فجأة، يغطي وجهه بكلتا ذراعيه ويصرخ: «القطر!»
ثم تستكين ملامحه، وتلين، يخرج ورق البرنسيس ويكرر ما فعله مجددا، بسرعة وإحكام، يشعل السيجارة ثم يمدها لي في تراخ: «البنقو ده نضيف يا مان!»
وتذوب نظراته المسترسله في الحائط المقابل.
يقف الطائر يهز جناحيه كأنه يوشك على الطيران، ثم يحجم، يقلب وجهه يمينا ويسارا بسرعة، يسألني بلغة الطير: «الاكتئاب إذن؟»
لا أصدق الأطباء يا سيدي الطائر، طبيبي النفسي أحمق، خدعته ليظنني مريضا، أوهمته بالضلالات، يظن نفسه إلها يوزع صكوك تقييمه كما يشاء، وينطق الحكمة، الأحمق لا يعرف أنني أتلاعب به كيفما أشاء، لا يعرف أنني أذكى من هذا، أذكى منه!
الأطباء النفسيون هم الأشد حقارة وسماجة، والأكثر مقدرة على بيع الهراء، لهذا لا أؤمن بعلم النفس، هو علم تزويق الكلام، كان الأجدر به أن يكون فرعا من فروع الفلسفة، أو التسويق، فقط يبدو موظف التسويق متعرقا متوترا وهو يحاول إقناعك بشراء ما يعرضه لك، ويبدو الطبيب النفسي واثقا يمضغ الغليون في تؤدة وينظر لك في سماجة بعينين رخوتين ميتتين، كلاهما يبيعك الهراء!
لست مصابا بشيء، لم أحب أمي قط، ببساطة، لماذا يجب أن أكون مريضا لقولي هذه الحقيقة! لماذا يجب أن أتفق مع الجميع لأكون طبيعيا!
ألم نوجد مختلفين في كل شيء؟!
أختلف عنك جنسا، وشكلا، ولونا، وثقافة، فلماذا يفترض بي أن أطابق أفكارك الخاصة!
ألا يمكن أن تكون تلك مشاعر طبيعية؟
أن تحب والديك لمجرد أنهما جلباك لهذه الدنيا؟! تلك فكرة سخيفة، لا أدري من سن هذه القاعدة، لكنه أحمق، بالتأكيد هو أحمق.
لا يوجد حب مطلق، هو شعور متبادل، رد فعل عاطفي على سلوك معين، الكيمياء مجددا عندما تعبث بخلايا دماغك، لا بد أن تستحقه حتى تحصل عليه، لا أن يمنح اعتباطا، هذا ليس حبا، هو ديكتاتورية وابتزاز، نفاق لا أكثر ... ربما لو كانت قد أحبتني لأحببتها في المقابل.
لا، لم أحبها قط، هي كذلك لم تحبني قط!
لم يأتيا بي لأنهما أراداني لذاتي، لنفسي؛ لأنني أنا بشحمي ولحمي وشكلي وأفكاري وكينونتي الحالية، كانا يرضيان غريزتهما لا أكثر، غريزتهما الحيوانية.
هو دفع مالا وأراد أن يحصل على المقابل، وهي وجدت معيلا جديدا يخفف عن كاهل أسرتها. اتفاق ضمني خبيث أسموه زواجا، ثم جئت أنا للدنيا صارخا ومحملا بكل هذا الإرث الثقيل من معتقدات مجتمعي.
آسف، لقد كفرت بالمجتمع منذ زمن.
يقلب الطائر رأسه مجددا، يسألني: «ما بال المجتمع؟»
يا سيدي هذا مجتمع مريض قبيح، مشوه حد الثمالة.
هو عصر تصدير الأنا العليا في صورتها الأكثر تحفظا وعقلانية، عصر الذكاء الاجتماعي ويوتوبيا الزائفة؛ حيث لا تجد سوى مجتمع الملائكة الفاضل، فإذا اختفت نظرة الرقيب قليلا!
حسن، أن تعرف من أين يأتي الكاذبون، والمثاليون، ورجال الدين، والرأسماليون، والسايكوباث، والقتلة، وكل إخفاقاتنا الإنسانية.
إنهم نحن!
مجتمع منافق، متناقض، يؤمن بالله ظاهرا، ويكفر به خلقا، ويرتكب باسمه أشنع الفظائع، فيقتل الضمير باسم الشرع، وتنتهك الأخلاق باسم الله، تنتزع الحريات ويكبل الإنسان باسم التقاليد، نكذب، ونقتل، ونزني، ونسرق، ونؤذي، ونغتاب، ثم نحرص على صلاة العشاء جماعة في المسجد ؛ فاسم الله مخدر جيد لوخزات الضمير.
نبحث عن الله في سوح المساجد والصلوات وقد فقدناه في قلوبنا، وتنكرنا له في أعماقنا، فنبالغ في طقوسيتنا وإبراز مظاهر تديننا، كسلوك تعويضي قهري لفقدان الإيمان، كما يبالغ الكاذب في الحديث عن صدقه، وتبالغ العاهرة في إبداء مظاهر عفتها.
كل هذه الفضيلة المدعاة، والتعصب الديني، ورقة توت واهية، تستر ضعف يقينهم، وفساد إيمانهم، قناع هش يتحطم عند أول اختبار حقيقي مع النفس، عندها تتلاشى الأنا العليا المزيفة وتعود طبقة العقل الدنيا للواجهة؛ حيث المجد للشيطان بلا منازع!
صدقني، كفرت بهذا المجتمع منذ زمن!
يتقافز الطائر على الحائط، يفرد جناحيه ويهزهما بخفة ويقلب رأسه بسرعة، يهمس لي: «ماذا عن الأفكار المتطرفة؟! الأرق؟! الصداع الدائم؟! المخدرات! كل هذا الشيء من بعد موتها من قبيل الصدفة؟ ... تظن؟!»
نعم هي الصدفة يا سيدي الطائر، كصدفة الوجود والخلق.
لا أؤمن بالحب، كما لا أؤمن بالله أو الخير أو الكارما، ببساطة!
حركة رأسه أصبحت سريعة جدا الآن، يقلب رأسه يمينا ويسارا بسرعة جهنمية حتى بدا الشرر يتطاير من جانبيه، رأسه يتضخم مع جسده كبالون ينفخه طفل عابث، منقاره يبدو ملوثا بالدم، قال بصوت كريه: «الزهايمر ... غولك ومأساتك!»
رأسه يتضخم ويملأ الغرفة، أصرخ: «اخرس!»
ينظر لي في شراسة، عيناه جهنميتان تشتعلان بالنيران، يضحك بصوت كفحيح الثعابين، ويخرج لسانه المشقوق طوليا يتلمس خارج منقاره، صدى ضحكته يتردد في الأرجاء، ويخترق صوته خلايا جمجمتي ويتردد في دهاليزها! - «أعرف حقيقتك، أعرف كل شيء، أنا الحقيقة المطلقة التي تكفر بها، أنا الحب الذي تنكره من بعدها، أنا ربك الذي تحاول أن تعاقبه بإنكاره، أنا الاكتئاب وأنت ملكي!»
يضحك ضحكة من أعماق الجحيم، يتردد صدى ضحكاته في كل مكان. - «أنا الزهايمر، غولك الذي ترهب، مبعوث الموت كما أخذتها، سآخذك.»
يقلب وجهه في سرعة والشرر يتطاير من عينيه.
لسانه المشقوق يقترب مني ليظفر بي وهو يرتجف في جشع، على سطحه حراشف حادة.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
أصرخ : «اخرس ... اخرس !»
لا يصمت، يصر على تعذيبي، يوسوس في أذني بأصوات كثيرة.
أنا الزهايمر قد قتلت أمك!
أنا الزهايمر قد قتلت أمك!
أنا الزهايمر قد قتلت أمك!
ينظر لي بعينين مشتعلتين بنار جهنم، يتحول وجهه ويتبدل بسرعة.
لست نبيا يا سيدي الطائر، أنت الشيطان نفسه!
رأسه أصبح بحجم الغرفة الآن، أدار وجهه لينظر لي عن قرب بعينيه الضخمتين.
في انعكاس عينه السوداء رأيتها، بين الحطام، ووسط آلاف الأجساد المشتعلة.
تتلوى والنيران تشتعل فيها، تصرخ، يذوب جلدها وينصهر في بطء محطم للأعصاب، تبدو من تحته عظامها العجوز ... تعوي بصوت مؤلم ... ويضحك الملائكة شامتين.
أياد ترتفع من تحت الحمم النارية لقاع جهنم، ترتجف للحظات ... ثم تغوص تحت السطح اللاهب.
رائحة الشواء، يا إلهي، أشمها بوضوح!
الصراخ، الصراخ.
اصمتوا عليكم اللعنة!
اصمتوا!
اصمتوا ...
اصمتوااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ...
صوت فحيح الثعابين يتعالى، يوسوس في أذني! «أنا الزهايمر قد قتلت أمك!» «اخرس اخرس!» «أمي لم تكن تصلي هل ستدخل النار؟» ويهز الشيخ رأسه في صمت أن نعم! «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر، أمك ماتت كافرة يا بني!» «اخرس اخرس!» «لكنها كانت مريضة! كانت تحبني! ألن يشفع لها هذا؟» يهز الشيخ رأسه في صمت أن لا. «لا يسعنا في هذه المرحلة إلا أن نرجو رحمة الله.»
لا أريد رحمته، لن أتوسل إليه، لئن قتلني بأخذها مني، فسأقتله في داخلي.
فلتبحث عن غيري ليؤمن بك، انتهى عهد عبوديتي!
لكنه لا يصمت، لا يزال يوسوس في أذني بأصوات متداخلة، وصراخ أمي، وصوت آلاف الأرواح المعذبة من عمق الجحيم. «أنا الزهايمر قد قتلت أمك!» «أنا الزهايمر قد ...»
صمتت الأصوات كلها دفعة واحدة.
صمت كل شيء.
اهتزت الموجودات.
الغرفة ... بكري ... الحائط ... الطائر!
تبخروا من حولي ببطء كالدخان.
نظرت مشدوها، هذا المكان!
أعرف هذا المكان.
كانت جالسة هناك، على عنقريبها الخشبي المفضل، ترنو للسماء بنظرات شاردة هائمة، أنظر لقدمي بينما أمشي ببطء، تغوصان في الرمل البارد في الحوش الترابي، الذي شهد كل طفولتي، وبعض شبابي.
حط طائر جميل على أسلاك أعمدة الكهرباء في الخارج، راح يزقزق بصوته الجميل، في صوته لحن موسيقي آسر!
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
قبلت رأسها الأشيب، ومسكت يديها النحيلتين المعروقتين، هاتان يدان كانتا رقيقتين تضجان بالأنوثة في وقت ما، قبل أن ينهكهما صنع الكسرة والزلابية.
اعتنت بي طوال عمري، منذ وفاة والدي وأنا بعد طفل ألهو، باعت الشاي والقهوة في الطرقات، عملت في المنازل طبخا ومسحا وغسلا لأصحاب الشأن لتؤمن لي إكمال دراستي.
هجرت شبابها وكرست كل نفسها من أجلي.
الآن، لم يعد من أحد غيري ليعتني بها.
ركعت قبالتها، تأملت تجاعيد جهها المتغضن، كل تجعيدة تحكي قصة شقائها ومعاناتها في تربيتي عبر السنين.
لم تنظر لي، لا تزال تحملق في السماء بنظرات ذاهلة. «أنا ولدك يما!»
تحول وجهها ناحيتي ببطء، تنظر لي بعينين زجاجيتين، لا تعرفني!
ثم تتحول النظرة الزجاجية الفارغة إلى نظرة رعب، صرخت، ظنتني لصا.
بكيت يومها في حرقة، وعلى قبرها وضعت قطعة من الزلابية، قطعة مستديرة ذهبية اللون تنز بالزيت.
كرهتهم جميعا؛ الناس، المرض، أقدار الله!
كلهم تكاتفوا ليجعولك تعاني، تآمروا ليضعوك تحت التراب!
من بقي لي؟
بكيت عند قبرك يومها، هل شعرت بي؟
قلت لك: اشتقك، أمسى البيت فارغا من دونك.
هل سمعتني؟
أظلمت الدنيا، فرغ البيت، صمت الطائر!
عند قبرك بكيت وبكيت، ثم مضيت خلقا آخر! ...
خلقا جديدا. «... قتلت أمك!» «أنا الزهايمر قد قتلت أمك!»
عادت الموجودات حولي للتكاثف مجددا، عادت الأصوات تصرخ في أذني بلا رحمة.
أخرجت السكين من جيبي صارخا، دفنتها في عينه مباشرة. - «اخرس اخرس.»
أطلق أنينا مكتوما، رأسه يتقلب ويتحول بتأثير شيطاني.
أطعنه مجددا، مجددا، مجددا، مجددا.
دماؤه تتفجر على يدي ووجهي، لا أكف عن تسديد الطعنات.
أبكي وأصرخ وأسدد الطعنات.
أسدد الطعنات وأصرخ وأبكي.
صمت فجأة.
ثم راح جسده يصغر ويصغر أمام عيني، حتى استقر على الحائط، وعاد طائرا يتظاهر بالبراءة، قلب وجهه يمينا ويسارا بسرعة، ثم نفش ريشه وطار.
نظرت جواري وأنا ألهث.
كان «بكري» مستلقيا على الأرض متخضبا في دمه، وعيناه المحتقنتان شاخصتان للسماء! (تمت)
دو، ري، فا، مي، صول، لا، سي.
