سأتحدث هنا عن أربعة من شعراء العراق تتجاوز منازعهم الشعرية الوطن والإصلاح هم الزهاوي والرصافي والشبيبي والصافي. فالأولان جابت شهرتهما الآفاق، والأخيران لا يزالان ضيقي الشهرة. وأحد الأخيرين يؤثر الإقامة على التجوال، والعزلة على الاجتماع، وفقا لمزاجه، والآخر، وقد رفع الأوتاد، يشد للرحيل، وقد يسبق في جوب الآفاق زملاءه جميعا.
إن الأربعة لمتفقون في ما يتفكك في نظمهم وخيالهم من قيود التقليد، ومختلفون روحا ومنزعا. ومختلفون كذلك في ما وفقوا إليه من التجديد معنى ومبنى.
لا ريب في أن الزهاوي والرصافي هما اليوم كبيرا شعراء العراق. وقد يختلف الناس في من من الاثنين هو أخلق باسم التفضيل، ولا يخلو الاختيار من الذوق الشخصي والتحيز. إنما الاثنان واحد في الحرية الفكرية، سياسيا واجتماعيا ودينيا. والاثنان واحد في الروح الوطنية التي تتسع لكثير من المنازع الشعرية، التقليدية والعصرية. والاثنان واحد في التحليق وفي الإسفاف. إلا أن الزهاوي يفوق الرصافي على الإجمال في علمه وخياله، والرصافي يبز الزهاوي في الصناعة والديباجة، الزهاوي في حملاته الإصلاحية مدفع رشاش، والرصافي سيف بتار. الزهاوي فيلسوف ينظم الشعر، والرصافي شاعر يهوى الفلسفة. وكفي بهذا من المقارنة والتعميم. •••
جميل صدقي الزهاوي.
جميل صدقي الزهاوي هو في السبعين من سنه الزمنية. وفي العشرين من سنه الشعرية. وهو في المصائب أبوها وخالها. على أن السنين والعرج والدرد، وغيرها من نوائب الحياة، لا تفل من عزيمته، ولا تؤثر على نشاطه، ولا تجرؤ أن تدنو من قلبه وروحه وصوته. فإذا كان لا يستطيع أن يقف كالرمح فإن في نبراته رماحا، وفي نظراته شرارا وفي نبضات قلبه إيقاعا لا يهن ولا يخل. وهو يحسن المجون، فيضحك حتى الجائع في جنازة، ويسترسل في الشجون فيبكي حتى إبليس. له لهجة الأنبياء، وما يصحبها من آيات، ومن آفات. وله في التجديف، لفظ شريف، وفي التهكم، كلمات تبكم. فهو يفتل إلحاد الخيام بشكوك المعري؛ ليصنع منها سوطا لشيطانه، ومطية لبيانه.
إن للزهاوي آثارا شعرية نفيسة. وأنفسها في نظري، وأحقها بطول البقاء، قصيدته، أو ملحمته الصغيرة، «ثورة في الجحيم» فإنه، وإن اقتفى فيها أثر شاعرين، عربي وغربي؛ ليقف في التقليد عن الفكرة الأصلية الأولى في زيارة الجحيم والنعيم. فهو يختلف عن المعري في «رسالة الغفران» وعن دانته في «الكوميديا الإلهية» فيطرق الموضوع من باب جديد، وقد جاءه كمسلم مشكك في إيمانه، وجاء في باللطائف والطرائف الفكرية والخيالية.
تبدأ القصيدة بوصف الملكين المنكرين، منكر ونكير، وقد زاراه وهو في رقدة بقبره، زيارة استنطاقية. فسألاه عن أمور كثيرة تتعلق بحياته وبدينه يوم كان في الأرض حيا، فجاملهما مجيبا على أسئلتهما بما يجيب المسلم، المؤمن بكل شيء - بالله وبالآخرة، وبالحشر والميزان والحساب، وبالجنة و- الجحيم؟ - كلا. فعندما وصف منكر الجحيم توقف الغريم بالمجاملة، فجهر بما كان في شبابه من إيمان بالنار، ومن شكوك فيها.
ثم آمنت ثم ألحدت حتى
قيل هذا مذبذب ممرور •••
ثم إني في الوقت هذا لخوفي
Bilinmeyen sayfa