مغزى اللبنة
لا يزال في بغداد من الآثار ما يعود بعضه إلى القرن الرابع للهجرة. سنعود بك ألف سنة إذن، لنريك ما نجا من صول العناصر، وغوائل، الزمان. وإنك لتعجب للرسم الطامس، والطلل الدارس، فضلا عن الصرح الذي لا يزال قائما سليما نافعا، إذا ما علمت أن مواد البناء في أواسط العراق سريعة التفكك والدثور. فالباني بالطين والآجر مهما كانت مهارته، ومهما كان من طموحه وإجادته في الهندسة والزخرف، لا يتمكن من تشييد الصروح التي يضمن لها طول البقاء الصلد الضخم من الحجارة. أما اللبن فهو مثل العامل باللبن - هو من التراب ولا يلبث أن يعود، مثل الإنسان، إلى التراب. لا خلود في غير الجلمود.
وأذكر؛ كذلك أن لبنة بابل التي لا تزال تشهد على مهارة صانعها وبانيها في عهد نبوخذ نصر، والتي لا تزال في حائط المعبد وشارع النصر، في ما اكتشف من المدينة الكلدانية القديمة كما كانت يوم أخرجت من النار منذ ألفي سنة ويزيد. إن تلك اللبنة أمست من التقاليد المطوية، والذكريات المنسية، في مصانع الآجر في بغداد والكاظمية، فقد تطورت صناعة الآجر في العراق تطورا سلبيا، لا أعني بهذا أنها رجعت القهقرى، بل أعني أنها سقطت سقوطا مفجعا. والبرهان على ذلك في ما نشاهد من أنواع الآجر القديم والحديث، أو بالحري في المقارنة بين لبنة بابل ولبنة طاق كسرى من جهة، ولبنة بغداد اليوم من جهة أخرى.
ومما يدعو للتفكر والاعتبار أن هذا التطور المعكوس دخل على شعب البلاد، في بعض نواحي الحياة، كما دخل على آجره. فلا عجب إذا قال العالم الأثري: هات اللبنة العراقية وخذ الحديث عن أهل الزمان الذي صنعت فيه.
وهناك بعض الحديث. كان البابليون مثلا يهتمون اهتماما عظيما بالزراعة والري، وكانت اللبنة البابلية منتهى الجودة والمتانة، ثم عرا الزراعة شيء من الإهمال في عهد الساسانيين، وغدت اللبنة الفارسية دون البابلية صنعا وإتقانا، ثم جاء العرب، فدخلت الزراعة - وصناعة الآجر - في دور الانحطاط.
لا نكران أن بعض الخلفاء العباسيين كانوا يعتنون بالزراعة عناية تذكر، ويستحبون من البناء ما كان فسيحا، وما اتسعت في طول بقائه فسحة الأمل. ولكن اللبنة التي كانت تصنع في زمانهم هي دون اللبنة الكسروية فضلا عن البابلية.
مسكينة هذه اللبنة العراقية العصرية، هذه اللبنة النضاحة المتملحة. فما كان بإمكان حتى الخلفاء العباسيين - أولئك الخلفاء الذين بذروا أموال الدولة في بناء الجوامع والقصور، كما بعثروها في الحروب - ما كان بإمكانهم أن يجبروا صانع الآجر على أن يستخرج من اللبنة كل ما فيها من الملح. أو أنهم جهلوا هذا الأمر، وما علموا أن ملح الأرض، في صناعة الآجر على الأقل، هو غير ما تصفه به الأمثال. هو يفسد، ولا يصلح وهذا هو السبب الأول في دروس آثار بغداد المشهورة وامحائها، إلا القليل منها.
كان البابليون يحسنون - ولا شك - استخراج كل الملح من الأتربة التي يستعملونها لصنع الآجر. وهذا هو السر في دوامها سليمة أكثر من ألفي سنة. فالملح في اللبنة يجعلها عرضة لفعل العناصر؛ أي نضاحة. وإنك لتراها في أبنية بغداد اليوم تنش بالماء، فيذوب تدريجا ما فيها من الملح، فتبدو بنخاريبها كقطعة من الإسفنج المتحجر. وتستمر هذه الحال حتى تتفتت اللبنة، فيتداعى الجدار، ويسقط البناء.
ولماذا لا تصنع اليوم اللبنة الشبيهة بلبنة بابل القديمة؟ سألت هذا السؤال أحد أصحاب المصانع خارج الكاظمية، فقال: «هذا التراب من كرم الله، واللبنة منه، وهي خير ما يصنع، والحمد لله.» قلت: وكم هي مدة الاشتواء؟ قال: «قدر ما يشاء الله. حينا سبعة أيام، وحينا عشرة، وحينا خمسة عشر يوما، وفي بعض الأحيان لا يشتوي قطعا. سبحان الله!»
كانت النساء العاملات في محفر كبير في جوار الأتون يمزجن قطع التراب بالماء، فقال لي وأنا أنظر إليهن وأرقب عملهن: «التراب والماء لا غير.» ثم انتبه فأدار بوجهه إلى الأتون وكمل كلامه قائلا: «والنار - التراب والماء والنار. وكلها من كرم الله، سبحانه وتعالى.»
Bilinmeyen sayfa