القصة المملة الحادية عشرة: ديجا
فو
يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب . (القرآن الكريم)
بسبب مسمار سقطت حدوة حصان
وبسبب الحدوة تعثر الحصان
وبسبب الحصان سقط الفارس
وبسبب الفارس خسرت المعركة
وبسبب المعركة فقدت المملكة. (من أغاني الفلكلور الأمريكية)
فصل «1»
أكثر ما يميز «عثمان» أن لا شيء يميزه.
هو شاب عادي إلى حد كبير، إلى حد متفرد.
إلى الحد الذي يجعله خفيا عن الأعين.
قد يجلس بجوارك لساعات دون أن تنتبه لوجوده، ثم تنتبه له فتراه جالسا منكمشا على نفسه ينظر لك بعينيه المذعورتين، قد يقابلك بالصدفة في مكان ما، لكنك لن تتذكر ملامحه بعد أن يذهب عنك إلا لو كنت «دومينيك أوبراين»
1
نفسه.
له وجه محايد، يسهل أن ينزلق عن ذاكرة وعيك، لا تفاصيل مميزة، ولا ملامح من أي نوع. مجرد جلد يستر الجمجمة لا أكثر.
يقولون أن الكاميرا لا تلتقط صورته ولا ينعكس له أي ظل؛ لأن الضوء يتجاهل وجوده كذلك، لست متحمسا لهذا الرأي إلى هذا الحد، هو ليس الكونت «دراكيولا» بعد كل شيء.
متى قابلته أول مرة؟
في كافتريا الجامعة بالطبع، أنت تسأل أسئلة غريبة!
قلت لك أنه زميلي في الكلية وندرس ذات التخصص، لم أقل؟
اعذرني إذن، إن قوة الذاكرة ليست من أفضل صفاتي.
كنت متهربا من المحاضرة كعادتي، وبينما راحت جحافل الطلاب تدلف للقاعة، انسللت أنا خارجا في موسم هجرة عكسية، جلست جوار «أم محمد» ست الشاي أشرب القهوة وأتسلى بالنظر إلى مفاتن الطالبات العابرات، التي تتضخم على نحو سحري عاما بعد عام، وهي عادة ظللت أحافظ عليها طوال السنتين الأخيرتين بانتظام وتصميم يثيران الحسد.
سمعت صوت نحنحة جواري فالتفت، لم يكن هناك أحد، رأيت فتاة جميلة تعبر أمامي، ابتسمت لها على سبيل التزلف وجس النبض، فحدجتني بنظرة كارهة من طراز: لا تحاول!
هكذا رحت أتظاهر بالانهماك في استخراج شيء ما سقط في كوب الشاي ، هربا من نظرات «أم محمد» الساخرة. - «مهند!»
هتف الصوت بجواري مجددا فأجفلت، كان «عثمان» جالسا إلى جانبي بشكل لصيق حتى كاد يسقط في حجري. - «من، من أنت؟» - «عثمان.» - «عثمان من؟» - «زميلك في الكلية، إننا ندرس ذات التخصص، لقد كنت أجلس بجوارك طيلة السنوات الثلاث الماضية.» - «ومنذ متى تجلس هنا.» - «ساعة تقريبا، لقد جئنا معا، لقد جلبت لك الشاي بنفسي!»
كانت المرة الأولى التي أراه فيها، وقد شعرت بالحرج من عدم معرفتي له، فتحججت بشيء ما عن المشاغل وانشغال البال، وأشياء من هذا القبيل، نظر لي في خطورة وهو يميل ناحيتي حتى شعرت بلفح أنفاسه على وجهي، وهمس في أذني: «هل يمكنني أن ائتمنك على سر؟»
شعرت بالضيق من تبسطه الشديد واقتحامه مساحتي الآمنة، قلت وأنا أبعد وجهي عنه قليلا: «تفضل.» - «ليس هنا، المكان ليس آمن بما يكفي، قابلني عند قاعات قسم الهندسة بعد ربع ساعة.»
قالها وهو يتلفت حوله في حذر، ثم انصرف.
جلست أشرب الشاي وأفكر في هذا الشخص الغريب الذي لم أعرفه إلا قبل خمس دقائق، ثم قرر أن ينفتح لي فجأة، ظللت أفكر مترددا بين الذهاب أو نسيان كل شيء عنه.
ما رأيك أنت؟
أنسى كل شيء عنه؟ اذهب للفصل رقم «4».
هل قررت أن تذهب معي؟ اذهب للفصل رقم «2».
فصل «2»
هكذا قررت أن أذهب، لا شيء لدي لأفعله على أية حال، لن تنتهي المحاضرة قبل ساعة على الأقل، دعك من أن الشاب الغريب - نسيت اسمه - قد أثار فضولي لأقصى حد.
بعد نصف ساعة كنت أقف في المكان المنشود، بدا لي خاليا على نحو مريب، قررت أن أنتظر لخمس دقائق أخرى ثم أقفل عائدا إذا لم يظهر.
هنا خطر لي خاطر مفزع، ماذا لو كان فخا لاستدراجي إلى هنا؟!
إذن فقد سقطت فيه بكل سذاجة!
من هو عثمان؟ ولماذا اليوم بالتحديد؟ من له مصلحة في استدراجي إلى هنا؟
لست زعيم عصابة، ولم أخدع إحداهن منذ زمن بعيد لتنتقم مني، على ما أذكر.
إذن هي «سماح»!
لا بد أنها «سماح»، لم تعجبني نظراتها عندما قبضت علي متلبسا بالجرم المشهود مع صديقتها المقربة في كافتيريا الكلية، كانت نظراتها مجنونة ومعبرة، وكان وجهانا يضجان بالخطيئة.
يا لي من أحمق فاشل لا يجيد التمثيل.
إن النساء مجانين، تلك حقيقة لا تتناطح فيها عنزتان، نعم.
بالتأكيد هي «سماح».
لا بد أنها هي من نصبت لي الفخ، وفي أي لحظة سينغرس نصل السكين البارد في. - «مهند!»
سمعت الصوت بجواري فشهقت في رعب والتفت مذعورا، كان يقف أمامي.
قلت في غيظ وقد بدأت أشعر بأن قلبي يخفق بانفلات تام، إثر حشد الأدرينالين الذي يتدفق في دمي: «إذا كانت فكرتك عن المرح أن تظهر من العدم كالأشباح لتصيبني بسكتة قلبية وأموت، فاعذرني إذا لم أشاركك الشغف، أرجو أن تتوقف عن تلك العادة السخيفة.» - «أي عدم؟ كنت أقف أمامك ربع ساعة كاملة، لقد كنت تنظر لي مباشرة! ألم ترني؟»
أصبح هذا مملا.
تحججت بشيء ما عن ضعف النظر، وحوجتي لنظارة جديدة لكي.
ثم تذكرت شيئا مهما، أنا لست مطالبا بتبرير نفسي لشخص قابلته منذ نصف ساعة!
سألته في نفاد صبر: «حسن هات ما عندك، أنا هنا الآن.»
أشار إلى مقعد إسمنتي مجاور، فجلسنا، سألني بفضول وهو يمد لي علبة من العصير: «هل تؤمن بالقدر؟» - «ماذا تعني؟» - «أقصد الحتمية القدرية، مفهوم التسيير وأن لا حيلة لنا في أقدارنا، فكل شيء مكتوب ومسطر مسبقا في لوح محفوظ.»
قلت في ملل وأنا أرشف العصير: «بالتأكيد أؤمن به هذا قرآن، هل أنت ملحد لا سمح الله!»
قال ضاحكا: «معاذ الله، ليس الأمر كما تظن.»
وصمت للحظة، ثم أضاف متفكرا: «ماذا تعرف عن نظرية الفوضى؟» - «أعرف أنها نظرية حديثة في طباعة المال، والقضاء على التضخم بالمزيد من التضخم.» - «تقصد بروتوكول طباعة العملة بنظام «رب رب رب»؟» - «أليست هي؟» - «لا، تلك نظرية اقتصادية عبقرية أخرى، ليس هذا مجال ذكرها.»
قلت له في سأم وأنا أهشم علبة العصير في يدي وأتأهب لرميها في حاوية القمامة البعيدة على طريقة لاعبو كرة السلة الأمريكان : «حسن، إن لم تكن هي نظرية المانجو كعلاج للفيروسات التاجية، فأنا لا أعرف عنها شيئا، لكن ما أعرفه أنني لم آت إلى هنا لأستمتع بهذا النقاش العميق مع شخص يحب استعراض عضلات ثقافته، ما الذي تحاول قوله؟»
نظر لي في هدوء: «أرجوك لا ترمها.» - «لم أفهم!» - «علبة العصير في يدك، أرجوك لا ترمها.»
نظرت له في غيظ.
هذا الأخ غريب الأطوار، ولديه مشكلة حقيقية في التعامل مع البشر، هل يختبر سعة صدري وطول بالي، أم هو مجرد أحمق آخر؟
ما رأيك أنت؟
ارم علبة العصير: اذهب للفصل «3».
لا ترم علبة العصير: اذهب للفصل «5».
فصل «3» - «هل تعمل مع البلدية؟»
قلتها له في استخفاف، ثم رميت العلبة في اتجاه السلة.
سقطت خارجا للأسف.
استطرد «عثمان» في هدوء وكأن شيئا لم يحدث: «هي نظرية آسرة إلى حد مدهش، حينما تختلط الفلسفة بالطبيعة بالخيال، يمكنها تفسير كل شيء في الكون فعلا، بدءا من جدلية التسيير والتخيير، وغائية وجود الإنسان، حتى برهان الشر ونظرية الإله القاسي، من المذهل أن تعرف أن بعض التحوير على المعطيات الأولية يمكنه أن يغير النهايات بطريقة مرعبة، كالفراشة التي ترفرف بجناحها في طوكيو فتثير إعصارا في الجزء الآخر من العالم. من الوهلة الاولى سيبدو هذا المفهوم متعارضا مع مفهوم القدرية والحتمية القدرية في الفلسفات الدينية عموما، والفقه الإسلامي خاصة، ومفهوم اللوح المحفوظ. حسن، ليس الأمر بهذا الوضوح.»
كنت أنظر للعلبة المهشمة التي سقطت بجوار السلة في توتر، وأفكر شارد الذهن.
استطرد «عثمان»: «تصرف بسيط الآن مثل رميك لعلبة العصير على الأرض سيغير مستقبلك بالكلية، هذا التصرف، أضف إليه مئات التفاصيل الصغيرة في حياتك، خلفيتك المعرفية، والبيئية، والوراثية، زواج والدك من والدتك تحديدا كان صدفة بعد أن التقاها في حفل، كان يمكن ألا يحدث لو لم يجد والدك الحذاء تحت السرير في الوقت المناسب، ولم يكن ليجد الحذاء ما لم يتعثر بثنايا السجاد ويسقط، ولم يكن ليسقط ما لم تنس عاملة التنظيف فرد السجادة بعد تنظيفها، وقد نسيتها هذا اليوم تحديدا بسبب مرض ابنها وانشغال ذهنها لأنه ظل يلعب طيلة اليوم السابق تحت المطر، هكذا بدا الأمر، لهو طفل تحت المطر أدى لوجودك أنت، الكثير من المصادفات الصغيرة قادت إلى لقاء والديك وزواجهما، ثم ولدت أنت بما ورثته من والدتك تحديدا، الاستعداد الجيني لإصابتك بمرض الوسواس القهري.
ثم جاءت ضغوط حياتك، متغيرات بيئتك، عقدك النفسية، هزائمك، فشلك المتكرر في الحب، كل هذه العوامل تضافرت لتخلق المرض لاحقا وتجعلك أسيرا له، ومع مرض كهذا لن تستطيع تحمل رؤية منظر بسيط، سيتجاهله أي شخص غيرك، كعلبة عصير ملقاة خارج سلة القمامة، لن تستطيع تحمل رؤية هذا الشذوذ في التناسق والترتيب، كما يصوره لك مرضك، دون أن تتدخل.»
كنت قد نهضت من مكاني أثناء حديثه والتقطت العلبة الفارغة مع جملته الأخيرة التفت له في دهشة.
كيف بحق ال؟
أكمل هذيانه دون أن يعيرني انتباها: «المستقبل يتغير في كل ثانية، بناء على القرارات التي نتخذها في كل لحظة، مهما كانت ضئيلة وتافهة، لوحك المحفوظ يتغير ويتشعب باستمرار بناء على تصرفاتك، يشبه الأمر تكنولوجيا الردود التفاعلية كما نعرفها اليوم، ومع خلفيتك هذه يغدو أي تصرف بسيط، كرمي علبة عصير؛ مهما لتغيير مستقبلك، هذا التصرف البسيط منك الآن أغلق في وجهك آلاف الأبواب، وفتح بابا جديدا يقود لخيارك الأخير.»
دوما ما كان يراودني ذلك الشعور الغريب بأنني قد عشت هذه اللحظة من قبل، يطلقون عليها مصطلحا فرنسيا متحذلقا، ديجا فو! نعم هذا هو، يقولون إنها بسبب خلل في النواقل العصبية في الدماغ أو سريان الدم، لا أذكر بالتحديد، لكنني شعرت بأنني قد عشت هذه اللحظة مسبقا، سمعت هذا الحديث من قبل في هذا المكان بالتحديد!
أخذ «عثمان» شهيقا عميقا، ونظر لي بتركيز وأنا أقف قبالته مصعوقا.
أضاف بهدوء: «بسبب مسمار سقطت المملكة، يمحو الله ما يشاء ويثبت.»
في اللحظة التالية خرق مسمعي صوت الارتطام العالي.
التفت مذعورا لأرى الهول ذاته يتحقق.
