كانت هذه الفكرة تتحكم في أعصابها أحيانا، فتذرف الدمع سخينا، وترفع عينيها النجلاوين إلى السماء تناجيها: أي ذنب جنت ليكون ذلك جزاءها؟ وتذكر وهي في همها وجزعها قريبات وزميلات لسن أجمل منها ... بسم لهن الحظ بعد عبوس، ورضي عنهن القدر بعد قسوة!
تلك ابنة خالتها ... تزوجت من كهل يكبرها ثلاثين سنة، ومع ذلك أنجبت منه، وهي سعيدة كل السعادة! وتلك زميلتها في المدرسة، التي تزوجت كهلا هي الأخرى، وبقيت معه أكثر من عشر سنوات، توفي بعدها فورثته، وتزوجت شابا أنجبت منه البنات والبنين، فهي في رخاء وطمأنينة ورضا، وثالثة، ورابعة، وخامسة ... كلهن يعشن ناعمات راضيات، وليس فيهن من تفوقها جمالا وذكاء. أما كفاها موت أمها وهي لا تزال في نعومة صباها، وزواج أبيها للمرة الثانية، وقسوة زوجة أبيها بها؟! أما كان عدلا أن تجزى عن ذلك كله بشيء من السكينة إلى الحياة ... سكينة تعوضها عن أحزانها وآلامها، لكل هذا الذي أصابها؟! أم أن عدالة السماء لا تعبأ بمثيلاتها، وإن لم يجترحن ذنبا ولم تكن لهن في الحياة جريرة؟!
إنها اليوم بين نارين: نار ضرتها، ونار زوج أبيها، وزوجها وأبوها لا يستطيعان شيئا، وقد استبد حب الخلف بالأول، واستبدت كثرة الخلف بالثاني، وبذلك تمكنت ضرتها وزوج أبيها من الرجلين تتحكمان في تصرفاتهما بما تشاءان، ثم يحسب كل رجل منهما أنه صاحب اليد العليا والكلمة النافذة في بيته!
وألح هذا التفكير على هند، وجعل يساورها ليلها ونهارها، كلما أخذت الوحدة بخناقها، فأظلمت الدنيا في وجهها، وفيما كانت أشهر الحمل تتقدم بضرتها، كان هذا التفكير يحطم صحتها ويذبل نضرتها، فإذا تصورت أن ضرتها ولدت غلاما، ركبت القشعريرة كل جسدها واضطرب قلبها وحنانها، وبلغت من ذلك أن ركبتها حمى، حار الأطباء في تشخيصها، وحاروا لذلك في تصوير علاجها، وكانت هذه الحمى تزداد على الأيام شدة، حتى لقد خشي الطبيب المعالج على حياة هند، بعد كل الذي بذله من عناية فائقة بها! •••
وإنها لتعاني بأساء المرض وضراءه، إذ دخل عليها يوما متجهما والدمع يكاد يطفر من عينيه، وسألته عما به، فلما لم يجب قالت: لعل الله رزقك بنتا ثانية؟!
وتنهد عباس، وهز رأسه في حسرة ثم قال: «نعم!»
هنالك أشرقت أسارير هند، وإن لم تتفوه بكلمة، ومن يومئذ بدأ الطبيب يطمئن شيئا فشيئا إلى تقدمها نحو العافية!
وبرئت المسكينة، ثم تعافت واستردت كل صحتها!
وأعجب من مرضها، ومن إشرافها على الموت، ومن برئها ... أن هذا المرض كان علاجا لها فيما عجز الأطباء عن علاجه، فقبل أن تقضي ضرتها أسابيع نفاسها، كانت هند قد حملت، فلما اطمأنت إلى حملها، أشرق وجهها، وعادت إليها نضارتها، وفرح عباس من كل قلبه لحملها، وأخذ يعودها كل يوم يسأل عن صحتها، فلما تمت أشهرها وضعت غلاما، طار عباس فرحا به وفاضت المسرة بهند منذ وضعته وأنستها ابتسامته كل عتابها للقدر وكل شكواها إلى السماء!
وجلس عباس يوما إلى جانبها وهي جالسة ترضع طفلها، فنظرت إليه بعينين ملئتا حبا وقالت: ترى لو أنك لم تتزوج ضرتي، ولم يبلغ الحرص مني أن أوقفني على حافة الموت، أفكان الله يهب لي هذا الغلام الجميل؟
Bilinmeyen sayfa