وألقى إليها بمفاتيح الإسكندرية، وكان «أخيلاس» قد سلمها إليه، عقيب الهزيمة.
منذ تلك الساعة، عرف الثوار قدر رومية، وأحسوا بطشها وعظمتها، وأدركوا عمق الهاوية التي حفرها من ورائهم «فوتينوس»، فلقد انتكست آمالهم، وتبدلوا من مطامع الأمس الذهبية، بيأس اليوم المرير، أما أولئك الذين نزعوا إلى الانتقام والثأر من قبل، فأصبحوا لا يطمعون في أكثر من عفو يبقي الرءوس التي ملأتها الخيلاء، قائمة من فوق الأكتاف، بعد أن ترنحت وكادت تطيح بها الأقدار!
من ذا الذي يجرؤ على أن يناقش في حق ملكة وضعها «قيصر»، رجل الدنيا الأوحد، من فوق العرش؟ كلا، ليس هنالك من إنسان رخصت عليه رأسه، حتى يناقش في هذا، ولقد قوبلت «كليوبطرا»، لما أن ظهرت للناس أول مرة، بهتاف النصر والخضوع ترسله حناجر الجماهير، وقد غصت بها طرقات الإسكندرية.
شكرا إذن لتلك الحرب التي ما أثارها إلا حب «قيصر»؟ فكانت ألهية من ألهيات رجولته، غير أن لهو «قيصر» قد رد إليها تاج آبائها العتيد.
ولقد أرادت «كليوبطرا» أن تحوز رضا الناس وتفوز بثقتهم، فعملت على إحياء تقاليد الأسرة التي كانت تقضي على الملكات بأن يكون لهن أولاد من صلب العترة الملكية، فأعلنت قبولها الزواج من أخيها بطلميوس الثالث عشر. •••
كان كل شيء قد تم على ما يرغب قيصر، وآن له أن يغادر مصر إلى رومية، حيث ينتظر حزبه أوبته بلجاجة، ولكن «قيصر» لم يصبح سيد نفسه، فقد شملته الشهوة، تلك الشهوة التي ظلت حتى أخريات أيامه، النبع الوحيد الذي صدرت عنه كل أعماله، فقدمها على واجباته وعلى مطامعه، وعلى مصالحه العامة والخاصة، وجرته إلى آخرته المحزنة، فأجل الرحيل، وتصامم عن النذر التي كان ينقلها إليه كل رسول يهبط مصر موفدا إليه من رومية، وألقى بسمعه إلى فاتنته، فاستجاب لها؛ ولقد ألقت في روعه، فوق ما ألقت من قبل، أن من تمام سعادتها أن يرافقها في رحلة يجوبان فيها مصر، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
كانت السياحة في تلك الأيام على ظهر النيل، كما هي اليوم، ومنظر الآثار التي خلفها الفراعين قائمة على ضفافه، منتجعا للفكر، وسلوى للنفس، وكان ملوك المال من النبلاء، وأمراء الشرق الفائض بالثروات الضخمة، ورجال الفن من الأغارقة والأسيويين، بعد أن يمتعوا بلذائذ الإسكندرية، ويقفوا على آثارها، ييممون شطر مصر العليا، ممتطين سفائن هيئت بكل ضروب الزينة والزخرف، يحملها النيل، وتظلها سماء مصر الصافية الباسمة، وكانت الرحلة تستغرق أسابيع، ينفقها السائحون منتهبين اللذائذ، أو مكبين على درس الآثار القديمة الخالدة.
وكانت سفينة «كليوبطرا» بمثابة قصر، عرشه الماء، وقد صنعت حجراتها وأبهاؤها على غرار قصر «البروخيوم» مصغرا، أما الأسطول الذي اختارت الملكة أن يكون في رفقتها، فقد حمل عددا عظيما من الحاشية والخدم والعبيد، ناهيك بالراقصات والشعراء والموسيقاريين، الذين عملوا جميعا جهد ما يستطيعون، على أن يقتلوا الوقت قتلا، ويبددوا الزمان تبديدا، حتى تصبح الحياة في تلك الرحلة، سلسلة متصلة من الأحلام الهنية.
وكان الشتاء على الأبواب، وقد يعرف الذين شهدوا الشتاء في الأقاليم الشمالية من كرة الأرض، أن هذا الفصل يغمر الناس بكسفه المدلهمة، ويغشى على الحقول بغشاوة من الحزن، ويذر الأشجار عارية من الأوراق، فإذا دهمتها الرياح اهتزت أماليدها المعراة هزات فيها كل تعابير اليأس والقنوط، ولكن الطريق التي سلكها العاشقان، كانت طريق التألق والإشراق، فالسماء صافية، والشمس منعشة وهاجة، ومياه النيل تنساب في سكون «كأنها الأمل العريض، في وحشة الفراق».
وشقت سفينة «كليوبطرا» طريقها في النيل، بخمسين مجذافا من خشب الأبنوس الخالص، في يد خمسين عبد نوبي، أشداء أقوياء الأصلاب، فانسابت متهادية، تظللها الحرية، وتحدوها السعادة، وتنبسط أمامها الرحاب تتلقاها بالراحتين، لتسلم بها إلى أرض الميعاد، والشمس من فوقها تزداد حرارة، كلما أمعنت السفينة نحو الجنوب، كأنها تحيي العاشقين تحية صامتة، مرسلة إليهما على أجنحتها الذهبية.
Bilinmeyen sayfa