184

هذه العواطف تنسى! تساءل باهتمام غير خاف: أكانت تسخر مني وهي تنوه بهذا الغرام المزعوم؟ - كلا، قلت لك إنها تسعد بالحديث عن عشاقها.

كانت معبودتك إلها قاسيا ساخرا ينشرح صدره للهزء بعابديه، أتذكر يوم مثلت برأسك وأنفك؟ ما أشبهها بقانون الطبيعة في قوته وقسوته، كيف هرعت بعد ذلك متهللة إلى ليلة الدخلة كأي فتاة؟ أما أمك فشيمتها الحياء كأنما تشعر بذبها.

وكانا قد توغلا في الطريق فاستدارا راجعين في صمت، كأنما قد تعبا من الحديث وشجونه. وما لبث إسماعيل أن اندفع يغني بصوت رديء: «يا ما شاء الله ع التحفجية»، ولكن الآخر لم يخرج عن صمته فضلا عن أنه لم يبد عليه أنه انتبه إلى غنائه. ما أخجله! أحدوثة كان، وكأنه بأهل البيت والأصدقاء والخدم وهم يتغامزون من وراء ظهره وهو عنهم غافل. معاملة فظة لا يستحقها، فهل يكون هذا جزاء الحب والعبادة؟ ما أقسى المعبودة! وما أفظع الألم! لعل نيرون عندما غنى وروما تحترق كان ينتقم لحال كحاله هذه. كن قائدا غازيا يختال على متن جواد، أو زعيما يحمل على الأعناق، أو تمثالا من صلب فوق سارية، أو ساحرا يتصور في أي صورة شاء، أو ملاكا يطير فوق السحاب، أو راهبا منزويا في صحراء، أو مجرما خطيرا يزلزل الآمنين، أو مهرجا يأسر الضاحكين، أو منتحرا يهز الرائين، لو علم فؤاد الحمزاوي بقصته لقال له وهو يواري سخريته تحت طلاء أدبه المعهود: الحق عليك، فأنت الذي هجرتنا من أجل هؤلاء الناس، احتقرت قمر ونرجس فذق هجر الآلهة. السماء أو لا شيء هذا هو جوابي. فلتتزوج كما تحب، وتذهب إلى بروكسل أو باريس، وليتقدم بها العمر حتى يذوي عودها الريان، فلن تظفر بحب كحبي. لا تنس هذا الطريق ففوق أديمه سكرت بخلب الآمال، ثم تجرعت غصص اليأس، لم أعد من سكان هذا الكوكب، غريب أنا وينبغي أن أحيا حياة الغرباء.

عندما مرا بسراي آل شداد في طريق العودة وجدا العمال عاكفين على نزع الزينات، وأسلاك المصابيح الكهربائية من فوق الجدران والأشجار، فتجرد البيت الكبير من حلية الزفاف واشتمل بالظلام، إلا حجرات ظل النور ينبعث من شرفاتها ونوافذها. انتهى الحفل وتفرق الجمع، وأذن الحال بأن لكل شيء نهاية، وها هو يعود حاملا علبة الحلوى كأنه طفل يلهى عن البكاء ببضع قطع من الشيكولاتة، وواصلا السير على مهل حتى بلغا مطلع الحسينية، فتصافحا، وافترقا.

