قال في تسليم، وهو يداري ابتسامة: أوافق.
فرمقته بارتياب، وقالت بتوسل: وأن تقول ذلك بالقلب لا باللسان. - بالقلب أتكلم.
ما أعظم الفارق بين الواقع والمثال، أنت تتطلع بحماس إلى المثل الأعلى في الدين، والسياسة، والفكر، والحب. الأمهات لا يفكرن إلا في السلامة، أي أم ترضى أن تدفن ابنا في كل خمسة أعوام؟ لا بد للحياة المثالية من قرابين وشهداء ... الجسم والعقل والروح قرابينها، فهمي ضحى بحياة واعدة في سبيل ميتة رائعة، فهل تستطيع أن تلقى الموت كما لقيه؟ قلبك لا يتردد عن الاختيار ولو حطم قلب هذه الأم التعيسة، ميتة تستنزف جرحا، وتضمد جروحا، يا له من حب! ... أجل، ولكنه ليس الذي بيني وبين بدور وأنت تعلمين، الحب العجيب حقا هو حبي لك، هو شهادة للدنيا ضد المتشائمين من خصومها. علمني أن الموت ليس أفظع ما نخاف، وأن الحياة ليست أبهج ما نبتغي، وأن من الحياة ما يغلظ ويفر حتى يلتمس الموت، ومنها ما يرق ويثري حتى يهفو إلى الخلود، ومناداتها لك ما أطربها، بصوت لا تدري كيف تصفه، لا رفيع النبرة ولا غليظها، مثل «فا» السلم الموسيقي المنبعثة من كمان، رنينه في صفاء النور، ولونه لو تخيلت له لونا في زرقة السماء العميقة، دافئ الإيمان، داعية إلى السماء.
16 - يوم الخميس القادم سأعقد زواجي متوكلا على الله. - ربنا يوفقك. - سيكون التوفيق من نصيبي إذا رضي عني أبي. - إنه راض عنك، والحمد لله. - سيقتصر الحضور على الأهل، ولن تلقى هنالك ما يضايق حضرتك. - عظيم، عظيم. - وددت لو كانت نينة في الحاضرين، ولكن ... - ما علينا، المهم أن تمر الليلة في هدوء. - لم يغب عني هذا بطبيعة الحال، أنا أعرف الناس بطبعك، ولن يعدو اليوم كتابة العقد وشرب الشربات. - عظيم، ربنا يهديك إلى سواء السبيل. - كلفت كمال أن يبلغ والدته تحياتي وأن يرجوها عني ألا تحرمني من دعائها الطيب كما عودتني من قديم، وأن تعفو عما كان. - طبعا ... طبعا. - أرجو أن تكرر على سمعي أنك راض عني. - إني راض عنك، والله أسأل أن يكتب لك التوفيق والفلاح إنه سميع الدعاء.
هكذا سارت الأمور ضد مشيئة السيد أحمد، واضطر إلى مجاراتها أن ينصدع ما بينه وبين ابنه، وكان قلبه في الحق أرق من أن يتصدى لياسين بخصام جدي فضلا عن القطيعة، فقبل أن يسلم بيده ابنه البكر إلى بنت بهيجة، وأن يبارك - بنفسه - العلاقة التي ستضم خليلته السابقة إلى صميم أسرته. بل لم يقبل تدخل أمينة حين أعربت له عن رجائها في أن يمتنع «إخوة فهمي» عن شهود زواج ياسين من مريم، فقال لها بلهجة حاسمة: «فكرة سخيفة، من الناس من يتزوج من أرملة أخيه على حبه والوفاء له، ومريم لم تكن زوجة فهمي ولا حتى خطيبته، وذلك تاريخ قديم مضى عليه ستة أعوام، لست أنكر أنه لم يوفق في اختياره، ولكنه حسن النية بقدر ما هو بغل، ولم يسئ إلى أحد كما أساء إلى نفسه، أسرة كان بوسعه أن يصهر إلى خير منها، وفتاة مطلقة، الأمر لله، وذنبه على جنبه.» ... سكتت أمينة كأنما سلمت بحجته، فإنها وإن كانت اكتسبت مع الأيام السود بعض جرأة تعينها على الإفصاح عن رأيها للسيد، إلا أنها لم تكن من القوة بحيث تجعلها تراجعه أو تجادله، ولذلك فعندما زارتها خديجة لتخبرها بأن ياسين دعاها إلى حضور زواجه، وأنها تفكر في ادعاء المرض لتتخلف عن الذهاب، لم توافقها على رأيها، ونصحتها بقبول دعوة أخيها.