في لحظة تجمد فيها الزمن، وشل فيها عقلي، رأيت الشاحنة البيضاء المنفلتة تهشم سور الجامعة الحديدى وتندفع نحوي بسرعة جنونية، كان السائق النحيل يتقافز في مكانه مغشيا عليه ... وجمع غفير من الناس عبر السور المتداعي يلوحون لي بأيديهم وهم يصرخون محذرين.
ورأيت «عثمان» جالسا ينظر لي في ثبات.
رأيت كل هذا في لحظة.
في اللحظة التالية أظلم كل شيء. (تمت)
فصل «4»
قررت أن أنسى كل شيء عنه.
جلست أرشف الشاي في هدوء، نظرت لساعتي، مرت ربع الساعة، توقعت أن يظهر لي «عثمان» مجددا ليستفسر عن عدم حضوري، سأكون أكثر غلظة في هذه المرة.
هنا رأيتها تمشي على الجانب الآخر من الطريق.
من هي؟
هي التي تمشي فتشم عبير الورود، هي التي تتحدث فتسمع ألحان المزامير ومقطوعات «ياني» وبتهوفن وأشعار قيس، هي التي تضحك فتضيء المكان وتنسى كل شيء في حضرة ابتسامتها. «سماح» طبعا، من غيرها يمكنه أن يثير تلك القشعريرة الباردة التي غشيتني في لحظتها؟
كف عن الأسئلة الساذجة أرجوك.
منذ ذلك اليوم الذي رأتني فيه مع صديقتها في كافتيريا الكلية، لم تعد كما هي، تغيرت كثيرا.
قفزت من مكاني بسرعة لأعبر الطريق، فجأة سمعت صوت البوق العالي يخترقني، وصوت الصرير المزعج للإطارات؛ إذ يحتك بالأسفلت في قوة، وتصاعدت بعض الشهقات وأصوات صرخات محذرة.
التفت مبهورا لأرى شاحنة بيضاء تتوقف على بعد سنتميترات قليلة من وجهي، وغمرتني الرائحة المزعجة للمطاط المحروق.
تجمدت في مكاني رعبا. - «يابن الش...»
قفز السائق النحيل وهو يشتط غضبا، أمسك ياقتي قميصي وراح يهزني وهو يصرخ ويشتمني بلا انقطاع.
لم أكن أسمع شيئا، كان وقع الصدمة قويا، تثلجت أطرافي، وغشيتني الأصوات كهمهمات مبهمة من واد بعيد، عندما استعدت روعي كان المكان يعج بالطلاب والعابرين الذين توقفوا يرمقون المشهد في استمتاع، وقد بدت الحسرة على وجوه البعض بعد أن كانوا يمنون أنفسهم برؤية بعض اللكمات والدماء.
تدخل بعض فاعلي الخير، بعد أن شلت الحركة في الطريق، وراح بعض سائقي السيارات يطلقون البوق في إلحاح، وراحوا يهدئون من روع السائق الغاضب، ويخلصونني من بين مخالبه، مع الكثير من «قدر ولطف» و«لا إله إلا الله» لفض الحفل.
هنا رأيت السائق يتصلب فجأة، ثم بدا يتصبب عرقا، نظر لي بعينين زائغتين وارتجفت أصابعه وهو يشير ناحية شاحنته ويحاول قول شيء ما، ثم سقط مغشيا عليه أمامي.
من الوهلة الأولى فهمت كل شيء، قفزت ناحية الشاحنة بسرعة ورحت أجول بعيني فيها، فتحت خزنة القفازات، كما توقعت بالضبط، كانت حقنة الأنسولين هناك، ملتفة بإحكام بكيس بلاستيكي شفاف، التقطتها بسرعة، وعدت أدراجي، عريت ذراعه وحقنته بها.
مرت دقائق ثم فتح عينيه متسائلا عما هنالك، ودقائق أخرى حتى نهض إلى شاحنته بقدمين كالعجين وهو يدعو لي ويشكرني، ودهور حتى انفض الحفل.
تنفست الصعداء والتفت فرأيتها تقف هناك، ترمقني بعينين دامعتين لامعتين، لم تجرؤ على الاقتراب ولم تستطع الذهاب.
اقتربت منها فتهانفت وألقت نفسها بين ذراعي باكية.
كان هناك الكثير من الدموع، الكثير من المخاط، الكثير من الشهيق. - «أنت، أنت بخير؟»
قلت لها أنني بخير وأنني آسف، وأنني أغبى شيء في الوجود، وأنني أحبها كثيرا.
لم أخنك مع صديقتك يا حمقاء، لم يحدث شيء.
هذه المرة كانت على استعداد للاستماع إلي.
والآن، عندما أنظر للوراء وأتذكر، أعرف أنني قد اتخذت الخيار الصحيح.
لا زلت أتأملها كل يوم وهي تنام بجانبي وتحتضن طفلتنا، يغمرني دوما ذلك الشعور المطمئن بأنني في مكاني الصحيح.
لقد غيرتني تلك الحادثة حقا، عندما كدت أن أموت في ذلك اليوم، أعدت ترتيب أولوياتي من جديد، أنا أحبها جدا، فعلام التردد والتسويف؟
لا أحد يضمن عمره، قد نموت في أي لحظة، فلنعش ما نملك من أيامنا مع من نحب، لا يوجد الكثير من الوقت لننفقه في صغائر الأمور.
ألا ترى هذا معي؟! (تمت)
فصل «5»
وضعت العلبة جانبا في هدوء، عقدت يدي أمام صدري ونظرت له في صمت، نظرة من طراز «حسن والآن هات ما عندك».
قال: «المستقبل يتغير في كل ثانية، بناء على القرارات التي نتخذها في كل لحظة من لحظات حياتنا، مهما كانت ضئيلة وتافهة، لوحك المحفوظ يتغير ويتشعب باستمرار بناء على تصرفاتك، يشبه الأمر تكنولوجيا الردود التفاعلية كما نعرفها اليوم، ومع خلفيتك هذه يغدو أي تصرف بسيط، كرمي علبة عصير؛ مهما لتغيير مستقبلك، هذا التصرف البسيط كان سيغلق في وجهك آلاف الأبواب من الخيارات، ويفتح بابا جديدا يقود لخيارات أخرى.»
دوما ما كان يراودني ذلك الشعور الغريب بأنني قد عشت هذه اللحظة من قبل، يطلقون عليها مصطلحا فرنسيا متحذلقا، ديجا فو! نعم هذا هو، يقولون إنها بسبب خلل في النواقل العصبية في الدماغ أو سريان الدم، لا أذكر بالتحديد، لكنني شعرت بأنني قد عشت هذه اللحظة مسبقا، سمعت هذا الحديث من قبل في هذا المكان بالتحديد!
أخذ «عثمان» شهيقا عميقا، ونظر تجاه سور الجامعة الحديدي، غمغم: «بسبب مسمار سقطت المملكة، يمحو الله ما يشاء ويثبت.»
نظرت له في بلاهة. - «لا أفهم مال...»
قاطع حديثي صوت الدوي العالي، التفت مذعورا لأرى الرعب ذاته يتحقق.
اندفعت الشاحنة البيضاء المنفلتة عبر سور الجامعة الحديدى بجنون، كان السائق في مكانه مغشيا عليه، ويتقافز في مقعده مع تقافز الشاحنة في الطريق غير الممهد، ومن خلفه مجموعة من الناس عبر السور المتداعي يلوحون لنا بأيديهم وهم يصرخون محذرين.
مرت الشاحنة أمامنا كالكابوس، اكتسحت سلة المهملات، وارتطمت بالشجرة الضخمة العتيقة على مقربة منا، وتوقفت مع صوت تحطم عال، وتناثرت الشظايا في كل مكان حولنا، وانطلق البوق يعوي في إصرار، بينما بدا الدخان يتصاعد من المقدمة.
تجمدت في مكاني وأنا أحدق في كومة الحديد.
كان كل هذا الرعب على بعد مترين فقط منا، ولولا لطف الله لكنا تحت إطارات الشاحنة في هذه اللحظة.
كان «عثمان» ينظر للحادثة ببرود، قال في هدوء: «هل عرفت لماذا طلبت منك أن لا ترمي العلبة؟!»
رحت أقلب بصري مشدوها بينه وبين الشاحنة، بينما بدأت تتعالى أصوات الطلاب والمارة وهم يهرعون لمكان الحادث، سألته مذعورا: «هل؟!»
هز رأسه أن نعم. - «تقصد أنك!»
هز رأسه أن نعم. «لا تقل لي إنك!»
هز رأسه أن لا. - «لست شيطانا، إن كان هذا ما تعنيه.
في الواقع أنت تعرفني، قرأت عني من قبل، لقد جئت مرسلا لك أنت بالذات، كان من المفترض أن تموت اليوم في خط زمني آخر في هذا الواقع، أو تتزوج من حبيبتك، ثم تنفصل عنها لاحقا وتصبح سكيرا، ويجدونك في مساء ميتا على قارعة طريق، لكنه قرر أن يمنحك فرصة أخرى، قرر أن يمنحك الخيار لتصحح مسارك، وقد نجحت فيما فشل فيه سلفك، كان نبيا بالمناسبة، من نفس بلدك، اسمه موسى.»
كان صوت البوق الشاحنة يصم الآذان، وقد بدا الدخان يصبح أكثر تكاثفا حتى كاد يحجب الرؤية، همست بصوت مختنق: «أنت؟» - «نعم، مبعوث الله الخضر.»
ثم اختفى كأن لم يكن! (تمت)
القصة المملة الثانية عشرة:
أجاممنون
لا بأس على قلبك.
لا بأس على روحك.
لا بأس عليك.
تماسك، الدعوات ترافقك، والسلوان من السماء متنزل عليك.
نحن معا، لن يكسرنا شيء. (شجن.)
أجاممنون
في الميثولوجيا الإغريقية هو ابن أتربوس وإيروبي، وشقيق الملك مينلاوس ملك أسبرطة، وهو الذي قاد الحملة التي ذهبت إلى طروادة لاستعادة هيلين زوجة الملك مينلاوس التي هربت إلى طروادة مع بارس. هذه إحدى قصص إلياذة هوميروس، والتي اشتهر فيها الحصان الخشبي المعروف بحصان طروادة.
تروي الأوديسة كيف قامت زوجة أجاممنون كلتمنسترا، وعشيقها إيجسثوس بقتل أجاممنون وذلك بعد عودته منتصرا من حرب طروادة. قصة مقتله أنها قد قامت بوضع بساط أحمر ينتهي إلى الحمام عندما يذهب هناك فيقابله عشيقها ويقتله. (ويكبيديا)
1
عظيم شأنك يا أنت، في المتراس أو الميدان، دورك لا تستهن به، أثره قوي يا ثائر. (شجن.)
من المرهق أن تكون الابن الأوحد لوالديك.
تثقل كاهلك مسئولية الآمال العظيمة التي يعلقانها عليك.
أخي لأكبر - حكت لي والدتي - مات بعد شهر ونيف من ولادته، فجعت والدتي وأغشي عليها من المرض، وبكى أبي بعلو صوته في حقل السمسم، حتى جفلت الطيور، لم ينصبوا صيوانا أو يقيموا عزاء، شاركت النسوة أمي مصابها الجلل، وواسينها بأن أخي طير من طيور الجنة، الحاجة «سكينة» ذكرتها بفضيلة الصبر والتجلد والرضا بالمقسوم، وأن الله ما أخذ إلا ليعطي، فجئت أنا للدنيا بعد عدة سنوات تعويضا لهما عن طول صبر واحتساب.
انتشر الخبر حتى القرى البعيدة، ذبح أبي ثورا كبيرا، ذكر اسم الله عليه ثلاثا وهو يوجهه ناحية القبلة، وزع لحمه على المصلين وبيوت الحي والزوار من القرى المجاورة. شيخ عبدالله إمام المسجد دعا لي أن أكون إبنا صالحا بارا، وقرأ القرآن على رأسي ... وزغردت النساء ... سمتني أمي تيمنا بحلمها بالشيخ البرعي، زارها مناما في أيام حملها الأخيرة، سقاها لبنا وأطعمها زبيبا من الحجاز، وأخبرها أنها سترزق بابن بار سيكون ذا شأن، اسمه «مازن»، من المزن والسحاب المغتص بالماء.
عاملتني بحرص عظيم منذ ميلادي.
أكبر كل يوم وأطوي المراحل، أرى فرحة أمي في عينيها وتلاشي قلقها عبر سنوات تدمل ببطء فجيعتها الأولى، أسمع دعواتها تلاحقني كل يوم عند خروجي للمدرسة «حصنتك بالذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء.» ويتكرر تبرم أبي من حرصها الزائد، يؤكد لها أنها ستفسد تربيتي، يقسو علي حينا ويحدثني بخشونة حينا، ليعلمني أن أكون رجلا.
في العصر يأخذني أبي إلى صالون الحلاقة حيث نادي لعب الورق، وفي مواسم الزراعة والحصاد أمتطي ظهره وهو يحني قامته في أرض الحقل، أو يعمل المنجل في حصاد المحصول. في أيام الجمعة عقب الصلاة، يصطحبني للسوق ليعلمني المساومة في شراء بضاعة الدكان. فبعد أن أحيل للصالح العام عاد مع أمي للقرية وتفرغ للعمل بالدكان جل وقته، يجلسني على حجره كل مساء ليحدثني عن حياته قديما كما لو كنت ندا، أصدقاء المدرسة، زملاء دفعة الشرطة في الخرطوم، ومغامرات الصبا عندما سرق نعجة البلولة، ويوم تسابق مع الجيلي والطاهر في عبور الترعة سباحة، وقصة زواجه من أمي، وشوقه الدائم لزيارة بيت الله الحرام قبل أن يلقى الله.
