ثم بلهجة المنتقد، وهو يدلك أرنبة أنفه العظيم بإبهامه وسبابته: إني أعجب لك، إذا غلبت لم تأبه للأخذ بثأرك، وتحب سعد ولكنك تنكص عن الاشتراك في مظاهرة أريد بها تحيته يوم ولي الوزارة، وتتبارك بسيدنا الحسين، ولكن لم تهتز لك شعرة يوم ثبت لنا من تاريخه أن جثمانه غير ثاو في ضريحه القريب! إني أعجب لك.
شد ما يحنقه البرود، إن ما يسمونه «العقل» لا يطيقه، وكأنه يحب الجنون ويهيم به. إنه يذكر يوم قيل لهما في المدرسة: «إن ضريح الحسين رمز، ولا شيء غير ذلك.» عادا يومذاك معا وفؤاد يردد ما قاله مدرس التاريخ الإسلامي، وكان كمال يتساءل منزعجا: كيف أوتي صاحبه تلك القوة التي تحمل بها الخبر كأنه شأن لا يعنيه؟ أما هو فلم يستسلم لتفكير، لم يستطع أن يفكر ألبتة، وكيف لثائر أن يفكر؟ سار كالمترنح من هول الطعنة التي نفذت إلى صميم قلبه، كان يبكي خيالا نضب وحلما تبدد، لم يعد الحسين بجارهم، بل لم يكن بجارهم يوما من الأيام، أين ذهبت القبلات التي طبعت على باب الضريح في صدق وحرارة؟ أين يذهب الاعتزاز بالقرب والإدلال بالجوار؟ لا شيء من هذا كله، لم يبق إلا رمز في الجامع ووحشة وخيبة في القلب، وبكى ليلتذاك حتى بلل وسادته، تلك كانت الصدمة التي لم تحرك في صديقه العاقل إلا لسانه حين علق عليها مرددا أقوال مدرس التاريخ، ألا ما أبشع العقل! - هل علم والدك برغبتك في دخول مدرسة المعلمين؟
قال كمال بحدة جاءت معبرة عن ضيقه ببرود صاحبه وألمه المتخلف عن مناقشة أبيه معا: نعم. - وماذا قال لك؟
فقال يروح عن صدره بمهاجمة محدثه عن طريق غير مباشر: وا أسفاه ... إن والدي كأكثر الناس ممن يهيمون بالمظاهر الزائفة، الوظيفة ... النيابة ... القضاء ... هذا كل ما يهمه، لم أدر كيف أقنعه بجلال الفكر والقيم السامية الحقيقة بالنشدان في هذه الحياة! غير أنه ترك لي حرية التصرف.
جعلت أصابع فؤاد تعبث بقطعة من الدومينو، وهو يقول في حذر وإشفاق: قيم جليلة بلا شك، ولكن أين البيئة التي ترفعها إلى المنزلة اللائقة بها؟ - لا يمكن أن أنبذ عقيدة سامية لا لشيء إلا أن من حولي لا يؤمنون بها.
فعاد يقول في هدوء مسكن: روح جديرة بالإعجاب! ... ولكن ألا يحسن بك أن تقدر مستقبلك في ضوء الواقع؟
فتساءل كمال بازدراء: ترى لو كان زعيمنا قد أخذ بهذه النصيحة، أكان يفكر جديا في أن يذهب إلى دار الحماية للمطالبة بالاستقلال؟
ابتسم فؤاد ابتسامة كأنها تقول: «رغم ما في حجتك من وجاهة فهي لا تصلح قاعدة عامة في الحياة.» ثم قال: ادخل الحقوق حتى تضمن عملا محترما ولك بعد ذلك أن تواصل ثقافتك كما تشاء.
فقال كمال محتدا: لم يجعل الله لامرئ من قلبين في جوفه، ثم دعني أحتج على ربطك العمل المحترم بالحقوق! كأن التدريس ليس عملا محترما!
فبادر فؤاد يقول بتوكيد يدفع به عن نفسه الشبهة: لم أقصد هذا مطلقا، ومن ذا الذي يقول إن حفظ العلم ونشره ليس عملا محترما؟ لعلي كنت أردد رأي الناس وأنا لا أدري، والناس كما أشرت إلى شيء من هذا تبهرهم أضواء القوة والنفوذ.
Bilinmeyen sayfa