والمعلوم أن النوع الإنساني ينفرد بين الأنواع بصفة حيوية هي حاجته إلى الحضانة الطويلة، وتمتاز الثقافات المتطورة على ما دونها من الثقافات بطول الوقت الذي تستلزم قضاءه في التعليم والاستعداد، وليست الحضارة الفنية المتطورة بالاستثناء لهذه القاعدة، ففي سنة 1910 كان نحو 86 في المائة من أبناء الولايات المتحدة بين السابعة والثالثة عشرة منتظمين في المدارس، وهي سن يفرض فيها التعليم الإلزامي الآن، وفي سنة 1950 كانت نسبة المنتظمين في هذه السن نحو ستة وتسعين في المائة، ويتضح الفرق كلما ارتقينا في السن بعد ذلك إلى الرابعة عشرة والخامسة عشرة إذ تبدأ الدراسة العالية، فإن النسبة وثبت من خمسة وسبعين في المائة سنة 1910 إلى نحو اثنين وتسعين في المائة سنة 1950، والنتيجة التقريبية أن نحو ثلاثة أرباع عدد الشبان والشابات قد أتموا دراستهم العالية أو هم موشكون أن يتمموها.
وليس أمام مجتمعنا في المستقبل مسألة أهم من مسألة التعليم، وبغير إنجازها على الوجه الأمثل لن يكون لدينا الخبراء المختصون اللازمون لإدارة دولاب المجتمع المترقي في الاقتصاد الصناعي، ولن يكون لدينا الظهارة التي لا غنى عنها، للتعليم الحر المطلوب لفهم المشكلات المعقدة، ومعالجتها حق علاجها، مما يرتبط بذلك التطور، ويسايره في أحوالنا القومية، وعلاقتنا الدولية.
على أن التعليم لا يتوقف بجملته على المدارس وحدها، فإن المفكرين الكفاة يثابرون على تعليم أنفسهم زمنا طويلا بعد نهاية السنوات المدرسية، ولكن لا بد من اقتدار المدرسة على تربية الأذواق، وتوليد الميل الذي يعين على كسبها، وإن النجاح في هذه المحاولة يؤدي إلى إتقان العمل في الصنعة كما يؤدي معه إلى حسن استخدام الوقت بعد الفراغ من العمل المطلوب لكسب الرزق، وقد نصل إلى الثقافة الناضجة في حضارتنا الصناعية من طريق المساعي التي نبذلها طلبا للفطنة النافعة في تكوين أفكار ومبادئ تعيننا على المساهمة في مقاصد الفعل التي لا حد لها، ومحاسن الفنون، وسائر ما يهذب الشخصية الإنسانية، ويهذب معها المجتمع الذي تعيش فيه، ولا يكون قصارى الأمل من تلك المساعي المبذولة أن تجلب لنا الثروة والمظاهر المادية.
ومن الجانب الآخر يخشى الخطر الجائح من الإخفاق في استخدام السيطرة على الطبيعة التي أتاحتها لنا الخبرة الصناعية استخداما يهدف إلى الغايات الإنسانية؛ إما من التطوح إلى الحروب، أو من إقامة المجتمع على أنصاب من الآدميين محيت ملامحهم الشخصية. فما استطاع من قبل - حتى الرومان - أن يضمنوا طول البقاء لمجتمع يقوم على نخبة من العلية الأذكياء، وجمهرة من الرعية تراض على السكينة بالخبز وحلقات الألعاب، وإن المجتمع الغني الديمقراطي لينوط أكبر الرجاء بما لجميع أبنائه من الكفايات والأخلاق.
1 •••
على هذا النمط يسبق الكاتب الغد بنظرته إلى عواقب اليوم، فيخطو على مهل ويتجنب الوثبة، ولا ينسى مواطن الزلل مع عثرات الأمل، فلا نبوءة في الواقع هنا، وإنما هو ترتيب لسلسلة من الحلقات يتبع بعضها بعضا، ولا تأتي بجديد على غير انتظار، فالصناعة تقارب بين الأعمال والأرزاق وتمهد السبيل لكسب الوقت الذي يبذله من يشاء في تحصيل المزايا والأذواق التي توفر ثروات العقول والنفوس، ولا تحصر التقدم الصناعي في توفير المال والعتاد، وهذا إن شاء من يملكون سعة الوقت أن يبذلوها في مقاصد الفكر والروح.
وذلك هو مصير «الإنسان» كما تنبئنا به هذه «النبوءات» الوئيدة على حذر لا يخلو من رجاء، ورجاء لا يخلو من حذر.
وفي حدود هذه الخطوات الوئيدة ينظر كاتب علمي آخر إلى مصير «الإنسان» في عصر الصناعة، أو ينظر - كما قال في عنوانه كتابه - إلى الناحية الإنسانية من العلم فيعلق مصير الإنسان كله على «تربيته الشخصية» ويربط بين تربيته الشخصية وشواغل المادة ومطالبها، فلا يراهما منفصلين، ولا يراهما مع ذلك شيئا واحدا تستغرقه الماديات، وتستأثر به كله مطالب الرغد والرخاء.
