وفي ساحة المحكمة رأت سهير المساجين، والشرطة يروحون بهم ويغدون، وهم كالشياه المستسلمة لا تملك من أمر نفسها أمرا، القيود في أيديهم، والملابس الزرقاء ملقاة عليهم، واليأس يملأ عيونهم، والمذلة تغشاهم، أهذه هي نهاية المطاف؟ أيقدر لي أنا أن أرى ابني ندا لهؤلاء، بعد أن أفنيت عمري من أجله، أكل ما قد فعلته، وكل ما قد امتنعت عن فعله، لا يثمر لي إلا هذه النهاية الكالحة الشوهاء؟ أمن أجل هذا أهدرت شبابي، ولذات حياتي، وآمال المطالع الأولى من إشراقات عمري؟ أمن أجل هذه النهاية لازمت سليمان، وقطعت كل خيط يصلني بأمل من سعادة، وحييت ألمي وأحييته كلما آذن بضعف، وكلما أشرف به النسيان من الزمان على وهن؟ أأنا من صنعت هذا المصير، أتراي أنا من مهدت له، أتراي أنا قد شغلت بألمي عن ولدي، فكان هذا المصير الذي ألتقي به في أخريات العمر مني، وفي أوائل العمر منه أو كنت أقدر؟ أم هل كنت أفكر؟ لا، ما فكرت فيما قد يصير إليه ولدي، ولا حتى فكرت فيما قد أصير إليه أنا، ولكن هل أخطأت إلى هذا الحد؟ هل كان خطئي كافيا وحده ليقودني إلى هذا المكان؟ هنا مع زوجات المجرمين وأمهاتهم، أي فارق بيني وبين هذه المرأة هناك؟ تلك التي تحيط بها أجواء من الجهل واليأس والألم، وأي فارق بيني وبين تلك التي هنا تحمل طفلها على كتفها، وترنو إلى زوجها الشاب، يقاد إلى حيث لا تدري ولا يدري من مصير، لعل هذه الأم خير مني، لعلها هي لم تخطئ ولم تكن لها يد في الجريمة التي ارتكبها زوجها، ولعلها ترعى وليدها خيرا مما رعيت أنا وليدي، ولكن أكان خطئي يستحق هذا جميعه؟ أم أن سليمان كان مخطئا معي؟ لا، لا أرى سليمان أخطأ في شيء، لقد جرى على طبيعته لم يغيرها، وكان علي أنا أن أعوض ولدي عن أبيهما، لا بالمال وحده، ولكن بالرعاية والتقويم أيضا، ولكن ماذا يفيد الندم الآن؟ بل ماذا يفيد أي شيء الآن؟ لا، ما أظن شيئا يفيد!
وبينما سهير في غمرة من هذه الأفكار والذكريات، أقبل وصفي إليها مصطحبا صديقه المحامي الكبير مصطفى باشا حسني، وما إن رأته حتى عصفت بنفسها نوازع شتى من الألم والاطمئنان والحسرة والجزع.
قال وصفي: لماذا تجلسين هنا؟
فقالت سهير: إن سليمان يقول إنه سيمر من هنا.
فصمت وصفي هنيهة، ثم التفت إلى صديقه يقول: تذهب أنت إلى غرفة المحامين يا باشا.
وقال مصطفى باشا: وأتركك! لا يا أخي، لا طبعا، سأنتظر هنا معكم، حتى يبدأ التحقيق.
فقال وصفي: ألا تبلغ وكيل النيابة أنك هنا؟
فقال مصطفى باشا: حين يجيء المتهم سأدخل لوكيل النيابة، لا تنشغل يا باشا، كل شيء سيكون على ما يرام.
ومست كلمة المتهم قلب سهير، ولكنها ما لبثت أن سخرت من نفسها وهي تسائلها، وبماذا يمكن أن يسمى؟ إنه متهم؟ وليس له هنا اسم آخر.
وبينما كانت سهير شاخصة إلى الباب، لا تميل ببصرها عنه، مال وصفي على سليمان: سليمان، سهير متعبة، التعب يبدو على عينيها بشكل واضح، أرجوك أن تأخذها إلى البيت بمجرد أن ترى أحمد. - نعم يا باشا سأفعل.
Bilinmeyen sayfa