ما رأيت في جمال بغداد - وما أقله بعد نهر دجلة وضفتيه! - مثل ذاك الجمال الفني في قباب جوامعها، ومثل هذا الجمال الروحي تحت القباب. وليس الذهب في حاجة إلى التذهيب. سأمسك اليراع في الإفاضة إذن، وأكشف لك ناحية مجهولة من نواحي الفن في صناعة كادت تضمحل. أنت تسمع - وقد تكون عالما - بما يسمونه خزف الرقة. وقد لا تحتاج إلى من يزيدك علما بما كان للعرب في الأندلس من المهارة والذوق في صناعة الآجر الملون المصقول، الذي كان يدعى الزلاج (زلج: زلق). إنما المدهش أن لا يبقى في بغداد لهذه الصناعة أثر يذكر.
تعال ندخل المعمل في جامع الحيدر خانة، وذلك الجمال في القباب والمآذن إنما هو منه. ها هنا المدهشات، وخصوصا لمن كان منذ ساعة في سوق النحاسين، وأول المدهشات النظافة التي لا نتوقعها في من يلعب بالتراب والأصباغ. النظافة ثم الترتيب ثم الإتقان. ورب المكان هو رب هذه الفضائل كلها، التي ورثها، كما ورث الصناعة، عن أبيه، عن جده، إنما لا يذكر إلى كم جيل من آله تعود، وما يدريك! قد يكون الأستاذ من سلالة أحد أرباب هذه الصناعة في الرقة أو في الأندلس.
هو شيخ في العقد السادس، ومعه ابنه يتعلم ويساعده ليحسن استخدام الإرث الثمين، وإنه على سنه يعمل مجدا فيشرف على كل فرع من فروع هذه الصناعة التي تبدأ بخلط التراب والرمل، وتنتهي بالاستواء. وهو نفسه يصنع الأصباغ، وجلها من الأزرق اللازوردي والأصفر العصفري، وليس فيها شيء مجلوب. ليس فيها أصباغ كيماوية غير التي يصنعها من التنك والزجاج، إذا صح أن يدعى هذا المزيج مزيجا كيماويا.
أذن لنا بالدخول إلى غرفة الأصباغ، وفيها ركام من صناديق التنك، والقناني المكسرة، والرصاص. وفيها آلة هي كالجاروش من حجر، وأخرى من حديد، فبعد أن تجرش المواد وتطحن، تذاب بالماء، وتوضع في مواعين فوق النار لتغلي، ثم تنقل إلى الشمس لتجف، فتفتت بعد ذلك وتمزج بالزيت فتغدو صباغا.
ومن مدهشات هذا المصنع أن رجلا واحدا يقوم فيه بالأعمال الأساسية كلها. فهو الطيان، وهو الصباغ، وهو الرسام الفنان. ولا بأس برسومه التي تشتمل على أشكال هندسية، وأخرى نباتية. وهاك السلم في عمله. فبعد أن تصنع الآجر وتشوى، يصبغها، ويرسم عليها الرسوم، ثم يعيدها إلى النار، فيعمل اللهب بالألوان عمل الشمس بالغيوم المذهبة والمفضضة. فيذيب اللون الواحد فتبدو في حواشيه ألوان منه فرعية ناعمة ناعسة. وبكلمة أخرى تتشبح الألوان فترق، فتظن، وأنت تعجب بها، أنها دهنت بريشة فنان ماهر.
أما لون الرسوم في بناء القباب والمآذن بهذا الآجر فهو غالبا مركب من الأخضر أو الأزرق على صفحة من الأصفر الذهبي. أو أن الخطوط والأهلة من هذا الأصفر تتخلل أحد اللونين الأولين.
بقي أن أقول إن هذه الآثار الفنية في قباب الجوامع ومآذنها هي، على ما يظهر، ثابتة طويلة الأجل، فلا الشمس ولا العوامل الطبيعية الأخرى تضر بألوانها. ولا عجب، فقد دخلت النار مرتين. وإذا ما صال الزمان على تلك القباب في المستقبل فهدمها، فإن الأثريين ليجدون الآجر في الردم وتحت التراب، كما يجدونه اليوم في حفائر سلوقية وأور، فيغسلونه، فتبدو الألوان فيه وقد أكسبها الزمان مسحة عجيبة. كذلك فعل الزمان في البلاط الذي كان يزين قصر الزهراء بقرطبة، ذلك البلاط الجميل، الفريد بتشبح ألوانه المعروضة أمثلة منه في المتحف البريطاني بلندن، وفي قصر اللوفر بباريس. •••
ومن الصناعات التي اشتهر بها العرب في الماضي، ولا يزال منها أمثلة في بغداد، صناعة الحفر في الخشب، وهي عربية بحت، وصناعة الزجاج المركب في إطارات مذهبة، وقد أخذوها عن الفرس. وفي بغداد اليوم بيت قديم، يقال إنه سلم من النكبة الأخيرة؛ أي إنه يتجاوز المائة سنة، فيه من الصناعتين أثر حسن سليم. وفيه أيضا ما يعيد إلى الذهن، في هندسته وفي زينته، صورا وذكريات لتلك الدور التي خلدت في كتاب ألف ليلة وليلة.
على أن مدخل البيت أو صحنه الصغير، يزيل ما في النفس من بهجة الشوق والخيال، فقد صدمنا لما دخلنا بتجارة من التجارات الحديثة، يتمثل دور منها في حلقة من النساء جالسات على الأرض حول ركام من جوز العفص. وهذا الجوز يجيء من الغابات في جبال الموصل، فتنقيه النسوة العاملات، ويهيئنه للشحن إلى لندن وبرلين؛ لتصنع منه هناك الأصباغ. التجارة في الباب.
ولكنا صعدنا إلى الطابق الثاني مسرعين، فإذا نحن في غير بغداد اليوم. أجل، قد انتقلنا انتقالا عجيبا إلى دار من دور بغداد القديمة، التي نجت من النكبات كلها.
Bilinmeyen sayfa