وجاء يوم الخميس، فذهب السيد أحمد عبد الجواد إلى بيت المرحوم محمد رضوان، حيث وجد ياسين وكمال - الذي سبقه إليه - في استقباله، ثم لحق بهم بعد قليل إبراهيم شوكت وخليل شوكت مصحوبين بخديجة وعائشة، ولم يكن في البيت من آل مريم سوى بضع نساء، فاطمأن السيد أحمد إلى مرور اليوم بسلام. وكان في طريقه إلى حجرة الاستقبال قد رأى معالم مألوفة في البيت، مر بها من قبل في ظروف جد مختلفة، فهجمت عليه ذكريات الماضي محدثة في نفسه ألوانا من الاستياء والضجر لسخريتها الصامتة من الدور الجديد الذي جاء يمثله كوالد وقور للعريس، وراح يلعن في سره ياسين الذي أوقعه - وأوقع نفسه وهو لا يدري - في هذا المأزق، غير أن الأمر الواقع حمله على أن يراجع نفسه ويمنيها قائلا: إنه ليس على الله بكثير أن يخلق البنت على غير مثال الأم، وأن يجد ياسين في مريم زوجا صالحة - بكل معنى الكلمة - وأن يقيه نزق أمها، ثم سأل الله الستر.
وكان ياسين آخذا زينته، بادي السرور رغم تواضع الحفل المقام لزواجه، وسره - على وجه الخصوص - أن لم يتخلف أحد من إخوته عن الحضور، وكان يشفق من أن تؤثر الأم في بعضهم فيتخلف. أكان في وسعه أن يستغني عن مريم إكراما لهم؟ كلا، أحبها، ولم تجعل هي له من سبيل إليها إلا الزواج فلم يكن من الزواج بد، لم لا؟ ليست اعتراضات والده أو زوجه بعادلة، أو مما يكترث لعواقبها. ثم إن مريم أول امرأة يرغب الزواج منها عن معرفة ونظر. وهو إلى هذا متفائل جدا بزواجه، ويرجو أن تستقر به حياة زوجية دائمة. أليس كذلك؟ بلى وهو يشعر أنه سيكون زوجا طيبا، وستكون زوجة طيبة، وسيجد رضوان في مقبل الأيام بيتا سعيدا ينمو فيه وينضج، لقد دار كثيرا وآن له أن يستكن. في غير الظروف التي اكتنفت زواجه لم يكن يتردد عن أن يحتفل به احتفالا شاملا لشتى ألوان البهجة والسرور، ليس كهلا ولا فقيرا ولا هو ممن «يدعون» كراهية الليالي الملاح حتى يرضى بهذا الحفل الموحش الصامت الذي هو بالمأتم أشبه، ولكن مهلا، فللضرورة أحكام، وليزج تقشفه هذا تحية لذكرى فهمي.
وكان لقاء مريم بخديجة وعائشة - بعد فراق طال أعواما - مؤثرا على تحفظه، ولم يخل من حرج بين. تبادلن القبلات والتهاني، وتحادثن طويلا فشرقن وغربن، ولكنهن تجنبن الماضي ما استطعن إلى ذلك سبيلا. وكانت اللحظات الأولى أحرجها جميعا. فتوقعت كل واحدة منهن ترديدا لذكرى ماضية على نحو يثير عتابا أو ملاما، ماذا دعا إلى تقاطعهن أو لم تعكر الجو؟ ولكنها مرت بسلام، ثم وجهت مريم الحديث بلباقة إلى ثياب خديجة ورشاقة عائشة التي لا زالت تحافظ عليها رغم إنجابها ثلاثة، ثم سألت مريم وأمها عن: «الوالدة» فكان الجواب: أنها بخير ولم يزدن حرفا. ونظرت عائشة إلى صديقتها القديمة بعين ملؤها المودة والحنان، وقلب متعطش إلى حب الناس دواما، ولولا إحساس بالإشفاق لساقت الكلام إلى الذكريات الماضية، ولضحكت ملء فيها. أما خديجة فجعلت تسترق إليها نظرات متفحصة، ومع أن مريم ظلت سنوات لا تخطر لها على بال فإن أنباء زواجها من ياسين أطلقت لسانها بالملاحظات المرة، وراحت تذكر عائشة بواقعة «الإنجليزي» وتتساءل عما أعمى ياسين وأصمه! على أن شعور خديجة العائلي المرهف الذي يتقدم سائر مزاياها، لم يسمح لها بلوك شيء من ذلك على مسمع من آل شوكت غير مستثنية زوجها نفسه، حتى نبهت أمها إلى ذلك قائلة: «سواء رضينا أم لم نرض فستصبح مريم من أسرتنا!» ... ولا عجب فما زالت خديجة حتى بعد إنجاب عبد المنعم شوكت وأحمد شوكت تعد آل شوكت «أغرابا» لدرجة ما.
