وكان وجه اليوشا في غسق ذلك المساء يشبه بجبهته البيضاء وعينيه السوداوين وجه مدام أولجا في الصفحات الأولى من تلك القصة الغرامية، فشعر بيلاييف وهو ينظر إليه بعاطفة الصداقة نحوه، وقال له: «تعال إلى هنا أيها الصغير، تعال هنا لكي أراك جيدا».
فقفز اليوشا من الديوان إلى بيلاييف فوضع بيلاييف يده على كتف الصبي النحيف وقال: «كيف حالكم الآن؟». «كان حالنا أحسن من الماضي». - «ولم؟» «مسألة بسيطة. كنت أنا وسونية لا نحفظ سوى الموسيقى والقراءة أما الآن فهم يجعلوننا نحفظ الألفاظ الفرنسية، هل حلقت لحيتك؟» - «نعم» «هذا صحيح، لحيتك قصيرة. دعني ألمسها. هل تؤلمك؟» - «كلا». «لماذا إذا شددنا شعرة واحدة تؤلمنا وإذا شددنا خصلة كبيرة لا تتألم؟ ولماذا لا تربي شعرك في عارضيك؟ هنا يجب أن تحلق شعرك أما هنا في الجوانب فيجب أن تتركه».
ثم أخذ يلعب في سلسلة بيلاييف وقال: «عندما أذهب إلى المدرسة العليا ستشتري أمي لي ساعة وسأجعلها تشتري لي سلسلة مثل هذه ... ماما ... نوط، نعم نوط، أبي له نوط مثل هذا في سلسلة، ولكن نوط أبي عليه حروف أما هذا فعليه قضبان صغيرة ... وصورة أمي في وسط نوطه، وأبي له سلسلة مختلفة ليس فيها حلقات ... تشبه الشريط ...». - «وكيف تعرف؟ هل ترى أباك؟» «أنا، نعم ... كلا ... أمي».
احتقن وجهه بالحياء وارتبك وشعر كأن كذبته قد بانت، فأخذ يمسح النوط بشدة، فأحد بيلاييف نظره فيه وقال: «هل ترى أباك؟». «لا ... لا ... لا». «قل الحق بشرفك، فإنه ظاهر أنك تكذب، فما دمت قد فلتت الحقيقة من لسانك فلا تحاول الإنكار الآن، قل هل تراه؟ قل لي الآن أنت صديقي».
فتردد اليوشا ثم قال: «ولكنك لا تخبر أمي؟». - «كلا، أبدا». - «بشرفك». - «بشرفي». - «احلف». - «إنك لطفل غريب، ماذا تظنني؟».
فنظر اليوشا إلى ما حوله ثم فتح عينيه وهمس إلى بيلاييف قائلا: «ولكن أرجوك ألا تخبر أمي، ولا تخبر أحدا لأن هذا سر، وإذا عرفت أمي نقع كلنا أنا وسونية وبيلاجيه، اسمع الآن: أنا وسونيه نذهب كل يوم ثلاثاء وجمعة ونقابل أبانا فإن بيلاجيه تأخذنا قبل العشاء للتنزه فنجد أبانا ينتظرنا في مطعم إيفل، وهو يجلس في غرفة وحده وأمامه مائدة من الرخام عليها منفضة في شكل أوزة بدون ظهر». - «وماذا تفعلون هناك؟» - «لا شيء، نقول أولا: كيف حالك؟ ثم نجلس حول المائدة ويشتري لنا أبونا الفطائر والقهوة، وسونية تأكل الفطير المحشو باللحم، أما أنا فلا أطيق ذلك لأني لا أحب سوى عصيدة الكرنب الأبيض، ونحن نأكل كثيرا عند أبي حتى إننا عندما نجلس مع والدتنا في العشاء نجتهد في أن نأكل شيئا حتى لا تلحظ أننا أكلنا قبلا» - «وعن أي شيء تتكلمون؟» «مع أبي؟ نتكلم عن أي شيء، فهو يقبلنا ويعانقنا ويذكر لنا نوادر مضحكة، وهو يقول لنا أننا عندما نكبر سيأخذنا لكي نعيش معه، وسونية تقول إنها لا ترغب في الذهاب أما أنا فأرغب ذلك، وطبعا سأشتاق لرؤية والدتي ولكني سأكتب إليها خطابات، ويمكننا أن نأتي ونزورها في وقت الإجازات. ألا يمكن ذلك؟ إنها فكرة غريبة، وأبي يقول أيضا إنه سيشتري لي جوادا، وهو كثير الحنان علينا، ولا أدري لماذا لا تطلب إليه أمي أن يأتي ويسكن معنا هنا، ولماذا تمنعنا من أن نزوره، أتعرف أنه يحب والدتي جدا؟ فهو يسألنا دائما عن صحتها وعما تفعل، ولما كانت مريضة أمسك رأسه بيديه هكذا ... ثم. ثم أخذ يمشي بسرعة في الغرفة، وهو يطلب منا أن نطيعها ونحترمها على الدوام، اسمع هذا: هل صحيح إننا تعساء؟» - «أهم ... لماذا؟» - «هذا ما يقوله أبي، يقول: «أنتم أطفال تعساء» أليس كلامه هذا غريبا؟ فهو يقول: «أنتم تعساء وأنا تعيس وأمكم تعيسة» ويقول لنا أيضا: «يجب أن تصلوا لأجل أنفسكم ولأجل والدتكم»
ثم نظر اليوشا إلى طائر محنط في الغرفة واستسلم للخواطر.
فقال بيلاييف وصوته يتهدج: «إذن ... هذا ما تفعلونه، تلتقون في المطاعم وأمكم لا تدري شيئا». - لا، لا تدري شيئا وكيف تدري؟ فإن بيلاجيه لا تخبرها، وقد أعطانا أول من أمس بعضا من الكمثرى، كانت حلوة كالمربى فأكلت منها اثنتين». - «أهم اسمع لي ... اسمع، هل قال أبوك شيئا عني» - «عنك؟ ماذا أقول؟».
ونظر الصغير إلى وجه بيلاييف كأنه يتفرسه ثم هز كتفيه وقال: «لم يقل شيئا مهما». - «مثال ذلك، ماذا قال؟». - «ألا تغضب إذا قلت لك؟». - «وماذا بعد ذلك؟ ولم؟ هل يسبني أمامكم؟». - «لا. لايسبك ولكنه مغضب، ويقول إنك علة شقاء أمي وإنك سبب خراب بيتها، وكلامه من هذا الموضوع غريب، فإني أقول له إنك حنون شفيق وإنك لا توبخ أمي مطلقا، ولكنه يهز رأسه». - «فهو إذن يقول إني خربت بيتها؟» - «نعم. ولكن لا تغضب».
فنهض بيلاييف ووقف قليلا ثم أخذ يمشي في الغرفة ذهابا وإيابا، ثم جعل يدمدم قائلا: «كل اللوم عليه، ومع ذلك يقول إني خربت بيتها، ألعله الحمل البريء؟ فهو إذن يقول لكم إني خربت بيت والدتكم؟» - «نعم. لكنك قلت إنك لن تغضب، ألم تقل ذلك؟» - «لم أغضب، وليس هذا شأنك، إن هذا لأمر عجب، لقد وضعوني هم أنفسهم في المسألة كما توضع الدجاجة في الحساء والآن يقع علي اللوم».
Bilinmeyen sayfa