والزانية! - ها هنا وقفت، وما كان الناصري ليحلي في نفسي مرارة التأمل ... «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر» ... وها هنا أيضا ينهزم المثل الأعلى ... قال المعري:
الشر والخير ممتزجان ما اقترفا
وكل شهد عليه الصاب مذرور
شارع المستنصر
إن للمدن كما للناس روحا حية ناطقة ثابتة، وبكلمة أخرى: إن روح المدينة هي البارزة الممتازة من صفاتها، تلك الصفات التي تبدو في أكثر مظاهر الحياة والعمل، فتسمها بوسمها الخاص، وهذه أمثلة من بعض ما عرفت من المدن الكبرى. إن روح نيويورك التبجح، فكأنها تقول: كل ما عندي هو مثل هذه ناطحات السحاب، كل شيء ضخم علي عظيم! وروح لندن الأناقة - كل ما عندي مشمول بالتدبير والترتيب والتنظيم، وروح باريس الزهو والمرح - ومن مثلي حسنا وبشرا وازدهارا ؟ وروح برلين المهماز وخوذة الفولاذ - ألمانيا فوق الجميع! إلا أن في ألمانيا مدينة وادعة جميلة هي ميونيخ، وإن لها من الفنون روحا سامية. وليس بين المدن الإسبانية مثل إشبيلية المركبة روحها من نقيضين، القداسة والقمار.
أما في هذا الشرق العربي فكل مدينة من المدن الكبيرة أضحت اثنتين: القديمة وهي ذات روح تعرف وترى، والجديدة لا روح لها ترى أو تعرف، أو أنها مزيج من الشرق والغرب، فللقاهرة مثلا روح تتجلى في الصحافة وفي ما حول الأزهر من الأحياء، هي روح زغلول والوفد والحوقلة - البلاد وفدية، والحكومة إنكليزية! لا حول ولا قوة إلا بالله، وروح القدس، داخل السور، هي الأقصى والمبكى والطور - نحن العرب ويلنا من إسرائيل، أنا إسرائيل ويلي من العرب - أنا بريطانيا، خيري في الويلين! أما دمشق فروحها روح المرجة والكتلة - حركة دائمة، ووطنية هائمة، وتمرد لا يزول ما دام الجنود السود يرون في المرجة، ويرعون في مروج الوطن. وأما بيروت فلا روح لها اليوم بارزة، على ما فيها من معاهد العلم، غير الخلاعة والخنوع وحب المال - هات الفلوس، وخذ العروس، وعفر وجهك أمام صاحب «الكابوس».
وما هي روح بغداد؟ لا تقسم بغداد اليوم إلى قسمين ظاهرين بالمعنى الذي ذكرت. فهي لا تزال مدينة شرقية واحدة، يتخلل بعض أحيائها، شيء من اختلاط الشرق بالغرب. إنما قديمها كثير الأشكال والألوان، فيصح أن نرمز إليه بإله من آلهة الهندوس، روحه تبدو، ولا تتوحد، في رءوسه وفي أيديه المتعددة.
إذن روح بغداد أعجوبة من الأعاجيب. فهي الحوقلة والاستسلام، وهي الشغب والتمرد، وهي الورع والتقوى، وهي التخنث و«التشلجي»، وهي في هذا الزمان النفط! وقد يصير النفط في المستقبل روحها الكيماوية العظمى، روحها المركبة في بوتقة هذا الزمان البراق الخناق.
هات شتات هذه الروح نعرضها للبحث، فنتحقق طبيعتها ومنهجها، إلا أنني لا أجزم في ما نؤمل من إدراك واكتناه، فقد لا أوفق لغير العرض، فأترك للقارئ الاكتناه. لقد سبق أن ألمحت إلى بعض صفات المدينة، في ما وصفت من أحيائها، ومن شارعها الأكبر الجديد، شارع الرشيد، وسأزيد القارئ علما بما هو عريق في القدم، عميق في الجدة.
إلى جانب شارع الرشيد، بينه وبين دجلة، شارع هادئ وادع، جدير بالطواف والاستكشاف، هو شارع المستنصر الذي ينشأ عند رأس الجسر، فيمتد شمالا في خط شبه قويم، وينتهي عند شارع المأمون، ذلك الشارع القصير العريض الذي يرضى بقسمته من المدينة، فيصل شارع الرشيد بالجسر الثاني، ويفتح قلبه للسوق المسقوف شمالا منه الذي يدعى سوق السراي، وإذا ما وقفت في هذا الشارع القصير العريض ترى نفسك في ظل السلطات المادية؛ أي الحكومة والتجارة، أمامك السراي، ووراءك الجمرك وبيوت التجارة والشركات والبنوك. وهناك إلى يمينك مهد للفن صغير هو المتحف العراقي، وفي السوق المسقوف - سوق السراي - مرجة للأدب خضراء صفراء هي الدكاكين التي تباع فيها الكتب والمجلات.
Bilinmeyen sayfa