كنت صغيرا، لا أفقه ما يقول، أصغي لصوت صراصير الحقل من بعيد في خلفية حديثه، أحمل حلوى المصاصة المفضلة لدي، وأنظر إلى قسمات وجهه المتعب وصوته المبحوح، تنتفخ أوداجه فخرا عندما يعرفني بزبائن الدكان. «ولدي الوحيد، ورث ملامح أمه.» «ما شاء الله، ربنا يحفظه!»
أدرك من وهج عينيه اللامعتين وقتها ، أنه يعلق في كاهلي آمالا عريضة.
تختطفني أمي من بين يديه لتدثرني في الفراش، تغني لي كعادتها كل يوم.
ولدي العوض ود السرور
زدتني فرح وحبور
تكبر تكون دكتور
وتبقى لأمك زي ود سرور «ود سرور» طبيب معروف من عائلتنا، اشتهر بمهارته في الطب، هاجر من قريتنا إلى أوروبا ودرس الطب، ثم عاد للسودان وافتتح عيادة خاصة في الخرطوم، ذاع صيته من حينها.
مات أبي في غرة رمضان.
صلوا على الجنازة عصرا ونصبوا سرادق العزاء لسبعة أيام، اتشحت أمي بالسواد أربعين يوما، ولم تخلعه من يومها، أجلسني خالي على حجره وقال لي «من اليوم أنت رجل البيت.»
أطوي المراحل بلا كلل ويشتد عودي، تحشرج صوتي، ونبتت شعيرات شاربي لتؤذن ببدء رجولتي، وتطوي صفحة طفولتي وصباي، إلا ما تشبثت به ذاكرتي.
تحققت نبوءة الشيخ البرعي، نجحت في امتحان الشهادة الثانوية وأذاعوا اسمي في الإذاعة مع أوائل المتفوقين في عموم البلاد، بكت أمي في ثيابها المتشحة بالسواد، خالي هلل كثيرا وكبر الله، وذبح ثورا كبيرا فرق لحمه على الزائرين والمهنئين.
زرت قبر أبي ليلا وأسررت له بخبر نجاحي، تخيلت قسمات وجهه المتعبة تستريح أخيرا، وسمعت صوته المبحوح يهنئني وقد ازداد فخرا، جلست بجوار قبره أسامره عن طموحي في دراسة الطب، وأستعيد معه مغامرات صباه يوم سرقت نعجة البلولة، وتسابق مع الجيلي والطاهر في عبور الترعة سباحة، وقصة زواجه من أمي.
قرأت لروحه سورة يس، وودعته عندما اعتلى القمر السماء وسكنت القرية.
يوم سفري للخرطوم لاستكمال دراستي الجامعية، جلست مع أمي على العنقريب المنسوج بالحصير في حوش المنزل، كان وجهها جامدا وملامحها صارمة، فمها مشدود بحزم، تنظر لي بهدوء، خشيت أن تبكي.
قالت لي جملة واحدة: «حصنتك بالذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء.»
بكيت أنا!
ودعت قريتي عبر نافذة الباص المغتص بالخلق، وسلمت على بيوتها وحقولها وناسها حتى تلاشت خلف قيزان التراب، تخيلت أمي تجلس في العنقريب المنسوج وتتأمل خيالي في أفق مغادرة الباص، وليت وجهي شمالا مع مسير رحلتي، أنظر إلى بلاد جديدة ستحط فيها راحلتي، أختلق في ذهني أحداثا متخيلة ثم أسقطها بلا جهد وأبني أخرى أكثر إثارة، حتى وجدتني وسط مستشفى فسيح أرتدي رداء الأطباء، وأعلق السماعة على كتفي وبجواري أمي، تدندن لي أغنيتها، ابتسمت راضيا عن الخاطر الأخير.
رفعت بصري ناحية السماء المشدودة، الشمس لاهبة تتحرك مع مسيرنا بإصرار، تبدو كعين السماء ترافقني، بوصية أمي ودعواتها للذي لا يضر مع اسمه شيء، أهبطت بصري على رجل عجوز بجواري، قال لي: «وطنك حيث كانت أمك، فإن غابت الأم تساوت الأوطان.»
ولم يعقب بعدها ببنت شفة.
نبغت في دراسة الطب بالجامعة كنبوغي في المدرسة، طويت السنتين الأوليين كطي إطارات الباص الذي قذفني في أحشاء الخرطوم للشوارع الممتدة بسرعة وثبات، عقلي حاد متوثب للمعرفة، ألتهم المقررات والمعلومات الجديدة في شغف.
أحببت زميلتي في الدفعة، وتعاهدنا على الزواج بعد التخرج، «هيام» فتاة جميلة دقيقة الحجم، خجولة وحنونة، يمتد نسب عائلتها لإحدى القبائل المجاورة لنا في القرية، زففت البشرى لأمي عبر الهاتف، بكت فرحا وأطلقت بعض الزغاريد، وحلف خالي يمينا مغلظا، ثم طلاقا جازما بتكفله بكل تكاليف زواجنا، لم أعارضه.
طويت العام الثالث بسرعة، تراجع شعري هونا ما، وتوطدت علاقتي مع محبوبتي «هيام». نعد العدة ونرتب للزواج. أطوي المراحل بلا كلل، ويزداد عقلي توثبا وتحفزا لكل جديد.
أخرج دفاتري أدون فيها آمالا عظيمة للمستقبل، أن أصبح طبيبا وكاتبا في يوم ما. بيت صغير، وزوجة صالحة محبة، وطفل جميل يحمل اسم جده تكريما لذكراه، خيالي مشرع لكل آت، وقلبي وعقلي متوثبان لمستقبل عظيم أكاد ألمسه بأناملي، أقف وسط مستشفى فسيح أرتدي رداء الأطباء، وأعلق السماعة على كتفي وبجواري أمي وزوجتي، وأبي يبتسم في قبره فخرا، أطوي الدفاتر وأضع القلم.
في منتصف العام الرابع تغير كل شيء بشكل جذري، عندما بدأت ألسنة الدخان الأسود المميزة لاحتراق إطارات السيارات تتصاعد في الشوارع، ومعها الهتاف الشهير.
تسقط بس.
2
يا نبض الثورة، أنت طمأنينة النفس، أنت النعيم لهذه الدنيا.
صباحكم يشبه حنية «أبو السيد » وعمق أشعار «حميد»، خيركم بكتر، حبكم واصل. (شجن.)
انطلقت الانتفاضة الشاملة.
المتاريس، الإطارات المحترقة في الأحياء والشوارع، بيانات تجمع المهنيين المنمقة، كتائب الظل، لجان المقاومة، الكنداكات، الثوار.
كانت الأحداث تتسارع بسرعة رهيبة.
معارك الكر والفر مع القوات الحكومية في الحواري والأزقة، التروس في الشوارع والإطارات المشتعلة، قنابل الغاز المسيلة للدموع التي كانت تتساقط كالمطر على رءوس الناس، وبدا العالم يتابع في اهتمام مقاطع الفيديو التي تنتشر في الأسافير.
هذه المرة كان الأمر أكثر اختلافا وتنظيما، وكان واضحا أن هذه الثورة وجدت لتستمر.
كان كل شيء يضج بالحماس، في كل يوم تتوسع رقعة المظاهرات ويتضاعف أعداد الناس.
تنطلق زغرودة بداية الموكب تشق الأرجاء، ويتوتر لها رجال الأمن من وراء دروعهم المحصنة، وفي لمح البصر يحتشد الناس، وينطلق الهتاف، ينبتون من عمق الأرض فجأة إلى الوجود، كما الأشباح.
تجمعات صغيرة تتسلل وتسري عبر الحواري، تتلاقى المواكب وتكبر مع كل التحام، ويزداد الهتاف هديرا، ونزداد في أنفسنا ثقة وقوة.
السادس من أبريل كان يوم العرس الأكبر، كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها هذا الحشد من الناس في مكان واحد، خرج الناس بالمئات، بالآلاف، بالملايين، تدفقت السيول على القياد العامة، وتضعضعت أمامها كل القوات التي حاولوا بها منع السيل من التدفق على أسوار القيادة العامة.
لم يتوحد السودانيون في تاريخهم كما توحدوا في تلك الأيام، لم يحتشد الشعب السوداني في تاريخه كما احتشد في هذه الايام خلف راية واحدة، وهدف واحد.
سقط الديكتاتور أمام إصرار الملايين، كانت الفرحة عظيمة، والآمال تضيق بها الصدور. فتنفسها الأفواه بالهتاف والزغاريد، بكينا من أثر الفرحة وشيعنا شهداءنا بالدعاء. وهبنا نصرنا لأرواحهم، التي كنا نشعر بها بيننا، تتخللنا وتشارك معنا في الاحتفالات، لولاهم ما وصلنا إلى هذا المكان.
أيقونة الاعتصام الجميلة «شجن» ذات الوجه الملائكي والابتسامة الطفولية الساحرة، تطوف علينا في كل يوم تحمل لافتاتها التي تفوح بالطمأنينة، تفيض علينا من ابتسامتها وآمالها العريضة، فنزداد يقينا بأن الغد أجمل من اليوم، وأن كل شيء ممكن .
في حدود دولة الاعتصام يقف عشرات الشباب، يرقصون ويلوحون في وجهك مع قدومك بالهتاف.
ارفع يدك فوق
التفتيش بالذوق
ارفع يدك فوق
التفتيش بالذوق
يقابلونك بابتسامة، ويشيعونك بأخرى وهم يطلقونك لداخل حدودها، تقابلك الخيام المتناثرة، وترى الناس يعملون كخلية نحل، يقسمون المهام بينهم. في أعلى نفق الجامعة تجمع العشرات وهم يطرقون على صفيح الجسر بإيقاع حماسي رتيب، مجموعات صغيرة متناثرة هنا وهناك، يمارسون نشاطات متعددة، يعزفون الموسيقى، يقرضون الأشعار، يرددون الهتافات، يتسامرون فيما بينهم، كان مجتمعا مصغرا يمارس حياته بكامل تفاصيلها أمام بوابات القيادة العامة للجيش، تجمع السودانيون بكل أطيافهم وقبائلهم ومشاربهم، جاءوا من كل الفيافي والهضاب والنجوع مستبشرين بفرحة الاستقلال الحقيقي للبلاد، عيد الانعتاق من شرور عصابة آثمة ظلت جاثمة على أنفاسنا ربع قرن من الزمان، جماعة منحرفة الفكر والسلوك، لم يشهد الإنسان السوداني على مر تاريخه الضارب في القدم، شرا كشرهم، ولا سوءا كسوئهم، ولا فسادا كفسادهم، خرجوا من عباءة الشيطان وحملوا وعوده الغرورة، أشاعوا العنصرية والجهوية بين أبناء الوطن الواحد، قتلوا الإنسان، ودمروا الأخلاق، حرفوا الكلم عن مواضعه وشوهوا دين الله، عربدوا في البلاد، وعاثوا فيها قتلا وسحلا وفسادا وتجهيلا.
وعندما ضاق الحال وازداد البؤس من سوء إدارتهم، انتفض الشعب بكل قوته ورماهم في مزابل تاريخه، من الحكمة دوما أن تترك لضحاياك شيئا ما يخشون فقدانه، وبعض الخيارات ليفكروا فيها، لكن أن تكون ساذجا وتأخذ كل شيء فستواجه بالثورة حتما ...
جاء الناس بالآلاف، بالقطارات والسيارات والأقدام ليحجوا إلى أرض الاعتصام من الشمال جاءوا، والجنوب والشرق والغرب، جلبوا معهم ابتساماتهم، وأهازيج فرحتهم، وحمدهم لله، نصبوا الخيام وأقاموا الاحتفالات، وشاركت المرأة السودانية بطريقة لم يعهدها السودان في كل ثوراته الماضية، كن يتقدمن المواكب، ويصدحن بالهتاف، يقفن في وجه قنابل الغاز والرصاص، ويتجلدن أمام بطش زبانية النظام الساقط، ألهمن الجميع فتحققت الانتفاضة، ونجحت الثورة كما لم تنجح من قبل.
أتوسد يد «هيام» ونتمشى وسط الجموع، نتشارك فرحتنا وأحلامنا ومستقبلنا معا، نساعد كغيرنا من المتطوعين من الأطباء الذين جاءوا ليخدموا الإنسان ، في الخيام الطبية المنتصبة في أرض الاعتصام.
تكاتف الناس وتطوعوا للقيام بكل شيء، جاءت النسوة وتطوعن في طبخ الطعام وتوزيعه على الجموع، تشارك الناس ما لديهم لسد الاحتياجات، وساهم المستطيعون بالمال والغذاء والدواء، أقمنا احتفالاتنا على وقع الموسيقى ودقات طبول النصر، صنعنا الجمال واحتفلنا بالحياة أمام أسوار القيادة، رقصنا وغنينا، ضحكنا جذلا وبكينا فرحا، وامتدت الأيادي المتشابكة تطمئن بعضها بعضا، رسمنا آمالنا على الأسفلت وعلى الحوائط المنتصبة، تشاركنا الحلم الواحد والمصير المشترك، وانطلقت الألسن تلهج بذات الهتاف.
كانت أياما حالمة في ذاكرة شعبنا الجمعية وذاكرة التاريخ.
ولما ضاقوا بنا ذرعا ولم يستطيعوا معنا صبرا، قرروا أن يئدوا حلمنا في مهده.