وخلاصة تقديراته أن الإنسان يمكن أن يكون إنسانا تاما بشخصيته تامة، ولكنه لا يكون كذلك إلا إذا التفت إلى كل جانب من جوانب «الشخصية الإنسانية»، ولم يقصر التفاته إلى جانب المادة أو جانب البدن منها؛ لأن الشخصية الإنسانية عاطفة وعقل وضمير وليست مجرد أعضاء ووظائف وخلايا وأعصاب، ولو عرف الإنسان كل شيء من تركيب بدنه لما أحاط بأسرار قواه الشخصية، ولما نفذ إلى حقيقة سر الحياة، فإننا لا نعرف الموسيقى إذا عرفنا كل دقيقة وجليلة من الأخشاب والمعادن والأوتار التي تدخل في تركيب العود والقيثار والبيان، وبعض علماء الحياة يراقبون تغذية الحيوان ويلاحظون مثلا أن العواطف تتأثر ببعض الأغذية فتنقص أو تزيد: لاحظوا أن الفارة التي يقل المنجنيز في غذائها تهمل صغارها ولا تعطف عليها، وأنه لحسن منهم أن يلاحظوا هذا، ويصلوا منه إلى زيادة حصة الحيوان من ذلك الغذاء، ولكنهم إذا جاوزوا ذلك فقالوا: إن عاطفة الأمومة هي مقدار معلوم من المنجنيز فهم مخطئون، وخطؤهم في هذا الرأي كخطأ القائل: إن نغمات الموسيقى أخشاب وأوتار، وإن نقص الغذاء لينقص حركة الجسم وحركة الدوافع الحية، ولكن مادة الغذاء وعاطفة الحياة شيئان مختلفان، ومن الواجب أن نعرف تركيب الجسم وتركيب كل مادة فيه، ولكننا لن نعرف الشخصية الإنسانية من معرفة هذا التركيب؛ لأن هذه الشخصية الإنسانية تكوين عجيب يعجزنا الآن لأن نسبر أغواره، ولكننا قد نلمحها لمحا إذا لاحظنا الفوارق التي لا نهاية لها بين إنسان وإنسان، أو بين شخصية وشخصية، فلكل إنسان صوته، ولكل إنسان ملامحه، ولكل إنسان خطوط أصابعه، ولكل إنسان كتابة لا يكتبها غيره، ولكل إنسان تركيبه في فصيلة الدم وخلايا البروتين، ولكل إنسان قابليته للصحة والمرض وللمقاومة والإصابة، وهذا كله في المحسوسات التي ندركها بأيسر نظرة. أما الخفايا فمنها ما يجهله الإنسان نفسه في وعيه الباطن أو في وعيه الذي لا يتضح للشعور، ونعلم أن أدواتنا العلمية لا تمكننا من كشف هذه الخفايا إذا علمنا أنها تكمن كلها في الخلية التي يولد منها الإنسان، وأن جميع الناسلات التي يولد منها النوع الإنساني يمكن أن توضع في فنجان، وسيبقى الإنسان محجوبا عن نفسه ما دام محجوبا عن أعماق هذه الشخصية، وما دام منصرفا عن جانب الضمير منها، أو ما دام متجها إلى الخلط بين مادة جسمه وبين العوامل الحية التي ترتبط بتلك المادة؛ لأن ألحان الموسيقى لا توضع ولا تفهم ولا تتذوق بمعرفة الأخشاب والأوتار. كلا، ولا بمعرفة العلامات والإشارات التي تضبط بها الألحان والنغمات، وهنا ينبغي أن نسأل: ما هي حقائق الضمير؟ والجواب: أننا لا نعرفها جميعا، وأن ما نعرفه قد يختلط عند بعض الناس للجهالة أو للهوى والضلال، ولكن ما نجهله أو نخطئ فيه لا نتركه ولا نحتقره، بل نثابر على طلبه لنصحح خطأه وننفي جهله، ولو أننا تركنا كل حقيقة وجهلناها وأخطأنا فيها لما بقيت عندنا معرفة بالمادة ولا بالضمير.
وهنا يضرب المؤلف مثلا بالطفل الذي يبيت ليلة عيد الميلاد وهو يحلم بالهدايا التي يضعها القديس نيقولادس - أو سانت كلوز راعي الأطفال - إلى جانب وسادته، فإن هذا الطفل ولا ريب يحلم بخيال، ولكنه خير من الطفل الذي لا يتخيل شيئا عن فرحة عيد الميلاد، ولا عن هدايا الغيب، ولا عن شوق الانتظار الذي يخامر جميع النفوس في أمثال هذه الأوقات، فما دام عيد الميلاد موجودا، فالطفل الذي يدركه على صورة من الصور - حسبما يستطيع في خياله وفكره - أصح إدراكا من الطفل الذي لا يدركه إدراك الصغار، ولا إدراك الكبار، وعلينا في هذا العصر خاصة أن نعلم أن معرفة المحسوسات الظاهرة لا تستدعي إنكار الغيب، ولا إنكار ما وراء المحسوسات؛ لأن علمنا بالمادة المحسوسة قد انتهى بنا أو كاد أن ينتهي بنا إلى عالم كعالم الغيب وراء المحسوس أو وراء المعقول.
Bilinmeyen sayfa