وفرح من فرح، وحزن من حزن. وكان عم محمد العجوز من المحزونين، إنه صاحب محل صغير لتصليح الأحذية وتلميعها. يجلس في عمق دكانه المستطيل وراء ماكينة الخياطة، ويعاونه ثلاثة شبان لمسح الأحذية، يجلسون صفا أسفل الكراسي المتحركة، وبما أنه في طريقي اليومي، فإني زبونه من قديم. وذات يوم غاب أحد العمال، ولما طال غيابه سألت عنه فأجابني العجوز بصوت لا يكون إلا لأصحاب الأفواه الخالية: سافر إلى الخليج لتحسين الأحوال. - وهل هم في حاجة إلى ماسح أحذية؟ - الأعمال كثيرة، والأرزاق على الله.
وعقب مرور شهر اختفى العامل الثاني جريا وراء الهدف نفسه. وبطبيعة الحال انصرف زبائن كثيرون عن المحل، وجعلت أنتظر دوري لمسح الحذاء كأنني في طابور جمعية استهلاكية. ثم ما لبث الثالث أن لحق بزميليه، فاضطر عم محمد العجوز إلى هجر ماكينة الخياطة، والجلوس لمسح الأحذية. سألته مرة: لماذا لا تستخدم عمالا جدد؟ - أين أجدهم؟ .. العثور على شغالة اليوم أصعب من العثور على وزير!
ومضت الأيام، وحطت هموم جديدة على الحلاقة، ومسح الحذاء ومغازلة الكتب والذهاب إلى المقهي. جاءت هموم الخيار، والطماطم واللحوم، والملابس، والتيارات المنحرفة، والمخدرات. وعم محمد يتقدم في السن ويمسح الأحذية بيد مرتعشة. وسرقنا الزمن حتى قال لي ذات صباح: هل تذكر عمالي الثلاثة؟
ولما أجبت بالإيجاب قال: رجعوا على أحسن حال، وجاءوني يعرضون علي خلوا لترك المحل!
سألته بقلق: وافقت؟ - المبلغ قيم، ويكفيني حتى آخر العمر؟
أدركت أن مسح الحذاء سيجشمني إرهاقا جديدا، مثل حلاقة الشعر، ومثل كل شيء، وتساءلت: ألا يوجد وسط بين الانغلاق والانفتاح؟ ألا توجد استراحة لذوي الدخل المحدود؟
الحزن له أجنحة
استحال صديقي شخصا آخر، عندما ماتت زوجته. كانت زوجته الثانية، والشقيقة الكبرى لزوجته الأولى التي رحلت مخلفة له ولدا وبنتا. لم يبدأ التفكير في الزيجة الثانية مدفوعا بقوة الحب، وإن بادلها الاستلطاف من بدء مصاهرته لأسرتها. بدأ الأمر بدراسة وتأمل ووزن للجدوى الاقتصادية؛ فهي قد جاوزت سن الحبل غالبا، وهي أرملة لم تنجب، وهي تحب الولد والبنت حبا صادقا، فتطوعت لتنقلهما إلى مسكنها ليلقيا الرعاية والحب. نشأت الفكرة والدراسة، وهمس بها أهل الخير، فوجدت ترحيبا من الطرفين، وتم الزواج بيسر وبأقل التكاليف. واستحال صديقي شخصا آخر. قال لي: لم أتصور أبدا أن الحياة الزوجية يمكن أن تجود بهذه السعادة كلها. تماثله في سن الأربعين، ولا يزيد جمالها عن درجة مقبول، غاية في اللباقة والذكاء وخفة الدم، وتحب الولد والبنت حبا صادقا.
وعند المناسبة يقول: أخاف أن أحسد نفسي، الولية دكتوراه في كل شيء طيب.
ويتقدم الزمن وتتغير أشياء كثيرة، وتستمر تلك السعادة الغريبة أو تتزايد، حتى تساءلت في حيرة: أي امرأة تكون تلك المرأة العجيبة؟!
Bilinmeyen sayfa