والحب أول ما يكون مجانة
فإذا تمكن صار شغلا شاغلا
في إحدى ليالي الخريف المقمرة كانت روزه جالسة في إحدى شرفات قصرها، وقد أسندت رأسها الجميل إلى ساعدها البديع التكوين، بينما كان النسيم يتلاعب بحلقات شعرها الحريري، فتميل في مجرى واحد ينتهي إلى الشاب الغريب الذي عرفته أثناء السفر، وتذكر ما توسمته فيه من حميد الأوصاف، وما عاينته من حبه، وانعطافه إليها، ثم نظرت إلى الطريق، وتمتمت قائلة: إنه لم يمر من هنا هذا المساء كالعادة، فلا يبعد أن يكون قد توجه إلى السودان ... ويلاه ... إلى الخطر ... إلى الموت، ولدى هذا التفكير تنهدت تنهيدا طويلا، وأمرت يدها على جبينها العاجي، ثم تذكرت وعده لأبيها بأن يزورهما قبيل سفره، فعادت إلى التعلل بالآمال وصممت إن هي رأته أن تفرغ جهدها في إقناعه بالعدول عن هذا السفر الشاق. ولكنها خافت أن ينم ذلك عن حبها، ويوضح مكنونات قلبها لشاب لم تعرفه إلا منذ عهد قريب، وفي ذلك من التسرع والطيش ما لا يليق بمن كانت مثلها قد ربيت في مهد الآداب والعلم، وغمرت بحنو والد كريم ليس له تعزية في الدنيا سواها.
وفيما هي على تلك الحال تتقاذفها عوامل الحب وتتنازعها علائم الشرف والأدب، سمعت قرعا خفيفا على باب حجرتها، فنهضت مسرعة وفتحت فإذا بخادمتها تقول: لقد أتى يا سيدتي رجل يدعى الأمير عزيز، وطلب أن يرى سيدي والدك، ولما كان غائبا أتيت أسألك إذا كنت ترومين مقابلته عوضا عنه.
فأبرقت أسرة روزه ورقص فؤادها طربا عند استماعها تلك البشرى، فأجابتها وهي تكاد تسقط إلى الأرض من تأثير المفاجأة: إني آتية، فدعيه ينتظرني في غرفة الاستقبال.
فذهبت الخادمة، وأعلمته بذلك وأسرعت روزه فارتدت ثوبا بسيطا، وأقبلت إلى حيث ينتظرها ذلك الضيف العزيز، وكانت تجهد عبثا في كتمان عواطفها البادية في وجنتيها الملتهبتين، وجبينها المرصع بقطرات العرق، ولما أبصرها عزيز نهض وحياها باحترام عظيم، ثم قال لها بعد قليل من السكوت: ها أنذا أتيت إجابة لدعوتكما الكريمة التي تفضلتما علي بها أثناء سفرنا من باريز، وقد كنت أرغب في زيارتكما منذ وصولي إلى مصر، ولكن حال ذلك دون اهتمامي بالحصول على إذن يرخص لي بمرافقة الحملة السائرة إلى السودان. - مرحبا بك يا سيدي، فإننا ما برحنا منذ قدومنا هذا القصر نتحدث عن لطفك، ونترقب قدومك كما وعدت، فهل أنت باق على عزمك من السفر؟ - أجل يا سيدتي ، وأنا آسف لكوني أجد نفسي مضطرا إليه، فقد كنت قبل مبارحتي فرنسا قرير العين، مسرور الفؤاد، أحسب أن السعادة والثروة والمستقبل محصورة في هذه الرحلة، ولكن لم ألبث بعد مفارقة فرنسا أن تغيرت أحوالي وانتهى بي الضعف إلى التردد والرغبة في العدول عنها، غير أني وجدت أخيرا أن لا بد لي من السفر مهما كلفني من الأتعاب والمشقات. - يتبين لي مما قدمت أنك أدركت صعوبة الإقدام على هذا العمل، وتصورت ما فيه من المشقة والخطر، فعسى أن تنتهي الحال إلى العدول عنه بتاتا. - إني لا أخشى الأخطار يا سيدتي، ولا أرهب الموت إذا كان ذلك في طلب الشرف والتقدم، ولكنني أخاف ما هو أعظم من الموت، وأرغب فيما هو أثمن من الحياة. - وهل من شيء أحب إلى الإنسان من الحياة؟ - إن الحياة لا قيمة لها عند المرء ما لم يمازجها بعض الهناء، ويظهر في سمائها نجوم الأمل، فإذا عزت عليه تلك الغاية وتسلط عليه القنوط، كانت الحياة في عينيه كالهباء المنثور، فيزج نفسه في لجج الأخطار غير متحسر ولا آسف على مبارحة الحياة. - إنك والحمد لله في مقتبل العمر، وزهرة الشباب، وفيك من الصفات الحسنة، والأخلاق الطيبة ما يكفل لك الترقي وحسن المستقبل، فما الذي حدا بك إلى هذا القنوط؟