وجاء المأذون في مطلع المساء، ثم عقد الزواج، ودارت أكواب الشربات، وانطلقت زغرودة واحدة، وتلقى ياسين التهاني والدعوات الصالحات. ودعيت العروس إلى مقابلة «سيدها الكبير» وآل زوجها، فجاءت محاطة بأمها وخديجة وعائشة، وقبلت يده، وصافحت الآخرين، وعند ذاك قدم السيد لها هدية الزواج، أسورة ذهبية ذات فصوص دقيقة من الماس والزمرد، واستمرت الجلسة العائلية وقتا غير قصير، وحوالي التاسعة أخذ الحاضرون في الانصراف تباعا، ثم جاء حنطور فحمل العروسين إلى بيت ياسين بقصر الشوق الذي جهز دوره الثالث لاستقبال العروس، وظن الجميع أن الستار قد أسدل على الزواج الثاني لياسين بخيره وشره، ولكن حدث بعد ولكن حدث بعد مرور أسبوعين من تاريخ الزواج أن شهد بيت المرحوم محمد رضوان حفلا آخر لزواج جديد، عد بحق مفاجأة غريبة في بيت السيد أحمد والسكرية وقصر الشوق! بل في حي بين القصرين جميعا! فعلى حين غرة - ودون سابق إنذار - لم يدر الناس إلا وبهيجة تعقد زواجها على بيومي الشربتلي. عجب الناس لهذا الزواج كل العجب، وكأنما كانوا يفطنون - لأول مرة - إلى أن دكان بيومي الشربتلي تقع على ناصية عطفة بيت آل رضوان تحت إحدى مشربيات البيت العتيدة مباشرة، فوقفوا أمام هذه الحقيقة يتساءلون. وحق للناس أن يعجبوا؛ فالعروس أرملة رجل عرف في حياته بينهم بالطيبة والتقوى، وهي معدودة من «سيدات» الحي المحترمات رغم ولعها بالتبرج، فضلا عن بلوغها الخمسين من عمرها. بينا كان الزوج من العامة ذوي الجلاليب يبيع الخروب والتمر هندي في دكان صغير، ولم يجاوز الأربعين من عمره إلى كونه زوجا رسخت قدمه في الحياة الزوجية عشرين عاما، أنجب خلالها تسعا من الإناث والذكور! كل ذلك أثار القيل والقال، فخاض الناس - دون تورع - في مقدمات الزواج التي لم يشعر بها أحد، متى وكيف بدأت؟ ثم كيف نضجت حتى انتهت بالزواج؟ وأي الطرفين كان البادئ الداعي؟ وأيهما كان المستجيب الملبي؟
قال عم حسنين الحلاق، وكان دكانه يقع في الجانب الآخر من الطريق لصق سبيل بين القصرين إنه كثيرا ما كان يرى ست بهيجة واقفة أمام دكان بيومي تشرب الخروب، ربما تبادلا حديثا قصيرا، فلا يظن - لحسن نيته - إلا خيرا ... وقال أبو سريع صاحب المقلى، وكان دكانه يتأخر ميعاد إغلاقه عن بقية الدكاكين: بأنه - أستغفر الله - لاحظ مرات أن قوما يتسللون بليل إلى داخل البيت، ولكنه لم يكن يعلم أن بيومي بينهم. وتكلم درويش بائع الفول، وتكلم الفولي اللبان، ومع أنهم تظاهروا بالرثاء للأب المعيل وانتقدوا - بمرارة - الرجل الأخرق الذي تزوج امرأة في سن أمه، فإنهم في قرارة النفس نفسوا عليه حظه، ونقموا عليه ارتفاعه عن طبقتهم بهذه الحيلة «غير المناسبة»، ثم طال الحديث بعد ذلك عن تقدير «ميراثه» المنتظر في البيت، وعن الغنائم المحتملة من نقود وحلي.
Bilinmeyen sayfa