ولم تسكت زنوبة، فقالت معترضة: هو السكران كما ترين، وقد جاء بي بالقوة.
ندت عن مريم حركة خطيرة كأنما همت بأن تقذفهما بالمصباح، فتصلبت قامة ياسين ونظر إليها متحفزا، ولكنها سرعان ما تراجعت متأثرة بخطورة الإقدام، فوضعت المصباح على منضدة وهي تصر على أسنانها بحنق، ثم تكلمت لأول مرة وكان صوتها جافا متهدجا مخشوشنا بالحقد والغضب، وقالت: في بيتي! في بيتي؟ في بيتي يا مجرم يا ابن الشياطين!
ودوى صوتها كالرعد يصب عليه اللعنات، وينعته بكل خبيث، صرخت وصوتت حتى شق صوتها الجدران، ونادت السكان والجيران وهي تحلف لتفضحنه وتشهد عليه النائمين. وكان ياسين ينذرها بشتى الوسائل ليسكتها، لوح لها بيده، وحملق فيها بعينيه، وصاح بها مزمجرا، فلما خابت وسائله نهض منفعلا، واتجه نحوها بخطوات واسعة ليبلغها في أقصر وقت دون اندفاع خشية أن يختل توازنه، ثم انقض عليها مسددا راحته إلى فيها ليسده، ولكنها صرخت في وجهه كالهرة اليائسة، وركلته بقدمها في بطنه، فتراجع مترنحا مكفهر الوجه من الحنق والألم، ثم سقط على وجهه كالبنيان المتهدم، انطلقت من زنوبة صرخة مدوية، فجرت مريم نحوها وارتمت عليها. وجذبت شعرها بيمناها، وأنشبت أظافرها الأخرى في عنقها، وجعلت تبصق في وجهها وهي تسب وتلعن. وما لبث ياسين أن نهض ثانيا هازا رأسه بعنف كأنما ليطرد عنه الخمار، فتحول إلى الكنبة وسدد نحو ظهر زوجه الراقدة فوق غريمتها قبضة شديدة فصرخت مريم وتراجعت زائغة عنه، فتبعها وقد أعماه الغضب موجها إليها ضربات متتابعة حتى فصلت بينهما السفرة، وعند ذاك تناولت الشبشب من قدمها وقذفته به، فأصاب صدره فجرى نحوها، وراحا يدوران في الصالة وهو يصيح بها: «اغربي عن وجهي، أنت طالقة ... طالقة ... طالقة ...» وإذا بيد تنقر الباب، وصوت الجارة المقيمة في الدور الثاني ينادي: «ست مريم ... ست مريم!» فتوقف ياسين عن الجري وهو يلهث، أما مريم ففتحت الباب، وبادرت تقول بصوت ملأ السلم كله: تعالي انظري داخل الحجرة وخبريني هل رأيت مثل هذا من قبل؟ عاهرة في بيتي تسكر وتعربد، ادخلي وانظري.
فقالت الجارة باستحياء: هدئي نفسك يا ست مريم، تعالي معي حتى الصباح.
هتف ياسين دون مبالاة: اذهبي معها، لا حق لك في البقاء في بيتي.
فصرخت مريم في وجهه: يا فاسق، يا مجرم، تجيئني بعاهرة في بيت الزوجية.
فضرب الجدار بقبضته وصاح بها: أنت العاهرة، أنت وأمك. - تسب أمي وهي بين يدي الله! - أنت عاهرة، أنا أعلم ذلك عن يقين، ألا تذكرين الجنود الإنجليز؟ الحق علي لأني لم أستجب إلى تحذير الناس الطيبين. - أنا ستك وتاج رأسك، أنا أشرف من أهلك ومن أمك، سل نفسك عن الرجل الذي يتزوج امرأة وهو يعلم أنها عاهرة كما قلت! هل يكون إلا قوادا خسيسا؟ ... (وهي تشير إلى حجرة الاستقبال) ... تزوج من هذه، إنها من النوع الذي يوافق مزاجك القذر. - كلمة أخرى ويسيل دمك حيث تقفين.
ولكن حنجرتها عادت تصرخ وتقذف اللهب حتى تدخلت الجارة لتحول بينهما إذا دعا داع، وجعلت تربت منكبها متوسلة إليها أن تمضي معها حتى يطلع الصبح، واشتد الضيق بياسين فصاح بها: خذي ثيابك واخرجي، ابعدي عن وجهي، لا أنت زوجي ولا أنا أعرفك، أنا داخل الحجرة الآن وإياك أن أجدك إذا عدت.
واندفع إلى حجرة الاستقبال، ودفع الباب وراءه دفعة عنيفة ارتجت لها الجدران، ثم ارتمى على الكنبة وهو يجفف عرق جبينه. همست زنوبة قائلة: إني خائفة.
فقال بخشونة: اسكتي، مم تخافين؟ (ثم بصوت مرتفع) أنا حر ... أنا حر ...
Bilinmeyen sayfa