كان يضمر للعباسية إعجابا كبيرا، ويكن لها حبا وإجلالا يبلغان حد التقديس، أما الإعجاب فمرده إلى نظافتها وهندستها والهدوء المريح المخيم على ربوعها، وكل أولئك سمات لا يعرفها حيه العتيق الزياط. وأما الحب والإجلال فمرجعهما إلى أنها وطن قلبه، ومنزل وحي حبه، ومثوى قصر معبودته.
منذ أعوام أربعة وهو يتردد عليها بقلب مرهف وحواس مشحوذة حتى حفظها عن ظهر قلب، فحيثما مد بصره ارتد إليه بصورة مألوفة كأنها وجه صديق قديم، وجميع معالمها ومناظرها ودروبها وعدد من أهلها قد اقترن في ذهنه بأفكار وعواطف وأخيلة أمست - في جملتها - جوهر حياته ومعقد أحلامه، فحيثما ولى وجهه فثمة مناد يدعو القلب للسجود.
وأخرج من جيبه خطابا تلقاه من البريد أول أمس، وكان مرسله حسين شداد ينبئه فيه بعودته - وصديقيه حسن سليم وإسماعيل لطيف - من المصيف، ويدعوه إلى مقابلتهم جميعا في بيته الذي تسير به سوارس إليه. نظر إلى الخطاب بعين حالمة شاكرة، وامقة، ساجدة، عابدة، متعبدة؛ لا لأن مرسله شقيق معبودته فحسب، ولكن لظنه أن الخطاب كان مودعا في مكان ما بالبيت قبل أن يكتب حسين عليه رسالته، وأنه والحال كذلك غير مستبعد أن تكون عينها الجميلة قد وقعت عليه في ذهابها أو مجيئها، أو أن تكون أناملها قد لمسته لسبب أو لآخر، أو حتى عفوا، بل حسبه أن يظن أنه كان مودعا في نفس المكان الذي يحل فيه جسمها وتعمره روحها كي يستحيل الخطاب إلى رمز قدسي تهفو إليه روحه، ويشتاق إليه قلبه. ومضى يقرأ الخطاب للمرة العاشرة حتى وقف عند هذه الجملة: «عدنا إلى القاهرة مساء أول أكتوبر.» أي إنها شرفت العاصمة منذ أربعة أيام وهو لا يدري، كيف لم يدر؟ كيف لم يفطن إلى وجودها سواء بالغريزة، أو بالشعور، أو بالبصيرة؟ كيف جاز للوحشة التي غشيته طوال الصيف أن تمد ظلها الثقيل على هذه الأيام الأربعة المباركة؟ هل رانت الكآبة المتواصلة على حساسيته بطبقة من البلادة والجمود؟ على أي حال فالساعة يرف قلبه، وتحلق روحه في أجواء من السمو والسعادة. الساعة يشرف على الدنيا من ذروة رفيعة تبدو منها معالمها في هالة من الشفافية والنورانية كأنها أطياف في دنيا الملائكية. الساعة يضطرم وجدانه بنشاط الحيوية، ونشوة الحبور، وسكرة الطرب، الساعة - أو حتى في هذه الساعة - يطوف به طائف الألم الذي يلازم مسرة الحب عنده ملازمة الصدى للصوت، قديما كانت تحمله سوارس في هذا الطريق نفسه وقلبه من الحب خال لم يمس، ماذا كان يجد من مشاعر، وآمال، وخوف، ورجاء؟ لا يذكر حياة ما قبل الحب إلا ذكرى مجردة، ينكرها ما عرف للحب قدره. ويحن إليها كلما نبا به ألم، ولكنها لشدة إحساسه بخاطره كادت تلحق بالأساطير، لذلك بات يؤرخ بالحب حياته، فيقول: كان ذلك قبل الحب «ق.ح»، وحدث ذلك بعد الحب «ب.ح».
