تراني أنتقل من قصة إلى قصة، ولا أبالي بما يقطع أو يوصل منها، مثل شهرزاد، كنا في الثوب الرسمي، فصرنا في بعقوبة. إيه بعقوبة جنة العراق. إن فيك يتراجع على الدوام صدى أغاريد الشعراء والأطيار، وهم يتغنون بجمال بساتينك، وطيب ثمارك - بعنبك وهو كالبلور والياقوت، بتمرك وهو كالعسل من قبلات الشمس، ببرتقالك الذهبي، بخوخك الذي تخجل ألوانه الزمرد والماس الأصفر والأرجوان.
ولكن أميرة بساتينك هي التي استعارها الشعراء ليزيدوا جمال ما في صدر الحسان. هي ذات الفم المدور المهيأ دائما للقبلات، هي التي تخبئ في صدورها كنوزا من لؤلؤ الحب وياقوته، هي أم النهود، وخالة ورد الخدود - هي الرمانة.
وقد كنا نجلس نحن الثلاثة حول طبق من الرمان، من العشر إلى العشرين، في ساعة من الليل تغبطنا عليها الملائكة والجن، ولا ننهض للنوم حتى نكون قد جردنا الأخيرة من ثوبها المصبوغ بذوب الياقوت الأصفر، وظفرنا بكنوزها كلها. وكذلك كل ليلة، قبل أن نصعد إلى الأسرة على السطح تحت ستر النجوم، كنا نجلس إلى مليكة قلبنا، ونتبارى نحن الثلاثة في حبها. وكان الكسباني السابق في أكثر الأحيان، يعض الخمسة ويلتهمها، الواحدة تلو الأخرى، قبل أن يكون قد فرغ أفنان من الرابعة. وكنت أنا الأخير دائما، الأخير إلا باللذة الهادئة المتأملة. فإذا كنت - أيها القارئ الفهيم! - محبا للرمانة مثلنا، فإني أنصح لك أن تجلس إليها في ساعة المساء الأخيرة، قبل أن تولي وجهك شطر السرير، فينعم بعد ذلك نومك، وتثور أحلامك.
عفوا، قارئي، ما بعدت عن المحنة التي كنت فيها إلا لأخبرك كيف قدر الله كشفها في حلم من أحلام الزمان. فقد جاءني الكسباني أمين في صباح اليوم المعد للمأدبة، وهو يحمل ثوبه الرسمي، ويقول: أمرت بأن أقدمه لك، ثم جاءني السيد أفنان بثوبه، وهو يظن أن من زاره ليلا، وأمره بأن يكشف محنتي، هو نسيبه الجليل الذكر مولانا «عبد القادر».
أما ثوب أفنان فقد كان الجسم مرتاحا فيه أكثر مما يلزم - كان واسعا علي، فضاحا لأمري. وأما ثوب الكسباني فقد أحسست أني فيه مرزوم رزما محكما، فيخيل للناظرين أنه صنع لي في عهد الشباب. فاخترت من الفضيحتين أصغرهما، وأحبهما ذكرا إلي. وبما أن خليلي كانا من المدعوين مثلي فقد تعاهدا صباح ذلك اليوم على أن صاحب الثوب الذي اختاره يحرم نفسه أطايب المأدبة وخمورها. فطأطأ الكسباني رأسه للقدر، وأصيب - وفقا للعهد - بصداع شديد يحرمه شرف الحضور، فأبلغ خبره بالهاتف، فقبل رئيس التشريفات العذر، وغفر الذنبين، ذنبه وذنبي أنا ... بعد أن رآني في ثوبه!
كن حكيما إذا، ولا تنس إذا ما زرت بغداد ثوبك الرسمي الكامل، فقد لا تتوفق إلى رفيقين مثل الكسباني وأفنان، وقد لا يكونان، إذا توفقت، ممن يسكرون بالرمان، ويحلمون بعد ذلك الأحلام التي يتجلى فيها أولو الكرامات من الأولياء. •••
أما وقد ذكرت الرمان وبعقوبه - والحديث ذو شجون كما يقال - فإني خاتم هذا الفصل بما لا يخرج عن موضوع التجوال، وإن كان خارج المدينة، فمن شارع المستنصر نذهب بك الآن إلى بعقوبة. وسنسمعك هناك، في دار صديقنا الأبر «فخر الدين آل جميل»، ما ينسيك ما أسمعناك من صياح تلك التي ترعى على الدوام نجوم الليل «وتون». فقد دعانا للعشاء، ووعدنا - وهو الجميل المحب للجمال - بشيء من محاسن الفن صوتا وشكلا.
وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون .
خرجنا من بغداد، والشمس وراءنا تدنو من الغروب، والأفق أمامنا خط من ذوب قلبها أصفر رقيق، يفصل بين سماء جامدة في زرقتها، وأرض هامدة غبراء. وهذا السهل السوي الفسيح الفارغ هو درب في كل مكان، وهو للسيارة ميدان. لا زرع فيه ولا كلأ، غير بقاع هنا وهناك أخضرها مائل إلى الاصفرار، وأصفرها كالغبار. وهذا قطيع من الغنم يعلل النفس بها. وهاك آخر يجتز ما لصق بين الحصى والتراب منها.
لا شيء جميل حتى في القوافل التي مررنا بها، وهي سائرة إلى بلاد فارس أو قادمة منها. ولا رفيق لنا في الطريق غير الغبار والشمس، أرض بلقع يملها الحادي، ويقنط منها حتى القطا، ولا يتحمل مشقتها مشيا غير الحاج العجمي الذي يجيء زائرا النجف. بل هو يجتازها فرحا؛ لأنها مدنية إليه مشهدي علي والحسين.
Bilinmeyen sayfa