58

Yirminci Yüzyıl

القرن العشرون

Türler

ومما استفاده الفكر الإنساني في القرن العشرين أنه فصل في مسألة أخرى لا تقل عن هذه المسألة في قيودها الوبيلة، وفي نتائج الخلاص من إسار تلك القيود، وتلك هي مسألة القطيعة بين العلم والفلسفة، وحسبان النظر فيما وراء المادة فضولا يوشك أن يخل بكرامة العلماء ويخرج بهم من نطاق العلوم.

فالنظرة المجردة اليوم نظرة اضطرارية لا اختيار فيها للعالم الذي كان يظن أنه في حل من تركها، بل يظن أنه مطالب بالابتعاد عنها، فليس للعقل العلمي اليوم محيص من النظر المجرد إلى أصول الموجودات وهو قائم في صميم هذه الموجودات المادية، وليس «ما وراء المادة» في القرن العشرين عالما سحيقا يوغل فيه بالظن والخيال، بل هو عالمه الذي يشاهده بالعين وينتهي إليه بالتجربة ويفكر فيه، ويتخيله على اضطرار بعد انتهائه بالحس إلى غاية مداه، وقد كان الفرض الرياضي عند علماء التجربة العملية حيلة موقوتة يسمح بها مغضيا عنها في انتظار الوصول إلى الحل المأمول، وكانت النقطة الهندسية - مثلا - لغزا علميا من ألغاز الرياضة التي تشبه الألعاب التي يقبلها من يقبلها ريثما يصل إلى الجد المفيد في التطبيقات العملية: قل أيها الرياضي الحريص على تعريفاته العزيزة كيفما شئت إن النقطة شيء ليس بشيء، وبعد تمتد منه جميع الأبعاد، ولا طول له ولا عمق ولا ارتفاع، فما دمنا نبني ونهندس، ونحسب في عالم الأبعاد والمسافات فلا بأس علينا من فروضك وألغازك في فراغ الأوهام.

غير أن الرياضي المولع بتعريفاته الأولية يعود اليوم فيسأل علماء التجربة والعمل أن ينتهوا بتجاربهم إلى شيء في الفضاء يختلف في إدراك العقول والحواس عن النقطة الهندسية فلا يحيرون جوابا، ولا يحسبون أنهم أفلتوا قيد شعرة من المادة إلى فراغ الأوهام، كل ما نلمسه ونحسه ونراه ونعقله إن هو إلا حركة في الأثير، وكل ما نعرفه من الأثير أنه فضاء لا ندري ما الذي يتحرك فيه، وما معنى الحركة فيه من هنا أو هناك.

ويضطر الطبيب وعالم الحياة - كما يضطر الرياضي وعالم الطبيعة - إلى هذه النظرة المجردة حين يشرح مخ الإنسان وينتظر نتيجة التشريح فيرى أن جسم «المخ» لا يحتوي الفكر احتواء الآنية المحسوسة كما خطر للكثيرين من الماديين الذين قرنوا بين مادة المخ ومادة التفكير، فقد يزال جزء من المخ كثير أو قليل ويبقى للعقل كل ما كان فيه من علوم ومعارف وذكريات وأخيلة وكلمات ومعان ولغات، وقد يعاب تكوين المخ وصاحبه من فلتات العبقرية والنبوغ، وقد يصغر المخ حجما ووزنا، وقدرته على التفكير أكبر من قدرة المخ الذي يزيد عليه في حجمه ووزنه، وقد كان الفيلسوف ديكارت يرجح على سبيل الظن أن الغدة الصنوبرية في الدماغ هي نقطة الوصل بين الجسد والفكر وملتقى العالمين المتقابلين: عالم المادة، وعالم الروح، وكان الفيلسوف يعتقد أنه بلغ غاية التسامح الذي يستطيعه من يفرق بين العالمين ويضطر إلى صلة يعقدها بينهما مع هذا التفريق، فاليوم لو عاد لرأي المغرقين في التجسيم يسبقونه إلى التسليم باختلاف مادة التفكير من مادة الدماغ كله، بما فيه من غدة صنوبرية ومن أغشية وتلافيف.

