ورأت إلى جانب السرير منضدة قد انتشر عليها بعض أوراق وكتب، فأسرعت إليها وكلها عيون تبحث في تلك الأوراق خوف أن يكون فيها كتاب من حبيبها أو وصية منه شأن من يقدم على الموت، ولما لم تر شيئا من ذلك اطمأنت أفكارها قليلا، وأعادت الأوراق إلى أماكنها، غير أنها ما كادت تفعل ذلك حتى توقفت مبهوتة، إذ رأت بينها رسالة قد خطت بيد امرأة تعرفها، فحاولت أن تغالط نفسها، ولكن غلب عليها سوء الظن، فتناولتها بيد مرتجفة، وشعرت بتلاوتها رغما عما كان يخامرها من الارتباك والخجل لاقترافها جريمة سرقة الأسرار، فهي كما يأتي:
حبيبي عزيز
إني شاعرة بحبك لي، واثقة بصدق ودادك الذي باحت لي به نواظرك، ونم عليه اضطرابك وخفوق فؤادك أثناء تلاقينا، فثق أن محبتي تماثل غرامك، وإعجابي بك يعادل حسن سجاياك، وطيب خصالك، فتفضل بقبول تحية من لا تحيا إلا لأجلك ومن لا تجد سعادة إلا بقربك.
محبتك ماري
ولو أن صاعقة انقضت حينئذ على رأس روزه لكان تأثيرها أخف وألمها أقل، فإنها لم تأت على آخر تلك السطور حتى خارت قواها وتضعضعت حواسها، وشعرت في تلك اللحظة أن جميع آمالها قد هدمت وتزعزعت دعائم أمانيها، فأعادت قراءة الرسالة؛ لتتحقق صحة معانيها، فلم يزدها ذلك إلا حزنا ويأسا، فأعادتها إلى مكانها، وقد فهمت الآن معنى نظرات ماري وابتسامات عزيز، واتضح لديها السبب في فتور عزيز وتغيبه عنها في الأيام الأخيرة، وأدركت أن من تسعى في نجاته وتبذل المال لصيانة اسمه، وحفظ شرفه، قد خانها ومال إلى سواها لغير سبب.
فلبثت مدة واقفة ويداها مسترخيتان كمن به مس، والعرق البارد يقطر من جبينها، وسنان الحزن يدمي أحشاءها، وأخيرا رفعت يدها بالرسالة التي تحملها من أبيها، وألقت عليها نظرة مفادها أن هنا سعادة الاثنين وحياة الحبيبين، وأن تمزيقها يفقد الحبيبة حبيبها، ويحرم الخائن أمانيه كافة، فإن ماري إنما أحبت منه حسن الخلال - كما أوضحت في كتابها - فإذا ثبتت عليه التهمة زالت ثقتها منه، وأصبح مكروها لديها، ومحتقرا عند جميع الأصحاب، وحكم عليه بالسجن ومر العقاب.
ثم تنهدت من كبد حرى، وأجالت نظرها في أنحاء الغرفة، وقد بدت في أسارير وجهها علائم الإباء وعزة النفس، مع الأسف على آمالها التي حلت في واد غير ذي زرع.
ثم وضعت رسالة والدها على المنضدة، وسطرت على ظهر غلافها هاتين الكلمتين مذيلتين بتوقيعها: «أنت حر.»
ثم نزعت الذخيرة التي كانت قد أهداها لها، فجعلتها فوق الكتاب، وخرجت من الغرفة بعد أن أعادت على وجهها النقاب.
ولما اقتربت من الخادمين نهضا إجلالا لها، فدست في يد خادم عزيز قطعة من النقود، وأوصته بكتمان خبر مجيئها، وأن يقول لسيده عند عودته أن بعض الخدم أحضر له رسالة وهي موضوعة على مكتبه، فحنى الخادم رأسه علامة الطاعة.
Bilinmeyen sayfa