فلو أنها اطلعت عليها لما كلفت نفسها النصيحة ولاستغنت عن كثير من الاقتراحات.
يرى ساطع أن في الجو المفعم بالتحيز والتحزب، وفي جهل اللجنة تقارير المعارف، برهانا ساطعا، على أن هناك حملة مدبرة عليه، فقد لفتت أنظار اللجنة إلى أشياء فيها نقص وعوج، وما أشير إشارة إلى النظم والتقارير المعدة لإصلاحها. هي تهمة يثبتها الأستاذ بالوثائق، ويؤيدها بالبراهين، فيضيع في ذلك أكثر ما تستحق من الوقت والاهتمام. إن هذه الناحية من رده تضعف موقفه في المبارزة. هي ناحية شخصية لا ينفع الاسترسال فيها، ولا يضير إهمالها.
لنعدها إذن إلى المسائل الجوهرية. يقول الدكتور منرو: «إن في التعليم طريقتين، الطريقة التي تصنع من الطلاب رجالا للدولة، والطريقة المعروفة بالتعليم الشعبي أو العام. وهذه لا تزال غير معروفة في الشرق.» هي كلمة حق. ولأمن الأستاذ ساطع عليها لو لم يفته - على ما أظن - معناها، فرأى الإسهاب لازما فجاءنا بعشر صفحات ليثبت بالبرهان أن التعليم الشعبي العام كان معروفا في الشرق - في البلاد الإسلامية - قبل أن وصل إلى الغرب بمئات السنين، ثم جاء بمثال مما تبقى من أثره وهو مدارس الملالي؛ أي مدارس المساجد. هذه المدارس الدينية التي يخصها الدكتور منرو ببضعة أسطر من تقريره، يشجبها الأستاذ ساطع بعد الإطناب، ولا يسأل الله لها غير - السلامة.
فهل تريد يا أستاذي العزيز، أن تبدل بخطتك الحديثة في التعليم تلك المدارس الشعبية المثلثة النعم - القرآن واللغة والحديث. لقد أسأت فهم الدكتور منرو، أو إنك بعدت في جولتك العلمية عن هدفه. إن معناه ليظهر لك واضحا جليا إذا ما قابلت بين المدارس الألمانية قبل الحرب مثلا والمدارس الشعبية الأميركية.
وثمة مثل آخر من الجدل غير المفيد. جاء عرضا في تقرير اللجنة ذكر خطة التعليم التركية «التي كانت تحتذي الخطة الفرنسية». فكتب الأستاذ ساطع عشر صفحات ليعلمنا بأن خطة الحكومة العراقية خالية من كل أثر تركي (ويعطينا اثني عشر برهانا على ذلك) وأن فيها شيئا من الأساليب والمناهج المصرية، وأنها «غير مصبوغة بصبغة لاتينية.» كأنما الصبغة اللاتينية نكبة من النكبات في التعليم.
وها قد وصلنا إلى الجوهري في الموضوع. إن جواب الأستاذ ساطع على ما قاله الدكتور منرو في التمركز الإداري لجواب سديد مفيد. إن التمركز الإداري على نوعين، الأول يتعلق بالمنهاج، والثاني بالأمور الإدارية والمالية. وقد اقتصرت مديرية المعارف على النوع الأول، وسعت لأن تشرك البلديات في الأمور الإدارية والمالية. بل اقترحت قانونا يجيز للبلديات فرض بعض الضرائب على الأهالي؛ لتصرف في تحسين أحوال المدارس. ولكن ذلك الاقتراح لم يعمل به لأسباب سياسية وغير سياسية.
وكذلك أدركت مديرية المعارف، قبل مجيء اللجنة، أن مدارس القرى تختلف عن مدارس العشائر، وأن المنهاج الرسمي بحذافيره لا يصلح لا لهذه ولا لتلك، وباشرت النظر في أمره. أما التمركز الإداري حتى في نظام المعارف ومنهاج التعليم، فما هو بتمركز صلب شديد. فالمهم المهم فيه أن بعض المواضيع الحيوية اللازمة لشعوب العراق كافة على السواء، ينبغي أن تعلم في كل مدارس العراق تعليما واحدا، وينبغي ألا يعلم ما يناقضها أو ما يولد روح التنابذ والتخاذل بين مختلف عناصر الأمة. هو ذا الأمر الذي تذبذبت اللجنة فيه، وجمجمت الكلام، ثم اقترحت الاقتراحات من أجل المدارس الأجنبية والطائفية. فكان موقفها مضطربا متزعزعا، وموقف الأستاذ ساطع وطيد الأركان.
أما مسألة التفتيش فبدل «الصلابة الشديدة» التي يذكرها الدكتور منرو متخوفا «نجد مئات من الوقائع التي تدل على الرخاوة الكثيرة» هذا ما يقوله مدير المعارف السابق. ومن أقام في البيت بضع سنوات هو أدرى بما فيه ممن جال فيه جولة قصيرة. هذه الحقيقة يعززها ساطع بالبرهان. فهو نفسه، لا أحد مفتشيه، رأى في مدرستين، في جوار بغداد - وكانت المسافة بينهما أقل من نصف كيلومتر - أن إحداهما كانت تعمل لأربع سنوات مضت بموجب تقارير وزارة المعارف، والثانية كانت تجهل بتلك التقارير. فأين «الصلابة الشديدة» في التفتيش؟
وها قد وصلنا في هذه المناظرة، إلى ما قد يكون مشكل التعليم الأكبر في العراق. فالغرض الأول من تأسيس المدارس في هذا الزمان هو إنشاء أمة عراقية عربية موحدة، وطيدة الأركان، ومشبعة بروح الوطنية التي تتجسد في الأعمال - في الخدمة والبذل - كما تقول اللجنة.
أما الأستاذ ساطع فهو يقول: إن اللجان والمعاهد الأجنبية لا تستطيع أن تساعد العراق في مثل هذه المهمة الوطنية. أما الأقليات فيمكنهم أن يساعدوا، ولا بد من أن يساعدوا، اللهم إذا تركوا وشأنهم، فلا يفسد عليهم الوطنية والحياة المرسل الأجنبي، والمهذب الأجنبي، والسياسي الأجنبي. وإن اقتراحات اللجنة في هذا الأمر تعرقل عوامل التضامن وتعوق التوحيد.
Bilinmeyen sayfa