ولم تتمحض - بعد - بحوث العلم في إشعاع الدماغ وعلاقة هذا الإشعاع بالتفكير والانفعال، ولم تجر المقارنة الوافية بين الإشعاع المنبعث من دماغ الإنسان والإشعاع المنبعث من دماغ الحيوان في أحوال الشعور والانفعال، ولم يظهر للعلماء الباحثين في هذه الظواهر محور الفارق بين إشعاع المخ الإنساني في حالة التفكير والتأمل وإشعاع المخ الحيواني في حالة الاضطراب الجسداني الذي لا تفكير فيه، ولم تكمل، بعد، محاولات التجربة العكسية في هذه الظواهر الفكرية أو الشعورية، فلم يعرف أحد من الباحثين كيف يستطيع أن يحدث بالإشعاع الذي يرسله إلى الدماغ أثرا كالذي ينشأ في داخل الدماغ أثناء اشتغاله بالتأمل أو بالروية أو بالأعمال الفنية والعلمية، وكل أولئك من التجارب اللازمة في هذه الدراسة الطريفة التي لم تسبق لها سابقة من نوعها قبل القرن العشرين. بيد أننا لا نحتاج إلى الانتظار الطويل لنعلم أن العالم المهم في التفكير شيء غير الحجم والمقدار، وأن المخ لا تنقص معلوماته ومحفوظاته بنقصان جزء منه يستأصله الجراح في بضع لحظات، ولسنا نريد أن نسبق السنوات فضلا عن الأجيال والقرون، ولكننا نستبعد منذ الآن أن يجيء اليوم الذي يستطاع فيه تكييف المخ بالأشعة المرسلة إليه من الخارج ليعرف لغة من اللغات أو قضية من قضايا الفلسفة أو درسا من دروس الكيمياء والجغرافية والرياضة، أو ليكسب ملكة من ملكات النظم والتصوير والتمثيل وما نحا نحوها من الفنون، وغاية المستطاع - على ما نعتقد - أن ينجح الباحثون في تسجيل إشعاع المخ بالرسوم الكهربية، وإدراك دلالتها على نشاط المخ أو كسله وعلى رجحانه أو نقصه، وربما نجحوا كذلك في تنشيطه وتنبيه قدرته، وحضه على عمله، وتمييز ذلك العلم الذي يحض على أدائه، أما أن تنقل الأشعة إلى المخ فكرة لم يبتدعها ولم يستعد لها بتكوينه وتربيته فليس ذلك بالمستطاع، ولا هو مما تنبئنا عنه أوائل البحث كما بدرت لنا حتى الآن.

وأيا ما كان مآل هذه البحوث بعد زمن قريب أو بعيد فليس من الممكن أن نرجع بعمل المخ إلى حركة أكثف من مادة الشعاع في الأثر، وذلك شوط في تنزيه الملتقى بين الجسد والفكر لم يحلم به الفيلسوف الذي قنع بالغدة الصنوبرية ملتقى بينهما في تكوين الدماغ، وجعل التفكير أساس البراهين على صدق وجود الإنسان ووجود الإله. •••

إن الشوق إلى الإيمان من أقوى أشواق النفس الإنسانية، شوق متصل بحب الحياة وحب المعرفة وحب الجمال وحب الكمال، وحسبنا منه أنه شوق يعيننا على اليأس ويمنحنا الأمل، ويجعل للحياة معنى يتصل بالدوام.

وليس المتشككون أضعف الناس حظا من هذا الشوق المتأصل في أعماق النفس البشرية، فإنه كالعاشق القلق المستريب حظه من الحب أعمق من حظ الخلي الذي يسقط الحب من حسابه، فلا يعينه أن يثق، ولا أن يشك، ولا أن يستريح من قلق يساوره وخواء يشعر به ولا يرتضيه.

هؤلاء المتشككون في هذا العصر يحارون بين شك يحيك بضمائرهم وشوق محتبس لا يجد سبيلا إلى الانطلاق، وفضيلة القرن العشرين في أمر هؤلاء المتشككين أنه فتح أمامهم هذا السبيل وفسح لهم مجال النظر في الغيبيات، وحقائق الوجود من وراء الحواس والعقول: كان العلم يخجلهم من هذه الغيبيات كما يخجلهم من الأوهام التي انقضى زمانها بانقضاء الخرافات، بل بانقضاء الفلسفة التي تخوض في ظنون لا تقع تحت الحس ولا تقبلها العقول، فأصبح العلم أقرب إلى هذه الغيبيات من المخرفين والمتفلسفين، وحقت عليه الكلمة من مقدماته التي لا يملك الرجوع عنها إذا ملك الفيلسوف أو صاحب الظن أن يرجع عما يشاء من الفروض والأظانين.

وفضيلة القرن العشرين بعبارة أخرى أن العقل البشري إذا اشتاق فيه إلى الإيمان استطاع أن يطلبه ولم يخجل من طلبه، وأنه يطلبه من العالم والفيلسوف والمتصوف والمؤمن بدينه، ولا يطلبه متخاذلا متنابذا يداري سره من علانيته، ويستر جانبا من تفكيره؛ لكيلا يطلع عليه جانب آخر يعارضه أو يزدريه.

Bilinmeyen sayfa