فأجابها بنغمة رن صدى تأثيرها في فؤاد الفتاة وقال: إني شقي يا سيدتي. - لا تقل ذلك بربك، واعدل عن تحمل أخطار هذا السفر، والانخراط في تلك الخدمة التي ليست سوى ملجأ لذوي الهمم الضعيفة، الذين لا يرون من أنفسهم ميلا إلى التقدم، بل يفضلون احتمال مصاعب العبودية على متاعب الاستقلال، وهؤلاء هم في مذهبي من الجبناء الذين لا تكون آخرتهم سوى الخمول والكسل، وحياتهم سوى الذل وضياع الأمل، وعهدي بك منزها عن هذه الصفات، ميالا إلى طلب التقدم والعلا، فلك مجال واسع في ميدان التجارة، وأنت أهل لأن تكون تاجرا، ولا سيما أنك قد صرفت زمنا طويلا تتعاطى هذه المهنة، فسبرت غورها، وأحطت علما بجميع أسرارها، فصمم على الاتجار في هذه البلدة، وأنا أسعى عند والدي كي يكون لك أكبر مساعد يغنيك عن اقتحام أخطار هذه الحملة. - أشكر لطفك يا سيدتي، وإني أبقى أبد الدهر ذاكرا حميد أخلاقك، وإن مت ففي ساعة احتضاري أذكر حلاوة هذا الاجتماع، وإن عشت فرغبتي من الحياة التمتع بمثل هذه الدقائق التي أحسبها أسعد أوقات حياتي، ومع ذلك ألتمس منك أن تسمحي لي بعدم قبول ما تكرمت علي به من السعي وراء مصلحتي، إذ لا بد لي من السفر والتعرض لسيف البين في ساحات الوغى، فإما أن ألقى حتفي، وإما أن أعود رافلا بحلل النصر، ووسامات الفخر، وحينئذ أزيل بيدي ما يحول من العقبات بيني وبين منية فؤادي، فأستودعك الله يا ذات اللطف ويا معدن الكمال. ولي منة أرجوها منك، وهي أن تذكريني في أوقات الفراغ صديقا لا يلذ له سوى ذكرك، ومقداما لا يروعه الموت في سبيل الوصول إلى مقامك المنيع.
قال ذلك وتقدم نحوها مادا يده يلتمس الوداع، فخان الجلد فؤاد روزه عند مشاهدة هذا المنظر المؤثر، فبدرت من عينيها دمعتان حبستا لسانها عن الكلام، فمدت يدها المثلجة وهي تفكر فيما ستئول إليه الحال، وأنه بعد قليل سيرحل عنها وربما لن تراه فيما بعد.
أما الأمير فلما عاين منها ذلك التأثر استنار وجهه بابتسامة ممزوجة بالأمل، وجثا عند قدميها قائلا: إنني أشكرك يا سيدتي شكرا جزيلا على ما ظهر منك من الحنو والإخلاص، فقد أعدت السعادة إلى قلبي المدنف، ونزلت لآلئ دموعك بردا وسلاما على فؤادي الخافق، فسأبقى خاضعا لأمرك وأجتنب السفر إذا كان فيه ما يؤلمك، وأترك العالم وما فيه من الطمع والثروة والفخار، وألزم النسك والزهد، وإن كان ذلك يرضيك، فأنت دنياي ونعيمي، وفي يدك زمام سعادتي وشقائي، فأمريني بما شئت فأكون لك من الخاضعين.
فشعرت روزه حينئذ بالندم عما فرط منها من الضعف، الذي نم على سرائرها لدى شاب لم تعرفه إلا مدة السفر ما بين باريز ومصر، فجعلته يتمادى بحديث لم يكن قد طرق أذنيها، وخافت أن يرميها بالطيش والزيغ، ولحظ عزيز منها ذلك الارتباك، فخشي أن يكون قد كدر مشاعرها بحديثه، فأردف قائلا: إن حبي لك يا سيدتي عظيم جدا، ولكن احترامي إياك أعظم، وقد همت بحسن سجاياك، وكمال أوصافك أكثر مما ولعت بجمال طلعتك، ولطف حديثك، فثقي بأنك عندي بمنزلة الإله من الشعب، وبمقال الروح من الجسد، ولا تظني أني أقصد بحديثي أمرا أو أطمع منك بعهد، فأنت في عيني أسمى من أن تنطال إليك آمالي، وترفع إلى مقامك الرفيع أبصاري، فإني أحبك حبا لا يمكن وصفه، إذ إنه لا يرمي إلى غاية، وجل ما أشعر به لخدمتك بلا مقابل سوى أن تكوني سعيدة بعيدة عن كل ما يعكر صفاء حياتك.
Bilinmeyen sayfa