تأليف
نجيب محفوظ
المهد
في حومة الهموم لا بأس من التماس الرحمة في رحاب الأشياء التي أحبها القلب. هي أيضا حقيقة، غرست جذورها في الوجود، ومن حق الحران أن يجفف عرقه ويبل ريقه. •••
المرح بين يد حنون وحضن حنون، الغفلة السعيدة عن الزمن، نيل المطالب بالتمني، التمرغ في بستان الحرية قبل الوعي بها، مسرة الوقفة والعثرة والضحكة، والأسئلة الكبيرة تنهمر اعتباطا، ما أكثر ما يعجب وما يسر! في الانتظار سوارس والترام والتروللي، تخترق قضبانه النحيفة الحدائق. ومن الورق تصنع القوارب الصغيرة، وتعوم في الجداول لتمضي مع المياه الوانية إلى البلاد المجهولة، والهمس لأضرحة الأولياء بأعذب أماني القلب، والاشتراك في حشو الأسماك بالتوابل ودهنها بالدقيق الملتوت، وإذا سمع أذان الفجر في هدوء الليل طرب القلب لاقتراب الصبح واللعب، وعلى الوسادة يرقد تمثال الرحالة المصنوع من الصفيح الملون فيسأله هل بلغ بلاد الواق ورأى العجائب؟ والأحباب كثيرون من باعة جوالة وزفة السيرك ومواكب الفتوات والأقارب الريفيين وأساطيرهم عن العفاريت وقطاع الطرق، ولكن لكل حكاية نهاية سعيدة. •••
وأول العشق يوجد في دنيا الأطعمة، والحلوى بصفة خاصة؛ البيت يجود بالمهلبية والأرز باللبن، والسخينة، والحليب، والشهد، والعسل الأسود بالطحينة، ومن الفواكه البطيخ، والشمام، والبرتقال، والعنب، والنبق، والخوخ، أما الشارع فيختص بالدوم، والتفاح المسكر، وبراغيث الست، والملبن، والفطائر، وفوق القمة البليلة والكسكسي، الحلوى فاتنة في ذوبانها ، ساحرة في نشوتها وسريانها في الحواس، وهي أول تدريب لعشق الجمال. ويمضي الصغير بملاليمه لا يشبع ولا يرتوي، يستقبل بفيه المشوق النهم ما لذ وطاب، ويتوج جهاده بالكنافة والبقلاوة والجاتوه والشيكولاتة. •••
وفي كلمة أو كلمتين نعرف سر الدنيا والآخرة. حقا إن المخاوف كثيرة، الظلمات محدقة، ولكن الله رحمن رحيم، ينشر عنايته الإلهية، فتحيط بكل شيء، وقد يسر لنا مفتاح الأمن والأمان، بالآية نتلوها، بالصلاة نقيمها، بالصوم نتقرب به إليه، فتصفو الدنيا وتحلو، وتهب الخير والبركة، ويتقهقر إبليس وجيوشه، وننتظر هناك الجنة ونعيمها. ولا بأس من أن نستزيد من الأمن والأمان بزيارة ولي، أو تعليق تميمة بالطاقية، أو بحرق قليل من البخور. «ما أيسر السعادة في الدارين لمن يشاء!» •••
ودعوة للخروج في صحبة الأب أو الوالدين هي عز المنى، في بدلة بحار يسير تياها. يجلس الأب في حلقة من الأصدقاء، بمقهى الجندي بميدان الأوبرا، وينعزل هو وقدح الدندورمة في الطرف. ينظر إلى الميدان وحديقة الأزبكية، وتمثال إبراهيم باشا، وأحيانا يتابع أحاديث الصحاب ويستمع بانشراح إلى ضحكاتهم. لماذا يقهقهون وتتراقص شواربهم المجدولة الأطراف؟ لا يدري، ولكن وجهه يجاملهم فيضحك. ويسمع أيضا أن فلانا طلق زوجته، وأن شارع الخليج كان يستقبل مياه الفيضان في زمن مضى، ويتحول إلى ترعة تشق وسط القاهرة. ويسأل أباه: مثل الترعة التي في لونا بارك؟
فيقول الأب ضاحكا: أنت من يوم ما عرفت لونا بارك والسينما، حصلت في دماغك لوثة.
ورأى في ميدان العتبة الخضراء موقف حمير، وهما في طريق العودة إلى الحي العتيق، فاقترح على أبيه أن يركبا حمارين بدلا من سوارس، ولكن الرجل سخر من رغبته قائلا: الله يخيب ذوقك، لا فائدة من محاولة تمدينك.
Bilinmeyen sayfa