وقفت العربة عند الوايلية، فأعاد الخطاب إلى جيبه، وغادرها متجها إلى شارع السرايات، وعيناه تتطلعان إلى أول قصر على اليمين فيما يلي صحراء العباسية، بدا القصر بدوريه من الخارج بناء ضخما عاليا. يتصل مقدمه بشارع السرايات، وينتهي مؤخره بحديقة رحيبة تراءت رءوس أشجارها العالية من وراء سور رمادي متوسط الارتفاع، يحيط بالقصر والحديقة معا، ويرسم مستطيلا هائلا ممتدا في الصحراء التي تكتنفه من الجنوب والشرق. كان منظره مطبوعا على صفحة نفسه، يستأسره جلاله وتفتنه آي فخامته. ويرى في عظمته تحية مزجاة عن جدارة بصاحبه، وتلوح لعينيه نوافذ مغلقة، وأخرى مرخاة الستائر، فيلمح في تحفظها وانطوائها ما يرمز إلى عزة محبوبه، وعصمته، وامتناعه، وغموضه، وهي معان تؤكدها الحديقة المترامية والصحراء الغارقة في الأفق، وتعرض هنا أو هناك نخلة سامقة أو لبلاب متسلق جدارا أو جدائل ياسمين مسترسلة فوق سور فتناوش قلبه بذكريات انعقدت فوق هاماتها كالثمار تساره بحديث الوجد، والألم، والعبادة، وقد غدت ظلا للحبيب، ونفحة من روحه، وانعكاسا لملامحه، ناشرة بجملتها - وبما عرف من أن باريس كانت لأهل القصر منفى - جوا من الجمال والحلم تواءم مع حبه في سموه، وقداسته، وبذخه، وتطلعه إلى المجهول.
رأى وهو يقترب من مدخل القصر البواب، والطاهي، وسائق السيارة، جالسين فوق أريكة على كثب من الباب كعادتهم في العصاري، فلما بلغ مجلسهم وقف البواب، وقال له: «حسين بك ينتظرك في الكشك.» فدخل مستقبلا مزيجا من عرف الفل والقرنفل والورد التي نضدت أصصها على جانبي السلم المفضي إلى الفراندا الكبيرة التي تطالع القادم على بعد يسير من الباب، ثم مال يمنة إلى ممر جانبي يفصل القصر عن السور، ويسير بينهما حتى مشارف الحديقة فيما يلي الفراندا الخلفية للقصر.
ليس من الهين على قلبه الخفاق أن يمشي في هذا المحراب الكبير، ولا أن يطأ أديما وطئته قدماها من قبل، إنه يكاد من إجلال يتوقف، أو يمد يده إلى جدار البيت تبركا، كما كان يمدها إلى ضريح الحسين من قبل أن يعلم أنه لم يكن إلا رمزا، ترى: في أي مكان من القصر يمرح محبوبه الساعة؟ وما عسى أن يفعل إذا طالعته بلفتتها الفاتنة؟ ليته يجدها في الكشك كي تجزى عين عن طول التصبر، والتشوق، والتسهد.
ألقى على الحديقة نظرة شاملة حتى سورها الخلفي الذي ترامت وراءه الصحراء، وكانت الشمس المائلة فوق القصر صوب الشارع تجلو منها أعالي الأشجار، والنخيل، وسقائف الياسمين المبطنة للسور من كافة نواحيه، ودوائر الأزهار، والورود، ومربعاتها، وأهلتها، تكتنفها ممرات الفسيفساء، ثم سار في ممشى وسيط يفضي إلى كشك قائم وسط الحديقة، وقد تراءى فيه عن بعد حسين شداد، وضيفاه: حسن سليم وإسماعيل لطيف جلوسا على كراسي خيزران حول مائدة مستديرة خشبية انتثرت عليها أكواب حول دورق ماء. سمع هتاف ترحيب صدر عن حسين فآذنه بانتباههم إلى مقدمه، وما لبثوا أن قاموا للقائه فعانقهم واحدا واحدا بعد فراق دام الصيف كله، حمدا لله على السلامة، أنت أوحشتنا جدا، شد ما اسمرت وجوهكم فلا خلاف الآن بينكما وبين إسماعيل، بل أنت بيننا كأوروبي بين ملونين، عما قليل يعود كل شيء إلى أصله، كنا نتساءل لم لا تلوننا شمس القاهرة؟ من ذا يجرؤ على التعرض لشمس القاهرة إلا من رام ضربة شمس. ولكن ما سر هذه السمرة المكتسبة؟ ... أذكر أننا تلقينا تفسيرا لهذا في بعض دروسنا، أجل لعله في الكيمياء، لقد درسنا الشمس خلال علوم شتى كالجغرافيا الفلكية، والكيمياء، والطبيعة؛ ففي أي من أولئك نجد تفسيرا لسمرة المصيف؟ هذا سؤال متأخر عن أوانه لأننا انتهينا من الدراسة الثانوية. إلينا إذن بأخبار القاهرة، بل عليك أنت أن تحدثنا عن رأس البر، وعلي حسن وإسماعيل أن يحدثانا بعدك عن الإسكندرية، انتظروا فلكل وقت حديثه.