عندها تغير كل شيء. •••
من هم؟
هم الوجوه الجديده للنظام القديم في النظام الجديد، أصحاب المصالح المتشابكة، من فرضوا أنفسهم أوصياء على الثورة، وتطفلوا عليها كالفطريات الضارة بالقوة وحدها ولا شيء سواها، هم اللطخة السوء السوداء في جبين الثورة الناصع.
في ذلك اليوم المشئوم من الشهر الكريم رمضان، كانت الكهرباء قد انقطعت عن كل ساحة الاعتصام، أقمنا تجمعاتنا على ضوء الشموع والهواتف المحمولة، السماء تغازلنا برذاذ خفيف منعش، تسربت لنا الأخبار أن الأجهزة الأمنية في الخارج تمنع الناس من الدخول لساحة الاعتصام بالقوة، وتناقل الهمس المتشكك أنهم يخططون لشيء بليل.
تأكد الشك عندما بدأنا نسمع أصوات طلقات الرصاص من بعيد ناحية مستششفى العيون، وجسر السكة حديد، عم الارتباك بين الجموع، وتصاعدت بعض الشهقات، كانت نظرات الخوف والترقب على العيون اللامعة تنتظر في حذر، مع ازدياد دوي الرصاص صرخ أحدهم: «احموا المتاريس.»
حماس مفاجئ عم الجميع واندفعنا ناحية المتاريس الخارجية، عندما وصلنا لأول التروس كان ما رأيته لا يصدق.
لا أستطيع أن أجزم ما الذي حدث بالضبط، فقد كان كل شيء يحدث بسرعة.
كان صوت الرصاص أشد ضجيجا، عشرات الجنود من بعيد يتقدمون ناحيتنا ببطء وثبات، وهم يطلقون وابلا كثيفا من الرصاص على الشباب المتمترسين خلف الترس الأول، أصوات الهتافات والصراخ تعلو وتتداخل وتتردد في كل مكان فلم أعد أفهم حرفا .
صبي عاري الصدر ساقط على مقربة من الترس، وبرغم الظلام المنتشر استطعت أن أرى كتلة الدماء المنتشرة على صدره، اثنان من الثوار يزحفان على الأرض خلف الترس ويحاولون سحب صديقهم الجريح، بينما الرصاص يتطاير فوق رءوسهم بجنون لا يصدق.
أحدهم كان يجري تجاه القوات المتقدمة وهو يحمل أحجارا ويقذفها على رءوسهم، لم يتقدم كثيرا حتى سقط على الأرض فجأة وهمدت حركته، أصابوه برصاصة في رأسه مباشرة.
رصاصة أخرى أصابت واحدا آخر، كان يقف أمامي مباشرة، ثم تهاوى على الأرض كبالون مثقوب، تقدمت ناحيته زحفا بسرعة، وسحبته من يده خلف كومة من الأحجار.
الرصاص يقعقع فوق رءوسنا حتى أضاء الليل، وأصوات متداخلة تصدم أذني، صراخ، شتائم، بكاء.
يداي تتحركان بسرعة وثبات، أتصرف كشيء آلي، الفرق بين الموت والحياة جزء من الثانية، وأي وقت أضيعه في التردد يكلف حياة أخرى، مزقت قميصه من على صدره بسرعة، الدم يغلي ويتدفق بغزارة من ثقب قبيح في صدره، مكان القلب، كومت جزء من قميصه ككمادة لأوقف النزيف، ومزقت المتبقي منه بأسناني لأصنع رباطا بدائيا وأنا أنظر حولي في سرعة بحثا عن المصاب التالي، طعم الدم في فمي مالح وحذق، عقلي حاد متوثب، وقلبي يخفق بجنون.
كان يمسك بمعصمي بقوة بيده الملوثة بالدماء، وهو يحاول قول شيء ما، قربت أذني منه، لكن قواه خانته، فخرج صوته فحيحا هامسا طويلا هو آخر نفس يغادره، تراخت قبضته حول معصمي، وفاضت روحه إلى بارئها.
لا وقت للحزن، لا وقت للبكاء، طويت اللحظة خلفي في لمح البصر، كما طويت سنواتي السابقة، عقلي سلاح حاد متوثب، يعالج المعلومات ويتعامل مع الوقائع بصرامة.
أسبلت عينيه بأطراف أصابعي، وقفزت ناحية شاب آخر ملقى على الأرض منكفئ على وجهه، قلبته على ظهره وتحسست النبض في عنقه، كان ميتا، أصيب برصاصتين في الرأس والصدر، الملاعين يطلقون الرصاص بقصد القتل مباشرة.
علم الثوار بمحاولة اقتحام الترس، فتدافعوا من ساحة الاعتصام ليؤازروا إخوانهم المرابطين فيه، يصرخ أحدهم زاعقا: «الترس ده ما بنشال، الترس وراهو رجال.» تتعالى الصرخات الحماسية ويرددون الهتاف من خلفه، بينما يتطايير الرصاص من فوقنا كالمطر.
أتلفت حولي وعيناي تدوران في محجريهما في جنون، أين بقية المصابون؟ سمعت صوت الأنين بجواري فهرعت ناحيته زحفا على ركبتي، كان صبيا صغير السن، من النظرة الأولى قدرت أنه دون العشرين، يئن من بين أسنانه وهو مستلق على ظهره، بحثت في جسده بسرعة حتى وجدت مصدر النزيف، كان قد أصيب برصاصة في ساقه، لكن الرصاصة لم تستقر في جسده ولم يكن الجرح عميقا لحسن الحظ، بحثت في جيوبي بسرعة، أخرجت القفازات المطاطية، مزقتهما وربطتهما مع بعضهما في شكل ضمادة بلاستيكية وضعتها مكان الجرح وطلبت منه أن يضغط عليها، مزقت كم قميصي والتفت خلفي.
ما رأيته في ذلك المكان، وفي تلك اللحظات بالتحديد، كان شيئا لا يصدق.
استمات الثوار في الدفاع عن الترس بشجاعة منقطعة النظير، برغم وابل النيران الذي انفتح عليهم كالجحيم، كان هؤلاء يواجهون نيران الآلة العسكرية بصدورهم العارية وأصوات هتافاتهم فقط، يتقوون ببعضهم البعض ويندفعون أمام الجنود ويقذفونهم بالحجارة في بسالة محيرة حتى أربكوا الغزاة، وقد نجحوا فعليا في تأخير اقتحام المكان وجعل الاقتحام أكثر صعوبة للقوات المعتدية، يسقط أحدهم فيقفز مكانه ثائر آخر، يحمل الأحجار والمتناثر من الحطام، ليدعم به ما انقض من الترس المنتصب في وجه الجند، بينما يزحف آخرون على بطونهم لسحب وإنقاذ المصابين منهم والتقهقر بهم للوراء ليحل مكانهم المزيد، يصرخ أحدهم «الترس ده ما بنشال، الترس وراهو رجال.» فيتردد الهتاف الحماسي من خلفه بصوت عال، يتلقفه الآلاف في ساحة الاعتصام فيرددونه في هدير هائل يهز الأرض فعليا.
إيدك على إيدي
زيد الترس قوة
الترس ده ما بنشال
الترس وراهو رجال
كانوا رجالا فعلا، أقاموا ملحمة بطولية عظيمة تتقزم أمامها كل بطولات قصص التاريخ، شباب يافع يقف في ثبات لا يصدق، أمام ترسانة نارية هائلة، ويقدمون أنفسهم في شجاعة وسخاء ليحموا إخوانهم وأخواتهم في ساحة الاعتصام.
لففت ساق الفتى المصاب وطلبت منه أن يستمر في الضغط على الجرح، وسألته: «هل تستطيع أن تمشي ؟»
هز رأسه مؤيدا، فأطلقته ونصحته أن ينسحب زحفا، هرعت لآخر مصاب في كتفه، شرعت في تعرية مكان الإصابة، فأمسكني من ساعدي وأشار لشاب آخر ملقى على مقربة قائلا: «أنا بخير، أنقذ هذا.»
سحبت الآخر ورحت أبحث في جسده بسرعة، أنفاسي تتلاحق وعقلي كآلة صماء، يشاهد الإصابات ويعالج المعلومات وينبئني بالحلول، يداي تتحركان بسرعة وإحكام، أضمد الجروح، أقدم الإسعافات الأولية، أسحب المصابين خلف تحصينات آمنة، أنفاسي تتلاحق وقلبي يخفق بعنف.
صوت الرصاص يتردد من عدة اتجاهات، وهتف أحدهم أنهم قد بدءوا في اقتحام المكان من كل الاتجاهات في توقيت واحد، انتشر دخان قنابل الغاز وراح الجميع يسعلون، ينطلق وابل النيران فيسقط واحد آخر، وآخر، وآخر، وآخر.
وبدا أن الموت لن ينتهي.
وبرغم ثبات الثوار واستماتتهم في حماية التروس، تضعضع صمودهم في النهاية أمام كثرة المقتحمين وقوة سلاحهم الناري. وبدءوا في الانسحاب للداخل من كل الاتجاهات في تكتيكات متوازية لحماية المتاريس التالية.
سقط الترس الأول.
فالثاني ...
فالثالث ...
فالرابع!
بدأت القوات في اقتحام المكان، واستمر مسلسل سقوط الشباب أمام فوهات المدافع الرشاشة، بينما تردد من على البعد صوت أذان الفجر يتردد من مكان بعيد، مناديا ببدء يوم جديد من رمضان. •••
مع شروق الشمس بدأ الجنون الحقيقي.
بداية الطوفان كان باقتحام فرقة أقرب لفرق الإعدام الجماعي، التي تقرأ عنها في تاريخ الحروب النازية، ومذابح الحروب العالمية، أكثر من مائتي جندي مسلح اقتحموا المكان من الاتجاهين الشرقي والغربي للسكة حديد، وراحوا يطلقون الرصاص على الرءوس مباشرة.
قتلوا كل الثوار في السكة الحديد دون رحمة ودون أن يطرف لهم جفن.
كانوا مشحونين بكراهية عظيمة ضدنا، بدت البغضاء في وجوههم، وأعينهم تضج بالمقت. كانوا يضربون بشدة، ويقتلون بغل، وكأنه قد تمت تعبئتهم على أن الثوار السلميين في ساحة الاعتصام هم أسوأ شيء في الوجود.
من الصعب أن أصف كل شيء، كانت مذبحة حقيقية تجري على قدم وساق، ما حدث كان خارج نطاق إدراكي لحظتها، ولوقت طويل ظل شعور الحلم مسيطرا علي، كان التخبط عظيما، وبدأ الشباب الأعزل يتساقط أمام رصاص القناصة، جريمة بربرية كاملة ضد الإنسان والإنسانية على مرمى حجر من قيادة قوات الشعب المسلحة، وبعض عناصرها ممن وقفوا خلف الأسوار يتأملون المذبحة التي تجري أمامهم، كأنهم يشاهدون عرضا سينمائيا شائقا.
مع بدء موجة الهجوم الثانية، اقتحم المكان الآلاف من الجند انتشروا في جنبات ساحة الاعتصام وبدءوا يهجمون على المدنيين، متسلحين بالعصي والسلاح الناري وحقدهم العميق.
رن هاتفى فجأة، كانت هيام، تبكي وتصرخ، من بين أصوات صراخها المستغيث فهمت أنهم يحاولون اقتحام خيمة الأطباء، بينما يستبسل زملاؤهم في معركة حقيقية للدفاع عنهم خارجها، حتى لا يقتحموها على الفتيات في الداخل.
لم أشعر بنفسي، أصرخ باسمها وأنا أجري وأتعثر وأسقط وأنهض، أصرخ باسمها وأنا أقفز فوق الأجساد المتناثرة، لا أعرف إن كانوا أحياء أم أمواتا، أتعثر وأسقط وأجري ... أتفادى الاصطدام بأحد من المئات المتدافعين للهروب من مكان المذبحة، أتجاهل صوت الرصاص الذي يدوي فوق رءوسنا، وأصوات الصرخات المتداخلة، وشهيق البكاء والتوسلات والأنين. أعبر المكان وقد تحول في ساعات معدودة إلى قطعة من الجحيم، مكان كابوسي لم يرد في أسوأ خيالات دانتي وهو يصف الجحيم.
عندما وصلت المكان وقفت مبهورا.
انتهت المعركة سريعا، كانت جثث الأطباء متناثرة في الخارج، بينما راحت الخيمة تتهاوى على الأرض وقد احترقت تماما.
كانوا يتحسسون جسدها.
كانوا يتصارعون من يحصل عليها أولا.
عندما فرغوا من اغتصابها، اكتشفوا أنها كانت ميتة من البداية!
لا يمكنني أن أصف لك جزءا ضئيلا مما رأيته هناك.
الموت بكل أنواعه.
الفظاعات لا يمكن وصفها. (شاهد عيان على مجزرة فض اعتصام القيادة العامة - قناة
BBC .)
3
بدأناها معا وستختمها أنت، مسكا وحبا.
أصبحنا على صبر من الله وقوة، حسبنا ذلك وكفى. (شجن.)
تباطأ الزمن تماما، حتى توقف.
شعرت بنفسي أنفصل عن الوجود.
تلاشى صوت الرصاص، وتلاشت الصرخات، تلاشى كل شيء إلى مؤخرة وعيي، لم يبق سوى صوت تنفسي الثقيل، وصوت تأجج النيران في ما تبقى من الخيمة.
هيام ماتت!
صوت صرخاتها لا يزال يتردد صداه في ذهني برنين قوي متصاعد.
هيام ماتت !
صوت أزيز حاد يتصاعد في أذني، ودقات قلبي تتضخم ويمتزج صوتها بصوت الأزيز الحاد فيطغى على كل شيء.
