المجد في صهوات الخيل مطلبه
والعز في ظبة الصمصامة الخذم
ولهذا كان عرب الجاهلية ينزعون أسنة رماحهم في الشهر الحرام وينقطعون عن الحرب والصدام. وكانوا هم وغيرهم من الأمم يتهادنون إذا ملوا من ضوضاء الحروب ليتبصروا في إطفاء نارها. وكان الخصوم يلتقون اليوم في ميدان الوغى، ثم يتهادنون في الغد ويتصافون ويقيمون على ولاء وتصاف إلى أن تنقضي أيام الهدنة، فيعودون إلى المبارزة والمناجزة.
وكانت أخلاق العرب والإفرنج في العصر الذي حدثت فيه الحوادث التالية قد تدمثت باختلاطهم بعضهم ببعض في الشام والأندلس، وانتشر بينهم حفظ الذمام ورعاية العهود، فإذا تهادنوا أبعدوا الغدر عن خيامهم واعتصموا بالمروءة والشهامة إلى أن تنقضي أيام الهدنة، وعلى ذلك سار الأمير والفارس نحو الينبوع وكل منهما آمن غدر رفيقه. وكان فرساهما متعبين من المجاولة، وأشدهما تعبا فرس الفارس الإفرنجي؛ لأنه لم يكن معتادا على الحر ولا على المشي في الرمال، فترجل عنه وقاده بلجامه، فالتفت إليه الأمير وقال له: «نعم ما تفعل؛ لأن جوادك كريم لا يحسن التفريط فيه، ولكن ما هذا الجواد لمثل هذه الرمال، ألا تراه يغوص إلى الوصيف في كل خطوة يخطوها؟» فاغتاظ الفارس من كلامه وطعنه على جواده، وقال له: «إن هذا الجواد قد سار بي فوق بحار أوسع من هذا البحر، ولم تبتل شعرة من قوائمه.» فرمقه الأمير بعين المرتاب وقال له: «صدق المثل القائل: «أصغ إلى الإفرنج تسمع الغرائب».» فحملق الفارس فيه وقال: «أترتاب في قول فارس مجرب؟ ولكن لا عتب عليك؛ فإنك تجهل حقيقة قولي، ولولا ذلك لانقضت مدة المهادنة بيننا، فاعلم أنني أنا وخمسمائة فارس سرنا على الماء بخيولنا أميالا عديدة وكان الماء جامدا كالبلور؛ لأنه كما أن الحر يلطف التراب في هذه البلاد حتى يصير سهل الانهيار كالماء، فالبرد يجمد الماء في بلادنا حتى يصير صلبا كالصخر، ولكن دعنا من هذا الحديث لأن ذكر بحيرات بلادي يهيج أشجاني ويشدد علي وطأة الحر في هذه القفار.» ثم وصلا إلى الينبوع فأشغلهما طلب الراحة عن استطراد الكلام.
من غرائب الله في خلقه أن ترى رجلا صالحا بين قوم أثمة، كما كان صالح في ثمود. ولكن ما ذلك بأغرب من وجود هذا الينبوع في تلك القفار، والظاهر أن عين البشر اكتشفته لما كانت البلاد في بسطة من العيش، فبنوا عليه قبة لكي لا يجف بحر الشمس ولا تسفي الرياح الرمال عليه. وقد تشعثت هذه القبة وتهدم بعضها، ولكن بقي منها ما يقيه من أشعة الشمس وثوران الرمال، والماء يصب من الينبوع في جرن من المرمر خدشته مخالب الدهر، ولكنه لم يزل شاهدا على أن كثيرين من أبناء السبيل قد ارتشفوا من مائه، ثم يجري من الجرن فيسقي ما حوله من النخل والنبات، فيجعل تلك البقعة جنة في جهنم الصحراء.
ولما بلغ الفارسان الينبوع نزع كل منهما لجام فرسه وسرجه وسقاه وتركه يرعى في ذلك المرج، ثم شربا وجلسا على بساط من العشب، وأخرج كل منهما مزوده وجعل يأكل وينظر إلى رفيقه ويتأمل في بنيته ليعلم مقدار قوته.
وكان الفارس الإفرنجي طويل القامة ضخم الأعضاء، أشقر الشعر أجعده، أبيض الوجه أحمره، أزرق العينين واسعهما، كبير الشاربين محلوق اللحية، دقيق الأنف صغير الرأس، تلوح على وجهه أمارات الشهامة والأنفة وعزة النفس. وكان الأمير العربي فوق الربعة في القامة، صغير العضل مجدوله، خاليا من آثار الترهل، كأنه عظم وعصب، أسود الشعر أجعده، مشحوذ اللحية دقيق الأنف، أسمر اللون أسود العينين براقهما، على وجهه أمارات المهابة وعلو الشأن.
وكان طعام الفارس من لحم الخنزير المقدد، وشرابه من النبيذ المعتق. وطعام الأمير من الخبز والتمر، وشرابه من الماء القراح. فالتفت إلى الفارس وقال له: «لا يحسن بمن يحارب حرب الأبطال أن يأكل طعام الوحوش، فلو وقف بك يهودي لاشمأزت نفسه من رؤية هذا الطعام الذي تلتهمه كأنه من سدرة المنتهى.»
1
فعجب الفارس من هذا الكلام وقال له: «إننا - نحن معاشر النصارى - لنا من الحرية ما ليس لليهود.» قال ذلك وكرع كرعة من الخمر. فقال الأمير: «أتأكل كالوحوش وتشرب ما تعاف الوحوش شربه وتدعو ذلك حرية؟!» فقال الفارس وقد قدحت عيناه الشرر: «اعلم أيها الغبي أن عصير الكرمة يفرح قلب الإنسان، وينفي عنه الهموم والأحزان، فمن استعمله بالاعتدال يشكر الله عليه، كما يشكره على الخبز الذي لا غنى عنه.»
Bilinmeyen sayfa