لم يكن الكشك إلا مظلة خشبية مستديرة تقوم على عمود ضخم، وأرضه رملية تحدق بها أصص الورد، ويقتصر أثاثه على المائدة الخشبية والكراسي الخيزران، وقد جلسوا وراء المائدة على هيئة نصف دائرة مولين وجوههم شطر الحديقة. بدوا سعداء باللقاء، وكان الصيف يفرق بينهم فيما عدا حسن سليم وإسماعيل لطيف اللذين يصيفان عادة في الإسكندرية، ومضوا يتضاحكون لأقل سبب، وأحيانا لمجرد تبادل النظر كأنما يجترون ذكريات مزاح ماضية. وكان الأصدقاء الثلاثة يرتدون قمصانا حريرية وبنطلونات رمادية. كمال وحده بدا في بدلة رصاصية خفيفة؛ إذ كان يعتبر رحلة العباسية ذات صفة رسمية على خلاف حيه الذي يجول فيه مكتفيا بلبس الجاكتة فوق الجلباب. كل شيء من حوله كان يخاطب قلبه فيهزه من الأعماق، هذا الكشك الذي تلقى فيه رسالة الحب. وهذه الحديقة التي خصت وحدها بسره، وهؤلاء الأصدقاء الذين يحبهم للصداقة ويحبهم مرة أخرى لاقترانهم بسيرة حبه، كل شيء يخاطب حبه وقلبه، يتساءل: متى تجيء؟ وهل يمكن أن تمضي الجلسة دون أن تقع عليها عيناه المشوقتان؟ وعلى سبيل التعويض راح يطيل النظر إلى حسين شداد ما وسعه ذلك، ولم يكن ينظر إليه بعين الصديق فحسب؛ لأن أخوته لمعبودته أضفت عليه سحرا من السحر وسرا من السر، فبات يكن له - إلى الحب - إكبارا، وتقديسا، ودهشا. وكان حسين يشبه شقيقته إلى حد كبير بعينيه السوداوين، وقامته الطويلة الرشيقة، وشعره السبط العميق السواد، ولفتاته، وسكناته الجامعة بين السمو واللطافة، فلم يكن ثمة فارق جوهري بينهما إلا في أنفه الأقنى الممتلئ، وبشرته البيضاء التي غشيتها سمرة المصطاف. ولما كان كمال، وحسين، وإسماعيل من الناجحين في امتحان البكالوريا ذلك العام - مع ملاحظة أن الأولين كانا في السابعة عشرة، والأخير في الحادية والعشرين - فقد تحدثوا عن الامتحان وما تفرع عنه من شئون المستقبل، وكان البادئ بالحديث إسماعيل لطيف، وكان إذا تحدث تطاول بعنقه كأنما ليداري قصر قامته وضآلة حجمه - على الأقل بالقياس إلى أصدقائه الثلاثة - غير أنه كان مدمج الخلق، مفتول العضلات، وفي نظرة عينيه الضيقتين الحادة الساخرة، وأنفه المدبب الحاد، وحاجبيه الكثيفين، وفمه العريض القوي ما يكفي لتحذير من تحدثه نفسه بالتهجم عليه، قال: نتيجتنا هذا العام مائة في المائة، لم يحصل شيء كهذا من قبل - على الأقل - فيما يخصني أنا، كان ينبغي أن أكون في السنة النهائية من التعليم العالي كحسن الذي دخل معي مدرسة فؤاد الأول في يوم واحد وسن واحدة، وقد سألني أبي ساخرا لما رأى رقمي في الجريدة بين الناجحين: «ترى هل يمد الله في عمري حتى أراك من حملة الدبلوم؟»
قال حسين شداد: لست متأخرا إلى الحد الذي يبرر يأس والدك.
قال إسماعيل ساخرا: صدقت فقضاء عامين في كل فصل ليس بالشيء الكثير.
Bilinmeyen sayfa