يا أرحم الراحمين.
الخيام المحترقة على مد البصر تحت نفق السكة الحديد، وسمعت صوت صراخ مكتوم لفتاة ناحية إحدى الخيم المحترقة، لم أشعر بنفسي، اندفعت بسرعة ناحية مصدر الصوت، الدخان يفعم المكان، وأصوات السعال والبكاء، كانت فتاة ساقطة على الأرض وتبكي في إعياء وقد بح صوتها، ملابسها العلوية ممزقة، يقف أمامها جندي ويعالج سحاب سرواله، من الوهلة الأولى فهمت كل شيء، لم أفكر كثيرا، حملت كتلة إسمنتية من على الأرض، رفعتها بكلتا يدي، وهويت بها على مؤخرة رأسه، فسقط على الأرض بلا حراك، خلعت قميصى وطلبت منها ارتداءه ثم اندفعت داخل الخيمة.
إلتقطت أول شخص أمامي بسرعة، وسحبته للخارج، ومددته على الأرض، كانت فتاة متوسطة العمر، أمسكت عنقها وهي تسعل وتشهق للهواء وتبكي، قفزت داخل الخيمة مجددا، وسحبت شخصا آخر، وآخر، وآخر، أصوات الصرخات تتردد لأذني من مكان بعيد، عقلي متوثب متحفز، وكأنما تجمدت كل مشاعري دفعة واحدة، أتصرف بحركة آلية دون وعي مني، صوت الأزيز يتصاعد في رأسي.
رآني أحد الثوار أندفع للخيمة، فصرخ منبها الآخرين: «هناك أحياء في الخيمة.»
شعرت بعدة أشخاص يقتحمون معي المكان، ويساعدون في سحب من تبقى في الخيمة للخارج، «لا إله إلا الله» هتف أحدهم وهو يسعل، الدخان يتكاثف حتى أحرق عيني وأشعل صدري، أحاول أن أتنفس فأشهق وأسعل، أسعل وأسعل حتى سقطت على الأرض وأنا أجاهد للهواء.
شعرت بيد قوية تسحبني للخارج ثم تمددني على الأرض، أحدهم صرخ محذرا: «إنه يحترق.»
أياد تمددني على بطني، خلع أحدهم قميصه وراح يضرب به على ظهري لإخماد النيران، انفلت من أيديهم في جنون وقفزت ناحية الخيمة المحترقة، لا بد أن أنقذ الأحياء، لا بد أن ...
أمسكني أحدهم بقوة من الخلف، صرخ في وجهي: «لقد ماتوا ... اخرج من هنا!» ثم جرى مبتعدا.
وقفت مشدوها، وتلفت حولي.
أشعر أن كل شيء يحدث كأنه مشهد تمثيلي واسع النطاق، الأصوات تتردد لأذني من مكان بعيد، ومشاعري متبلدة.
مجموعات من الجنود تداهم الفتيات في خيامهن، ثم يدوي صوت صراخهن المستغيث، يتناوبون عليهن كالضباع تحت سمع وبصر الجميع، يضحكون، ويتسامرون، ويتشاجرون فيما بينهم من منهم ينال دوره تاليا، ولما لم يكفهم الاعتداء عليهن، علقوا ملابسهن الداخلية على فوهات مدافعهم، إمعانا في الإذلال، قلبي يخفق في عنف وأنفاس تتباطأ، شهيق زفير، شهيق زفير، صبي يسند صديقه المصاب على كتفه، وهو يحاول الهروب من المكان، يعترضه أحد الجنود ثم يطلق النار على رأس المصاب من على بعد سنتمترات، فيتهاوى على الأرض، يقول له ساخرا بلهجته العربية الكسيحة أن يأخذه للعلاج، صوت تنفسي يزداد تباطؤا، وعقلي يتوثب في جنون، لا يزال شعور الاغتراب مسيطرا علي، أحس أنني أشاهد الجميع وراء شاشة سينمائية ضخمة، وصوت رنين حاد في أذني.
مجموعات أخرى راحوا يحملون المصابين على سيارات الدفع الرباعي، ويربطونهم بأحجار إسمنتية ثقيلة ليرموهم في النيل وهم أحياء، تناهى إلى مسامعي من بعيد، تتناهى إلى مسامعي من بعيد، أصوات بكائهم وتوسلاتهم لهم ليطلقوا سراحهم، كانوا أطفالا وصبيانا.
يا إلهي، منذ خلقت البشر لم تشهد أرضك وحشية للإنسان ضد أخيه الإنسان كما فعل هؤلاء، انتهكوا شرف النساء، ودنسوا قدسية الحياة، مارسوا البطش وتفننوا في القتل والتعذيب.
يحملون العصي والبنادق الآلية، ويقذفون اللهب من سلاح ينفث النيران على الخيام، لا يبالون بالأحياء في الداخل، نساء أم أطفالا أم شيوخا، لا يقيمون وزنا لحياة، تتصاعد ضحكاتهم مع تصاعد أصوات صرخات ضحاياهم ومن اختبئوا داخل الخيام، من لا يتحمل الموت حرقا فيخرج هربا من داخل الخيام يطلقون عليه الرصاص في الحال، كأنهم في نزهة صيد ممتعة.
وأغمض عيني وأتنفس بعمق.
شهيق ... زفير ... شهيق ... زفير!
أحرقوا نساء أم كارنقا ووادي هور في خيامهن، نساء جميلات وأطفال جاءوا ليشاركوا في احتفالات الثورة، أدين الرقصات الفلكلورية الاحتفالية في ليالي الأهازيج، وشاركن في إعداد الطعام للثوار.
أحرقوهم بأطفالهم بلا رحمة أو شفقة أو دين!
يحاولون أن يقتلوا الثورة، ويسرقوا منا الحلم فيوأد في الصدور، يحاولون أن يثيروا الرعب والخوف في النفوس فتتلاشى آمال من بقي منهم حيا، ويقنعون بواقعهم الجديد.
وهل يظنون أن ينسى التاريخ آثارنا؟!
هل ينسى الشيوخ والصبيان والأطفال، كل اللحظات التي قضيناها مع أحبائنا في ساحة اعتصامنا، كل الأحلام، والأفكار، وأهازيج الفرح ومشاهد البطولة والصمود! هل سيمحو إرهابهم كل مظاهر وحدتنا؟ كم ذرفنا من دموع فرحا، كم ضحكنا ورقصنا وغنينا وابتهلنا لله؟! يظنون أن إرهابهم سيسحق أحلامنا وتطلعات الحرية والسلام والعدالة، فيكون مصيرها الفناء المادي مثل فناء أجسادنا.
مارسوا بربرية مطلقة يرق لها قلب جنود المغول أنفسهم، وحشية لم تشهدها كل معارك القرون الوسطى، قتلوا العزل وهم يتعلقون بأسوار بوابات القيادة العامة، حينما ولوا وجوههم ناحية جيشهم الوطني ليحمي أرواحهم من جحيم نيرانهم.
شهيق ... زفير ... شهيق ... زفير!
تماسك يا مازن، هذا ليس حقيقيا، مجرد كابوس شنيع ستستيقظ منه في أي لحظة.
شهيق ... زفير ... شهيق ... زفير!
يصعب علي تخيل أنني أشاهد كل هذا حقا، هذه الجثث المنشرة، وهذه الصرخات ورائحة الموت التي تفوح من المكان، هذا لا يمكن أن يكون حقيقيا، هذا الجنون لا يمكن أن يكون إلا من صنع خيالي.
عندما سمعت صوت الأزيز المكتوم، وشعرت بتفريغ الهواء بجانب أذني، لم أشعر بأي ألم، فقط داهمتني انتفاضة قوية في جسدي، كالقشعريرة، وخزة حادة بين الضلوع، وسائل دافئ راح يسيل على صدري.
كانت لحظة إصابتي بالرصاصة هي اللحظة التي أفقت فيها من ذهولي، عادت الرائحة، وصوت الرصاص، والصرخات التي تدوي في الأرجاء، حتى لم يعد في الكون شيء سوى الصراخ.
وضعت يدي موضع الجرح وضغطت عليه بقوة للتقليل من شدة النزيف، ورائحة دخان البارود تتصاعد لأنفي، وبرودة شديدة الوطء تسري في أوصالي، وقفزت فكرة واضحة جلية لذهني، إنك إن مت تموت واقفا.
أمامي آخر التروس، وآخر خطوط دفاعاتنا المتهدمة، أمشي ناحيته مترنحا، من ماتوا على المتاريس ينادونني، يتردد هتافهم في مخيلتي بطريقة وسواسية.
إيدك على إيدي
زيد الترس قوة
الترس ده ما بنشال
الترس وراهو رجال
الأرض تميد بي وتهتز تحت قدمي، تتمدد وتنكمش كالمطاط ، والمشاهد تتراقص أمام عيني كبندول الساعة وتهتز، فأهز رأسي لتعود الموجودات للتوحد، غيمة ضبابية سوداء تزحف بسرعة على أطراف مجال رؤيتي، تنفسي يتباطأ ويتثاقل.
شهيق زفير ... شهيق زفير!
لا تسقط، لا تسقط، فإنك إن سقطت استسلمت للموت.
أمشي ناحية ما تبقى من الترس المتهدم بساقين مرتجفتين، والأرض تحولت إلى عجين تحت قدمي، أشعر بإرهاق مفاجئ.
الترس ده ما بنشال
الترس وراهو رجال
أصوات الصرخات، أصوات بكاء، أصوات الرصاص والحريق.
لماذا؟ لماذا؟
نحن لسنا كفارا ليفعلوا بنا هذا!
الرصاصة الثانية التي أصابتني من الخلف كان تأثيرها أقوى، سقطت على الأرض عندما لم تقو قدماي على حملي، دمائي تتدفق بغزارة وتسيل على الأرض بجواري.
أنا متعب يا أمي، أريد أن أستجم قليلا.
من خلال مجال رؤيتي المهتز أرى مجموعة من الشباب مستلقون على الأرض على وجوههم، بينما يقف حولهم المسلحون ويلهبون ظهورهم بالسياط، أسمع صرخات فتاة تكالب عليها الذئاب في مكان قريب، وأرى الدخان الأسود القاتم للخيم المحترقة، يتصاعد لعنان السماء مع أرواح من قضوا فيها.
وأنظر حولي بعينين غائمتين، كانت لافتة «شجن» على الأرض بجواري وقد تمزق معظمها، وتناثرت عليها الدماء.
بدأناها معا.
وستختمها أنت مسكا وحبا.
أصبحنا على صبر من الله وقوة.
حسبنا ذلك وكفى.
انهض يا مازن.
انهض يا مازن، احم الترس.
قواي تخونني، وأطرافي لا تطاوعني، جسدي مثقل ملتصق بالأرض، وأنفاسي تزداد صعوبة وتثاقلا، أشعر بالبرد والتعب.
لا زال آخر المتاريس أمامي ينتظرني لأحط عليه رحالي الأخير، ومن ماتوا عليه ينادونني لأحمي ما تبقى منه، المتاريس هي أمان ثورتنا، دافع عنها بحياتك.
ربما بعد قليل، الظلام يزحف أمام عيني بسرعة، أنا.
ظلام! ...
لا بد أنني فقدت الوعي للحظات، عندما أفقت رأيت «هيام» تقف أمامي بجوار الترس المتهدم وتتأملني، على ملابسها بقايا حروق، وجهها حزين وملامحها ذابلة، وأبي يقف بجوارها يحتضن كتفها بذراعه وينظر لي مبتسما، قال لها في فخر وهو يشير لي: «ولدي الوحيد ... ورث ملامح أمه!» «ما شاء الله ربنا يحفظه!»
أحاول أن أنهض لأركض إليهما وأحتضنها ، لا أقدر ، قدماي مكبلتان بالأرض وجسدي هامد. الدموع تحتشد في عيني وغصة عجز مؤلمة في حلقي، «هيام» أنا آسف! وصلت متأخرا، لم أستطع إنقاذك، لم أستطع حمايتك منهم.
قالت لي بصوت كأنه صدى من واد بعيد: أحمي الترس.
الترس!
أحاول أن أصرخ باسمها فيتحشرج صوتي في حلقي.
أنا آسف ...
أنا آس...
ظلام ... ...
أفقت مجددا على أياد متعددة تلتقطني من على الأرض، وتحملني على الأكتاف، أحدهم يهتف لي من واد بعيد: «اصمد، اصمد!» أصوات صرخات متداخلة، أصوات رصاص، صوت لهاث ثقيل.
ساحة الاعتصام من البعد بدت لي كبلاد حزينة، تلملم جراحها بعد حرب ضروس، بقايا متناثرة هنا وهناك، وجنود يجوبون المكان، وسحابة دخان عظيمة تصل عنان السماء.
وكالتماعة برق خاطف برقت أمام عيني ناصعة جلية.
رأيت أمي، في ملابسها السوداء، تجلس أمامي على العنقريب المنسوج بالحصير، وسط الأجساد المتداخلة، والدخان، والحريق، تنظر لي بثبات غير عابئ بكل هذا الصخب، وجهها جامد، ملامحها صارمة، وفمها مشدود بحزم، في عينيها تساؤل حائر.
وهل كان الأمر يستحق أن تموت من أجله؟
تلك المعركة كانت بداية لا بد منها يا أمي، ولكل شيء غاية ينتهي إليها، نحن وهم ضدان، عدوان في معركة، معركة حياتنا وحريتنا، وكل الحروب سجال، ميلادنا بداية وموتنا ليس النهاية، وإن متنا، لن تموت الثورة في دواخل صغارنا بموتنا.
