فقال بلهجة القانع: خطوة خطوة، سوف أكتفي ما بقي من هذه الليلة بالشراب وسماع العود.
ألح عليه أن يقدم رجله خطوة أخرى، ولكنه اعتذر فلم يثقل عليه، عادا إلى الحجرة المبعثرة الفاقدة الوعي فاستردا مجلسيهما، قام إبراهيم الفار مقام الساقي، افتضحت أمارات السكر في وهج العيون، وسلس الحديث، وتحرر الأعضاء، غنوا جميعا وراء زبيدة:
البحر بيضحك ليه!
لوحظ أن صوت السيد أحمد عبد الجواد علا حتى كاد يغطي على صوت زبيدة، روت جليلة تناتيش من مغامراتها، مذ وقع بصري عليك شعرت بأن الليلة لن تمر بلا مغامرة، ما أملح الصغيرة، الصغيرة؟ هي كذلك ما دامت تكبرها بربع قرن، تحسر إبراهيم الفار على العصر الذهبي للنحاس على أيام الحرب، فقال لهم بلسان ثقيل: «كنتم تقبلون يدي من أجل رطل نحاس.» فقال السيد أحمد: «إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي.» اشتكت زبيدة شدة السكر فقامت تتمشى ذهابا وجيئة، وعند ذاك جعلوا يصفقون على إيقاع مشيتها المترنحة ويهتفون معا:
تاتا خطي العتبة ... تاتا خطي العتبة.
الخمر تشل العضو الذي يفرز الحزن، غمغمت جليلة قائلة: «حسبنا!» ونهضت فغادرت الحجرة إلى ردهة تفضي إلى مخدعين متقابلين، فمالت إلى المخدع المجاور للنيل ودخلت، وما لبث أن ترامت إليهم طقطقة الفراش وهو يتلقى جسمها العظيم، راق زبيدة تصرف جليلة فاتبعت أثرها إلى المخدع الآخر باعثة وراءها طقطقة أعنف، قال إبراهيم الفار: «إن لسان السرير قد نطق.» تناهى إليهم من المخدع الأول صوت وان يترنم محاكيا بحة منيرة: «يا حبيبي تعالى!» فقام محمد عفت وهو يجيب مترنما كذلك: «آديني جي.» نظر إبراهيم الفار إلى أحمد عبد الجواد متسائلا: فقال له السيد: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت!» فقام وهو يقول: «لا حياء في العوامة!» ... خلا الجو، ها هي الساعة التي رصدتها طويلا، نحت الصغيرة العود جانبا، وتربعت وهي تسبل حاشية الفستان على ساقيها المتشابكتين، ساد صمت وتبودل نظر، ثم مدت بصرها إلى لا شيء، تكهرب الصمت فلم يعد يحتمل، نهضت فجأة؛ فسألها: إلى أين؟ فغمغمت وهي تمرق من الباب «الحمام!» قام بدوره إلى مجلسها فجلس، وتناول العود وراح يعبث بأوتاره، وهو يتساءل: «أليس ثمة حجرة ثالثة؟» لا ينبغي لقلبك أن يدق هكذا كأنما الجندي الإنجليزي يسوقك أمامه في الظلام. ليلة أم مريم هل تذكر؟ لا تعد إلى ذكراها فهي ألم، عادت من الحمام ... ما أنضرها! - أتضرب العود؟
أجاب باسما: علميني. - حسبك الدف فإنك من رجاله.
وهو يتنهد: تلك أيام خلت، ما ألطفها! كنت طفلة، ما لك لا تجلسين؟
تكاد تلمسك، ما أحلى أول الصيد. - خذي العود وأسمعيني. - شبعنا غناء وعزفا وضحكا، عرفت الليلة أكثر من ذي قبل لماذا يفتقدونك في كل سهرة.
فابتسم ابتسامة وشت بسروره، ثم قال بمكر: ولكنك لم تشبعي شربا؟
Bilinmeyen sayfa