لم يكد كمال يتقدم في شارع الحسينية أمتارا حتى توقف، ثم انقلب عائدا إلى العباسية التي بدت مقفرة مغرقة في النوم، وحث خطاه صوب سراي آل شداد، وعندما شارف البيت مال يمنة إلى الصحراء التي تكتنفه، وأوغل فيها حتى بلغ موضعا فيما وراء السور الخلفي للحديقة يطلع على السراي على بعد، وكان الظلام كثيفا شاملا يطمئن الرقباء ستائره. ولأول مرة في ليلته شعر بالبرودة في ذلك الخلاء العاري، فحبك المعطف حول جسده النحيل الطويل ... تراءى له شبح البيت وراء سوره العالي كالقلعة الضخمة، فجالت عيناه باحثة عن هدف غال حتى استقرتا على نافذة مغلقة يوصوص النور من خلال خصاصها في أقصى الجناح الأيمن من الدور الثاني. تلك غرفة العرس، الغرفة الوحيدة اليقظى في هذا الجانب من القصر، كانت بالأمس حجرة نوم عايدة وبدور، وازينت الليلة لشهود أعجب ما جرت به المقادير. تطلع إليها طويلا، أول الأمر بلهفة كأنه طائر مقصوص الجناح يتطلع إلى عشه فوق الشجرة، ثم بحزن عميق كأنما يرى بعينيه مصرعه فيما وراء الغيب، ماذا يدور وراء هذه النافذة؟ ... لو يتاح له أن يتسلق هذه الشجرة في الحديقة ليرى! إن البقية الباقية من عمره ثمن زهيد يؤديه عن طيب خاطر لقاء نظرة خلال هذه النافذة، وهل قليل أن ترى المعبود في خلوة زفافه؟ كيف يقيمان؟ وكيف تلتقي العينان؟ وبأي حديث يتناجيان؟ وفي أي مكان من الدنيا ينزوي الآن كبرياء عايدة؟ إنه يتحرق شغفا إلى الرؤية وإلى تسجيل كل كلمة تند، أو حركة تصدر، أو أمارة تنطق بها أسارير الوجه، بل إلى خطرات النفس، وتصورات الخيال، ونفثات العاطفة، وفورات الغرائز ... كل شيء ولو كان بشعا مرعبا أو محزنا مؤلما، ولتذهب الحياة بعد ذلك دون أسف. ولبث بمكانه والوقت يمضي، لا هو يبرح ولا النور ينطفئ، ولا خياله يمل التساؤل. ماذا كان يفعل لو كان في مكان حسن سليم؟ ودوخته الحيرة دون الجواب، إن العبادة لن تغني عن هذه الليلة شيئا ، وخلا العبادة من مطالب النفس لم يتوجه إلى عايدة، أما حسن سليم فمن طائفة لا تتقيد بالعبادة. هكذا يتعذب في الصحراء، وهنالك تتبادل قبل مما عهده الناس، وتنهدات تتصبب عرقا، وغيبوبة تنز دما، وغلالة تنحسر عن جسد فان، كهذا العالم الفاني، وآماله الخاوية، وأحلامه الطائشة ... فابك ما بدا لك على هوان الآلهة، وليمتلئ قلبك بالمأساة. ولكن أين يمضي الشعور الباهر الرائع الذي نور قلبه أربعة أعوام؟ لم يكن وهما ولا صدى لوهم، إنه حياة الحياة، ولئن تسيطر الظروف على الجسد، فأي قوة تستطيع أن تتطاول إلى الروح، وهكذا لتبقين المعبودة معبودته، والحب عذابه وملاذه، والحيرة ملهاته، حتى يقف أمام الخالق يوما يسائله عما حيره من معضلات الأمور، آه لو يطلع على ما وراء النافذة، لو يكشف سر أسرار وجوده؟ ... وكان البرد يقرصه أحيانا، فيذكره بموقفه، وبالوقت الذي يمر سادرا، ولكن فيم يتعجل العودة؟ أيطمع حقا أن يطرق النوم جفونه هذه الليلة؟

32

وقف الحنطور أمام دكان أحمد عبد الجواد، وقد لطخ عجلاته الوحل المتراكم في شارع النحاسين، والمياه المتجمعة في فجواته، فغادره السيد محمد عفت في جبة صوفية، ودخل الدكان وهو يقول باسما: جئناك بحنطور، وكان الأسلم أن نجيئك بقارب.

وكانت الأمطار قد انهملت يوما ونصف يوم حتى سالت الأرض، وغرقت الحواري والأزقة، ومع أن السماء أمسكت - بعد ذلك - إلا أن تجهمها لم ينكشف، وظل وجهها متواريا وراء سحاب جون أظل الأرض بمظلة قاتمة بعثت في الجو عكارة كأنها نذير ليل بهيم. واستقبل أحمد عبد الجواد صاحبه بترحاب ودعاه إلى الجلوس، وما كاد محمد عفت يطمئن إلى مجلسه عند ركن المكتب حتى قال كأنما ليجلو سر مجيئه: لا تعجب لمجيئي في هذا الجو رغم أننا سنلتقي في مجلسنا المعتاد بعد ساعات، ولكني اشتقت إلى الانفراد بك.

وضحك محمد عفت كأنما ليعتذر عن غرابة قوله، فضحك السيد أيضا، ولكنها كانت ضحكة إلى التساؤل أقرب. وذهب جميل الحمزاوي - وكان ملتفعا بكوفية ضمت قمة رأسه وما تحت ذقنه - إلى الباب، فنادى صبي قهوة قلاوون ليحضر قهوة، ثم عاد إلى كرسيه وقد أعفاه المطر والبرد من العمل. أما السيد أحمد فقد حدثه قلبه بأن وراء الزيارة أمرا، فقد وقعت في وقت لا تدفع إليه إلا ضرورة، إلى أن الأزمات النفسية التي عاناها الرجل منذ قريب، وما انتابه من مرض أخيرا، كل أولئك جعله عرضة للقلق على غير عادته. غير أنه دارى قلقه بضحكة لطيفة، ثم قال: كنت قبيل حضورك أتذكر سهرة الأمس، وأستعيد منظر الفار وهو يرقص، الله يقطعه.

فقال محمد عفت باسما: كلنا تلاميذك، وبهذه المناسبة دعني أنقل إليك ما يشيعه علي عبد الرحيم عنك، إنه يقول: إن الصداع الذي انتابك في الأسابيع الماضية ما هو إلا عارض لخلو حياتك من النساء في الأيام الأخيرة. - لخلو حياتي من النساء! وهل للصداع من سبب غير النساء؟

Bilinmeyen sayfa