حياتنا صمود وتحد، وموتنا انتصار، وعبرة الأشياء خواتيمها، فإن لم تنته لنا، ولم تسقط بعد كما تخيلنا، وإن بدا أننا قد هزمنا، فلأن النهاية لم تأت بعد، خسرنا المعركة ولم نخسر الحرب، وإن لم يلح وهج النور في أفق النفق، فإنه لا بد هناك، ونحن لا بد هنا، وإن قدمنا حياتنا ثمنا لحريتنا، فلا بأس!
هذه الثورة جاءت لترد الضيم يا أمي.
جاءت لتعاقب، وتكنس، وتنتقم.
لكنني الآن متعب، أريد أن أغمض عيني قليلا وأستريح.
افترت ابتسامة شاحبة على ثغرها، قالت لي جملة واحدة سمعتها في ذهني بكل وضوح: «حصنتك بالذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء.»
اهتزت صورتها أمام عيني ، فهمست مناجيا خيالها: «سامحيني!»
ولدي العوض ود السرور ... زدتني فرح وحبور.
تكبر تكون دكتور ... وتبقى لأمك زي ود سرور.
4
لا بأس على قلبك.
لا بأس على روحك.
لا بأس عليك.
تماسك، الدعوات ترافقك، والسلوان من السماء متنزل عليك.
نحن معا، لن يكسرنا شيء. (شجن.)
انتهت مذكرات «مازن».
هذا كل ما وجدته من مذكراته، وما استخلصته لي والدته من بين متاعه من أوراق، قالت لي بهدوء وهي تدفع لي رزمة الأوراق: «ابني كان مثلك، يحب الكتابة والخيال، لا أعرف إن وجدت فيها ما تبحث عنه، لا أعرف إن وجد فيها آخرون السلوان، لك مطلق الحرية في التصرف فيها كما تشاء.»
لم تكن تبكي أو تدمع، لم تبد حزنا، وجهها جامد وملامحها صارمة، فمها مشدود بحزم، هادئة كانت، إلى حد مخيف، وكأنما قرأت انعكاس أفكاري على وجهي المتسائل، قالت وقد انفرج فمها الحازم قليلا بابتسامة شاحبة: «منذ وفاة «مازن» لم أبك، وقد انتهرت النساء اللائي زرنني ومنعتهن من البكاء عليه، لم نقم له سرادق عزاء، سأسعى في حق من قتلوه. عندما أرى هؤلاء القتلة على حبال المشانق، عندها سأذرف الدموع.»
الطريقة التي تهدج بها صوتها عندما نطقت اسمه، أخبرتني أن ملامح وجهها الصارم تجاهد شيئا ثقيلا في قلبها.
لا يجب للأمهات أن يرين أبنائهن يموتون.
لا يفترض أن يدفن الآباء فلذات أكبادهم.
قبلت رأسها وانصرفت صامتا.
توفي «مازن» عقب كتابة هذه المذكرات بأيام متأثرا بجراحه في المستشفى.
قالوا إنه كان يفيق من غيبوبته، فيحمل الأوراق ليكتب في مذكراته، ثم يغيب عن الوعي مجددا، حتى فاضت روحه إلى خالقها.
يعلم الله كم سعيت في مقابلته قبلها، لكنني استغرقت وقتا طويلا حتى وصلت إليه. وصلت متأخرا جدا كعادتي في طلب كل شيء، على كل حال هو قد شرح كل شيء في مذكراته فلم يترك مجالا لمزيد من الأسئلة.
أعرف أنه قد مات قبلها، في ذات اللحظة التي فقد فيها محبوبته في خيام القيادة، وخطت فيها قدماه حدود المكان محمولا على الأكتاف، لم يعد حيا ، وككل أبطال الميثولوجيا الإغريقية، كان الموت مأساته الوشيكة، والحتمية، تنازعته بلاده ما بين جنة الخنوع وجحيم الموت، فاختار أهونهما.
وكأنه قد تنبأ بموته، وعرف أنها لحظاته الأخيرة في الدنيا، فترك في نهاية مذكراته رسالة يودع فيها والدته، ويطلب منها أن تعفو عنه وأن تدعو لروحه بالرحمة، امتنعت عن نشرها لخصوصيتها.
كنت جميلا جدا يا صاحبي.
صادقا مؤمنا بحلمك ووطنك، ذهبت قويا ولم تترك لهم سوى العار.
عسى أن تجد جنتك التي بحثت عنها كثيرا.
عسى أن تجد بين يديه بعض الإنصاف.
قدماي تسوقانني بلا وعي مني ناحية القيادة العامة، أو هي رغبة دفينة لا أعي بواعثها، أحمل مذكراته وبعض أوراقي، وأمتطي حزني بين الجنبات.
الخرطوم هادئة على غير العادة، تشتم فيها رائحة الحزن، بدت لي المدينة كأن لم أرها من قبل، مدينة ثكلى.
توقفت أمام أسوارها صامتا، وجلت بنظري في أرجائها فإذا هي هادئة، موحشة، صامتة كصمت القبور، بعد أن كانت تضج بالحياة، تضيق أنفاسي بضيق صدري المنقبض فأشهق طلبا للهواء، ومشاعري محتقنة حتى لتوشك على الانفجار، رأسي مشحون بأفكار شتى، تتطاير بعبثية بغيضة، ومن حيث لا أدري تسللت دمعة دافئة، انسلت على خدي مسرعة.
رأيت شبحا مبهما من بعيد يمشي الهوينى في ساحاتها، كان «مازن» يجول بين الجدران الصامتة، توقف لبرهة، نظر لي صامتا نظرة طويلة حتى خفق قلبي، هممت أن أهتف له مناديا لكن تلاشى شبحه بغتة أمام عيني الذاهلتين.
جلست مستندا إلى جذع شجرة قريبة لأسكت ارتجافة ساقي، رأيت مجموعة من الأشباح تظهر في فضاء المكان، ورأيت «مازن» من بينهم، يجول في الأرجاء متقلدا يد «هيام»، يوزع الطعام والماء على المعتصمين، ويرقص مع أناشيد الثورة، وسمعت لحنا بعيدا يتردد لمجموعة من الشباب تهتف في تناغم.
يخوانا الشااااي
الشاي بيجاي
شاي ما عادي
بي موية صحة
يخوانا الشااااي
الشاي بيجاي
شاي ما عادي
بي موية صحة
يتلاشى الصدى سريعا ...
وأظل مشدوها مع السراب ...
كيف يكون هذا حال من سمع فقط! فكيف بمن عاش أحداثها بالفعل؟!
أي رعب وأي وقت عصيب قضاه هؤلاء المساكين!
أي إرهاب؟
أرهف السمع فيتردد صدى أصوات عدة مختلطة، صوت رصاص، صرخات رجال، وأطفال، واستغاثة امراة تكالب عليها الضباع.
وأشم رائحة الدم الطازج المسفوك.
رائحة الغدر.
الشمس تطل على الموجودات في استحياء، تعتذر خجلا عن ما حدث بالأمس في غيابها، والإله صامت، ينظر لكل شيء في هدوء غامض.
منذ بداية التاريخ، لم تشهد الخرطوم رعبا كالذي كان، لم تشهد مثل هذه الوحشية من أناس مجردين من أبسط مقومات الإنسانية، والرجولة.
جاء لقطاء الخارج، وسواقط التربية والإنسانية، على سيارات الدفع الرباعي والبنادق الآلية، فاستحلوا دماء العزل، وشرف العذارى، وكرامة الإنسان السوداني، ما حدث في دارفور حدث في قلب الخرطوم، تكرر سيناريو التنكيل والتهجير والقتل المجاني واغتصاب النساء والرجال.
وفي غفلة من التاريخ، مات من يستحق الحياة على يد من لا يستحق الوجود.
قتل الجندي الطبيب والمهندس، وسجن الجاهل المعلم.
استباحوا البلاد بطولها وعرضها، بكل خسة ووضاعة، واستقووا على العزل، في معركة غير متكافئة، على مرأى ومسمع من جيوش وطنية مدججة، لطالما تغنينا لها وبها، بعد أن ظننا أنها وجدت هناك لتحمينا.
كنا، بالطبع، حمقى.
ولسخرية الواقع الفجة حد المرارة، وقف من يفترض به الحماية خلف الأسوار متفرجا، بينما هب لها من يفترض حمايته، حمى ثورته شباب يافع أعزل، وأطباء كانوا هم جيش بلادهم الحقيقي، ونساء باسلات، كن عورة الأمس، فأصبحن ثورة اليوم.
مأساة فجة ومجزرة حقيقية ستجد مكانها بارزا في كتب التاريخ، شباب عزل من كل شيء إلا بعض حلم عن وطن جديد، فاستكثروا الحلم عليهم.
وكأجاممنون المحارب الإغريقي إذ عاد من حربه ظافرا منتشيا، فغدر به أقرب الناس إليه، ومن استأمنهم على نفسه.
وأتنهد عميقا وأنا أرى أشباحهم تجوب المكان مجددا، وفي مخيلتي، وكأنما لتؤكد حياتها ووجودها، وإصرارها على تخليد هذه الأيام أو حماية ثورتها، يتحلقون في دوائر مجتمعين ويصدحون بالأناشيد.
أراه محمولا على الأكتاف هاتفا فتردد من خلفه الجموع بصوت هادر.
شهداؤنا ما ماتوا
عايشين مع الثوار
المات ضمير خاين
حالفين نجيب التار
أستاذ كتب قصة
أحمد كتب قصة
نقراها للأجيال!
قصة وطن شامخ
معروف وطن ثوار
محجوب رسم خارطة
راويها بي دمو
أثبت بأنو شهيد
كل الوطن همو
شهداؤنا ما ماتوا
عايشين مع الثوار
المات ضمير خاين
حالفين نجيب التار
نتلاقى في الثورة
شايلين هموم جيلنا
مسلم على وثني
حلفاوي شلكاوي
تسقط عقب نتلم
نقدل على جروفنا
دم الشهيد ما راح
والله ما بنرتاح
كل النزيف الساح
لابسنو نحنا وشاح
مكتوب عليهو عديل
فليسقط السفاح
فليعدم السفاح!
وقبل أن تمضي، إليك نبوءتي ورؤياي!
قبسا من بعض هتامات الحكمة الأولى، ولفائف التاريخ، وبشارات الأنبياء، ومواعظ التاريخ.
لا تستهن أبدا بصرخة ثائر أعزل، وهدير آلاف الحناجر المدوية بهتاف سلميتها.
ومثل ألمك يتألمون.
حين يسطر اسمك في كل كتب تاريخنا، وأحاجي فخر الجدات، وروايات البطولة والنضال. وحين يختلط الأبيض بالأسود، وتتلاشى الفنارة خلف الضباب، سيردده أبناؤنا في مدارسهم ويلتمسون به درب الحق والنضال، ويميزون به الخبيث من الطيب، وكل الشوارع والمآذن والنواصي، ومجالس السمر، ستظل هناك، برهانا على قوة الحق، ونزاهته، وقوة الكلمة في مواجهة فوهات البنادق والدبابات.
ففي البدء كانت الكلمة، ثم الصرخة، ثم النضال.
أما هم يا صاحبي، فلن يجلب لهم التاريخ شيئا سوى العار، سيرونك في بيوتهم، وفي مكاتبهم، سيسمعون صوتك في غرف نومهم، وحيث ولوا وجوههم المكفهرة بالذنب، سيرونك هناك حملا ثقيلا على ضمائرهم وأياديهم الملطخة بدمك، وسيظل شبح سيرتك رعبا مزمنا يطاردهم أينما كانوا، في حلهم وترحالهم، يختبئون منه كالجرذان، هلعا من لحظة قصاص قد تأتي.
وستأتي!
سيربك خبثهم كل صبر وثبات أمهات الشهداء في مواجهة فجيعة فقدان فلذات الأكباد.
وإن لم يجلب لنا قاضي الأرض حقكم وقصاص من قتلوكم إلى حين!
فسيكون لنا في قصاصكم حياة أخرى، عندما تطوق المشانق أعناقهم الآثمة، فلا مفر، ولا مناص.
ما زالت سيرتك فينا، نمضي على أعقابها حثيثا، ونبراسا يضيء لنا بعض الظلمة هنا وهناك.
فما بذلت حياتك لحلمك ووطنك، وجاهدت في سبيلهما، إلا وسيذكر التاريخ تضحيتك، ويذكرنا بها، بعد رحيلك إلى عالم آخر ، سيكتب الجميع اسمك بحروف من نور في كتاب الخلق، وكتاب ذاكرتنا جميعا، فلن يذكر خطواتك الدقيقة على الحياة إلا حلم قاتلت ومت في سبيله.
فأنت، وكل من سقوا نبتة الحرية لم يموتوا، سيموتون حقا عندما نكف عن الحلم، وعن المقاومة.
عندما نكف عن التوحد خلف هدفنا الأسمى، فلا صوت يعلو على صوتنا، ولا قوة على الأرض تسرق أحلامنا.
وإذ تمضي أنت، تنبت الأرض من بعدك ألف شهيد، يرفلون في ذات الدرب، وتردد حناجرهم ذات الهتاف.
هي الشوارع لا تخون.
وهي الحشود لا تهادن، بأمرها يأتمرون، وبأمرك انتهى عهد الرعب والإرهاب والخنوع، فلا زالت شرارة الثورة متقدة في النفوس.
فليطمئن قلبك.
ولترقد روحك بسلام!
فلا بأس على قلبك!
لا بأس على روحك!
لا بأس عليك!
تماسك!
الدعوات ترافقك، والسلوان من السماء متنزل عليك!
