المسألة واضحة. لا يستطيع أن يرفض، ولا أن يتعلل بالعلل، فلينه هذا الموقف الكريه. وحرر له شيكا وهو متجهم، وأعطاه له، فتناوله باسما، وقام وهو يقول: عوفيت من صديق كريم.
فقال بلهجة ذات مغزي: إنه الأول والأخير!
فانحنى الرجل شاكرا، وغادر الحجرة بخطى ثابتة.
حدثه قلبه بأن اللعبة ستتكرر، وأن الابتزاز لن يقف عند حد. الماضي لا يموت. قد شيد قصرا من الرمال على أرض من السراب، لكن الأسرة البريئة التي كونها لا يجوز أن يمسها سوء. فليقتله إن ضيق عليه، ولينتحر بعد ذلك. إن الجثة التي ووريت في تراب الخلاء تهب الآن للتنكيل بقاتليها. وشرد طويلا في غم وكآبة، ثم قال وكأنما يخاطب الآخر: عد وقتما تشاء، ستعود - إذا عدت - إلى المصير الذي يستحقه كلانا.
الرجل الوحيد
أقدم إليكم نفسي. أنا إبليس. لا حاجة بي إلى مزيد، حكايتي معروفة لديكم من قديم. رسالتي في الحياة مشهورة كالشمس إلى يوم الدين. غمرتني الدهشة، ولفتني الحيرة مذ تناهى إلي أنه يوجد رجل شريف في بلدكم، رغم كل ما قيل ويقال. وتفاديا من سوء الفهم أصارحكم بأنه لا فضل لي ألبتة في تفجر طوفان الشر الذي أغرق الجميع. تكفلت بذلك كله بدع جديدة، لم تخطر ببالي قديما، وأنا أذعن لقدري؛ فأتحدى ثم أستمهل. فعلت هذه البدع في جيل ما أعجز عن فعله في أجيال وأجيال. كان إغواء رجل أو امرأة يقتضيني بذل الجهد، وتجريب شتى الحيل. لكني شهدت الناس يندفعون بجنون نحو الهاوية، ويتساقطون جماعات وطوائف دون أن تنبس شفتاي بكلمة، أو تند عني حركة. انغمس الجميع في الوحل وأنا أنظر مبهوتا مذهولا، ضاربا كفا على كف. أعترف بأنه عهد عظيم حقا، ونصر مبين بلا جدال، وكم تمنيت أن أكون علته ومحركه وصاحب الفضل فيه، ما هذا الذي يجري؟ من أين جاء هذا الفساد كله؟ أعترف مرة أخرى بأن الزمن قد تغير، وأنه يجيء كل يوم بالعجيب والمبهر. علي من الآن فصاعدا أن أدرس الاقتصاد والسياسية، وأتمرس بالخطابة والتصريحات، وألم بالعلوم والتكنولوجيا، والمقاولات ، والعمولات، ووسائل الهروب إلى الخارج. يجب أن أوسع من مجالي الثقافي وأغير وسائلي العتيقة، وإلا غلبت على أمري، وفقدت مسوغ وجودي، وانطوى عصياني الخالد بلا ثمرة أو أثر. وإذ أنا على تلك الحال من الكآبة والحيرة أبلغتني العيون بأنه يوجد رجل شريف في البلد. قالوا: اسمه محمد زين، مهنته قاض، مسكنه رقم 15 بشارع زين العابدين.
وفي الحال راقبته بعناية، مسكنه بيت قديم لا يليق بوظيفته. نشأ فيه مع الأسرة، ثم بقي له وحده بعد رحيل من رحل، فاعتبره سترا من الله في زمن السكنى في المقابر والخيام، متزوج، له ابن في الجامعة وابن وابنة في المرحلة الثانوية. يذهب إلى المحكمة مستقلا الباص، فيغادره قبل محطة المحكمة بمحطة حتى لا يرى، وهو يتملص من زحمة الركاب متأبطا حقيبته. يفتتح الجلسة في ميعادها المعلن عنه، ويتابع مناقشات النيابة والدفاع والشهود بعناية وتركيز عجيبين. عدا ذلك فهو لا يكاد يغادر بيته إلا حين الضرورة، ليواصل دراسة القضايا من ناحية، وتوفيرا للإنفاق من ناحية أخرى. بث روح العمل والتقشف في أولاده، فلا يتميزون بشيء عن أولاد الفقراء. عموما البيت تغلفه البساطة القصوى في مظهره وملبسه وطعامه. وزوجته تتصبر في امتعاض، وتروح عن نفسها بالتشكي حينا، وبلعن الزمن حينا آخر، لكنه يقول لها: مرتبي كله بين يديك، لا أستطيع أن أحول المعادن الخسيسة إلى ذهب، ولا أسأل عن الغلاء الضاري، وأخيرا فإنني أعيش في رحاب الله، وأصون ذاتي عن التلف حتى النفس الأخير.
رجل كبير ومسكين معا. تحدق به المغريات من كل جانب كالماء والهواء. إن عز علي الاقتحام فأمامي الزوجة والأبناء، ثم إنها أسرة واعية تماما بما يدور حولها. إليك حديثا دار على انفراد بين الرجل وامرأته؛ تقول: أي أرض هذه الأرض؟! أيكتب علينا كل هذا العناء لا لشيء إلا لأننا شرفاء!
فيقول بحزم قاطع: هذا نصيب الشرفاء في الزمن الجهنمي. - الجميع لصوص، أنت تعرف ذلك جيدا. - أي نعم، الجميع لصوص. - والنهاية؟ - لا أملك إلا الصبر.
إنه اعتراض على ما يجري، واحتجاج على الشرف في آن. الابنة نفسها تسمع الكثير، وتقرأ الصحيفة، وتقف طويلا أمام الحوادث. تتساءل: هل يتيسر الزواج في هذه الظروف القاسية؟ لن يتعذر علي أن أسوق إليها شابا غاويا، أو زميلة ذات خبرة بالشقق المفروشة. ولكن الشابين يقفان على حافة التمرد: اللصوص آمنون، يعبثون فوق القانون، القانون مسكين ولا يطبق إلا على المساكين. - الأبواب مفتحة لأبنائهم، ولهم وحدهم الفرص الطيبة. - ولنا المعاناة والكلمات الكاذبة المعسولة. - أبونا رجل شريف، وقاض شريف أضعف من مجرم غني.
Bilinmeyen sayfa