نحن معا!
لن يكسرنا شيء.
أتظن أنك عندما أحرقتني
ورقصت كالشيطان فوق رفاتي
وتركتني للذاريات تذرني
كحلا لعين الشمس في الفلوات
أتظن أنك قد طمست هويتي
ومحوت تاريخي، ومعتقداتي!
عبثا تحاول لا فناء لثائر
أنا كالقيامة ذات يوم آت
شكرا وحبا لكم (شجن) (تمت)
تلخيص سريع من الراوي
انتهت قصص مؤلفنا المخبول.
الكثير من الخيال، الكثير من الفلسفة، الكثير من التجديف.
تبقى لدي في بريدي الإلكتروني بعض قصص المؤلف (حوالي ثماني قصص)، لا أنصحك بأن تحبس أنفاسك في انتظارها؛ لأنني لن أجرؤ على نشرها في المستقبل القريب، هي مزيد من الهراء على أي حال.
أتمنى أن تكون بالذكاء الكافي بحيث تأخذ تحذيراتي في المقدمة على محمل الجد، وتعيد الكتاب للبائع مع ابتسامة لطيفة، وأي تعبير يؤكد الحالة من طراز «آه وين يا».
إذا لم تفعل، وكنت أحمق بما يكفي لتشتري الكتاب، فأعلم أنك قد تعرضت لعملية نصب محكمة.
فليعوضك الله!
وكتلخيص سريع على القصص، فرأيي أنها - في مجملها - هدر لورق كان يمكن أن يستخدم في أشياء أكثر فائدة.
كل هذا الهذاء هو نوع من أنواع القيء الأدبي، بأن يخرج الكاتب كل سموم الجنون والسواد بداخله على الورق، أملا في الوصول إلى مرحلة النيرفانا المنشودة.
دعك بالطبع من نرجسيته الواضحة التي تفوح رائحتها من بين السطور، كأن يقحم نفسه في إحدى القصص بلا داع، لمجرد أنه يستمتع برؤية اسمه، أو يتحدث عن ذاته بضمير الشخص الغائب على لسان شخصية ابتدعها، ويمارس الشيزوفرينية بلا حدود.
تلك - لعمري - درجة بعيدة من هوس الذات والتمترس حولها، أعتقد أنه شخص غير ناضج عاطفيا، كأي نرجسي في الواقع، ربما نال الكثير من الدلال من والدته في طفولته، وقد فشل لاحقا في تخطي تلك المرحلة العمرية.
إن أمثاله أكثر من الذباب في هذه الأيام.
أنصحه بمقابلة طبيب نفسي مختص على وجه السرعة، إن بضع جلسات من الصعق الكهربائي المكثف في التجاني الماحي كفيلة بأن تعيده إلى صوابه.
هذا كل ما يمكن قوله في هذا المقام.
الراوي
مهند رحمه مع القراء
مرحبا بك.
أما وأنك قد وصلت إلى خاتمة الكتاب، فلا شك أنك قد استمتعت بمجموعتي القصصية الرائعة جدا «عندما هفهف لباس الليل» أرجو فقط أن تكون قد اشتريت الكتاب، ولم تبخل بالمال في سبيل البحث عن نسخة ال
المسربة، وإلا، فلترافقك لعناتي إلى يوم الدين.
أعرف أنك تفضل شراء هاتف جديد، أو وجبة «كوارع» جيدة من عند الموناليزا، ربما تفكرين في الحصول على نوع جديد من الأيرلاينر أو الأينلاينر، أو مهما يكن اسمه، أو أحمر شفاه جديد بطعم الكرز، على سبيل إغراء «الكراش» ثقيل الظل، ودفعه لاتخاذ الخطوة التالية
1 ...
ربما تفضل، أو تفضلين فعل أي من هذا، عوضا عن إنفاق مالك في كتاب، لكن دعني أقل لك، لا بد للمؤلف من جني بعض الجنيهات، ألا تظن؟
لا بد من حفظ ماء الوجه قليلا أمام الرفاق الذين ضاقوا ذرعا من تطفلي على جيوبهم في جلسات السمر وخروجات شارع النيل، كما بدأ ينتابني شعور مبهم أن «أم محمد» ست الشاي لم تعد على ما يرام، لاحظت أنها دوما ما تقلب شفتيها في امتعاض كلما رأتني قادما، وتدمدم شيئا من بين أسنانها عن الفقر والفقراء، وحظها «الزفت»!
ربما لأن مديونيتي معها شارفت أن تفوق مديونية البلاد الخارجية، أو ربما لديها أسبابها الخاصة، وهو ما أرجحه بكل تأكيد.
أما الأهم من هذا كله، أنني سأحافظ على حياتى!
بعد كل شيء، لا أعرف إلى متى سأستطيع الهرب من «عم حسبو» الجزار!
لا زلت ألازم بيتي بعد المرة الأخيرة التي كاد أن يمسك بي فيها، ولولا لطف الله، وأنني أطلقت ساقي للريح في الوقت المناسب، لكنت من معروضات الجزارة حاليا!
لكنني لن أستطيع أن أراهن على سرعتي في الجري إلى الأبد، ثمة لحظة غفلة ما، أراه يسد الطريق بجسده الضخم كأشنع كوابيسي طرا، ويلوح بالساطور اللامع العملاق في وجهي بابتسامة وحشية منتصرة.
ستقرأ خبر الجريمة في صحيفة اليوم التالي، عندها، أرجو أن تتذكر أنك/ي قد بخلت بالمال من أجل حذاء أو أحمر شفاه، ولم تشتر الكتاب.
والآن، بعد أن فرغنا من فاصل التسول هذا، لننس كل شيء، ونعود للجزء الأهم من الكتاب، والذي يهمني شخصيا.
خطاباتكم.
تلقيت العديد من رسائل البريد الإلكتروني، من قراء أعزاء، عقب معرضي الكتاب الأخيرين بالخرطوم والشارقة، سأقوم بعرض بعضها والرد عليها ها هنا، بإيجاز سأحاول - قدر الإمكان - أن لا يكون مخلا.
الرسالة الأولى، من الصديق: كمال الدين صديق (أمدرمان):
أصبحت مكررا وسمجا أكثر من اللازم أخ مهند، كل قصصك مكررة، كل نهاياتك متوقعة، توقعت كل أحداث رواية «هيبنوسيس» من صفحة الغلاف، عرفت أن عمار والطبيب هما نفس الشخص، وأن «الفصام» هو اسم اللعبة.
أشعر أنك ستكتب لاحقا كتابا بعنوان «قصص مملة جدا» وستجد في نفسك الجرأة الكافية لنشره على أنه عمل أدبي، ثم تنسبه لراو وهمي هربا من غضبة القراء، نصيحتي لك بأن تترك الكتابة وتتفرغ لبيع الفول والطعمية ما استطعت إليهما سبيلا. ⋆
سأحاول يا كمال الدين. ••• - الصديق: عبدالباقي حكاك (الدويم):
أعرف أنك لص، وأشك أنك تسرق قصص كتاب آخرين.
كتبت في أحد كتبك من قبل «قال عمار: ...» هذه الجزئية مقتبسة بالكربون من رواية الأديب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز مائة عام من العزلة «قال أوريليانو : ...» هل لاحظت التشابه؟! هه؟ هل لاحظت؟ نفس الشيء بتغيير الاسم فقط!
وعلى سبيل تكرار المعلومة للحمقى، سأؤكد لك مجددا، أعرف أنك لص، وأشك أنك تسرق قصص كتاب آخرين! ⋆
لاحظت مدى ذكائك يا صديقي، لو كنت تعتقد أنني أتلفت حولي في حذر عندما أجد نصا جديرا بالسرقة، ثم أضحك ضحكة عالية شريرة، وسط الدخان في غرفتي المظلمة المزينة بجماجم الأطفال، فأنت مصيب على الأرجح! هذا ما يحدث بالضبط!
سأحاول أن أكف عن هذه العادة الذميمة مستقبلا. ••• - الصديقة: تينا العسولة العسولة (بحري):
والله ياء مز أناء ما بقراء كتب والكلام الفاريغ ده، لاكين عجبتني صورت الفيسبوك حقتك، واحلاتي آآآناس، لو ماء مجكس أو مرتبيط، الماسنجر بتاعي بعلق، رسل لي في رقم الواسطاب دأآء
099⋆⋆⋆⋆⋆⋆ . ⋆
شكرا «تينا العسولة العسولة»، للأسف لا أملك واحدا. ••• - الصديقة: د. نهال الركابي (باريس):
قرأت رواية «فطومة»، وبرغم تحسري على العشرة دولارات التي أنفقتها عليها، إلا أنها ليست سيئة إلى هذا الحد، قصص الحب والخذلان مشوقة دائما، إن دور المظلوم الأبدي ممتع دوما ويمنح شعورا حريفا بجلد الذات، فالنساء هيستيريات مازوخيات بطبعهن، يتلذذن بشعور اللوعة وتعذيب أنفسهن، حتى لتشعر أن الواحدة منا إذا لم تجد ما تؤلم به نفسها تختلق الألم إختلاقا، وكل الصور المنتشرة في السوشيال ميديا للعيون الدامعة والقلوب الممزقة تمنحك فكرة لا بأس بها عن العقل الجمعي النسوي.
أما فيما يخص الرواية فأعتقد أنها تغرق في الرمزية في كل شيء، وكلا بطليها - الراوي وصديقه «أحمد» - أيقونات رمزية لثنائية نفس الكاتب؛ العاطفية والعقلية، لكن نهايتها سمجة بعض الشيء، لم أفهم ما هو الشيء العظيم والمأساوي من عودة البطل إلى الخرطوم كما صورت الخاتمة، يمكنه أن يعود للقرية مجددا في أي وقت لاحق بأقرب بص سفري من الميناء البري.
هو التهويل إذن!
الخاتمة لم تكن موفقة بأي حال من الأحوال. ⋆
ربما لم تكن توجد باصات، لا أعرف، بدت لي منطقية حينها. ••• - الصديق: سيف الإسلام عجبنا (بري المحس):
نبتت نابتة في عصرنا الحديث تشكك في الدين، وسنة نبينا الغراء، وهي هجمة شرسة غاشمة، لم نسمع بمثلها من قبل، تكاتفت لها كل قوى الشر والبغي من الشيوعيين الملاحدة، والصليبيين، والصهاينة، وقد لاحظت في كل كتاباتك دعواك المبطنة للفجور والانحلال الجنسي والأخلاقي، وترويج الإلحاد والكفر للشباب الغافل، وايم الله إنك لرويبضة حقير، وبوق قذر، تحاول تمرير أجندة الماسونية العالمية والملاحدة الصليبيين الذين يدفعون لكم من الأموال أكثرها، ولبئس ما يفعلون، فلتعلم أيها الزنديق الأشر، أننا سنظل نذب عن ديننا الحنيف، وعن سنة المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
أنا لك بالمرصاد يا عدو الله، وأدعوك لمناظرة ساحقة ماحقة تدحض فكرك السقيم، وتثلج صدور قوم مؤمنين. ⋆
في الواقع لم يصلني الشيك الأخير من الماسونية العالمية بعد، لكن أعدك بأن أخاطبهم في هذا الشأن، وأرد على مقترحكم الكريم فور أن تحل هذه المشكلة. ••• - الصديق: ش. ط. ش. (القضارف):
أنت أفلست يا أخوي، ههههههههههه، علي الطلاق أفلست، وااااااهاهاهاههههههاي، راحت ليك يا ولدنا، هيهيهيهيهيهي ... علي النعمة يا جصلي أنت آخرك جوكي ركشة في الحاج يوسف ... ده لو في عدالة في الدنيا.
سيب العيش لخبازو يا حبيبنا وبطل العولاق. ⋆
سأحاول يا صديقي. ••• - الصديق: أنس. ع (أمدرمان - بيت المال):
لم أستطع قط ابتلاع كتاباتك، هي مصائب أدبية بكل المقاييس، لقد بصقت في وجه «الطيب صالح» و«بركة ساكن» وكل هؤلاء العظماء الذين شرفوا السودان في المحافل الأدبية، فليعوضني الله في المائة جنيه التي أنفقتها على «هيبنوسيس» في معرض الكتاب السابق، فيم كنت تفكر وأنت تتحفنا بكل هذا الهراء؟ يا أخي عيب عليك!
وعلى سبيل التشفي - فلتعلم - قمت بتمزيق الرواية، ثم تبولت عليها مع صديقي محمد، ثم تغوطنا عليها، أنا ومحمد، انضم إلينا ياسين صاحب البقالة لاحقا، ثم أضرمنا فيها النيران ورقصنا حول اللهب المشتعل عراه، كقبائل الماساي البدائية في أحراش إفريقيا، ثم نثرنا الرماد في الصحراء، ورددنا بعض التعاويذ الفرعونية لصرف الأذى.
دعك من الصدمة العصبية، والتكور في وضع الجنين، ونوبات البكاء الهستيري لأسبوع كامل من فرط الاشمئزاز.
شكرا للا شيء. ⋆
العفو يا صديقي. ••• - الصديقة: جوري الرشيد (مدني):
السلام عليكم أستاذ مهند، أنا من أشد المتابعين لقصصك، وأحب أسلوبك السردي المميز. أرجوك لا تتوقف عن الإبداع. ⋆
ما هذه الرسائل الغريبة؟! •••
حسن، أعتقد أنني سأكتفي بهذا القدر من البريد الوارد، وسأحاول الرد على المزيد من رسائلكم المشجعة كلما أتيحت لي الفرصة لذلك.
مهند رحمه
Bilinmeyen sayfa